أثار خروج التلاميذ في أكثر من مدينة وقرية احتجاجا على منظومة التدبير المدرسي "مسار" استغراب الكثيرين، وجعل المنشغلين بالتعليم وغير المنشغلين على حد سواء يطرحون الأسئلة حول دواعي وأسباب هذا الحَراك المفاجئ. فالمنظومة تهدف إجمالا، حسب مديرية إدارة منظومة الإعلام التابعة لوزارة التربية الوطنية، إلى "إرساء طرق عمل حديثة للتدبير والتواصل بالمؤسسات التعليمية من خلال مكونين أساسيين: إنجاز المنظومة المعلوماتية لتدبير المؤسسات التعليمية، وتطوير الخدمات الإلكترونية لفائدة المتعلمين"، ضمن خطة شاملة لإدراج تكنولوجيا الإعلام والتواصل في المنظومة التربوية مواكبة للتطورات الحاصلة في الميدان على المستوى العالمي القائمة على مبدأي الشفافية والحكامة. على هذا التطور وقف كل الفاعلين في القطاع بتقدير، لا سيّما أطر الإدارة التربوية المثقلة ما زالت بالعمل الوَرَقي، ورحب غالبيتهم، بعد مرحلة تردد واستفسار حول تقسيم الأدوار بين الأطر الإدارية وأطر التدريس، بالبرنامج. إذ من حسناته على سبيل المثال، أنه صار في إمكان الحارس العام أو المدير بضغطة زر طبع شهادة مدرسية، أو الحصول على عدد من العمليات الإحصائية التي تهم عطاء التلميذ وسيره الدراسي. كما بات الأستاذ منسحبا من حساب المعدل لكل تلميذ، يقوم بذلك البرنامج بشكل آلي بعد أن يدرج فيه الأستاذ نقط التلاميذ، مثلما يقوم البرنامج بحساب المعدل العام بعد أن كان شغلَ الحارس العام. ومن مزاياه أيضا أن توزيع التلاميذ على الأقسام في بداية السنة الدراسية يتم بشكل آلي بناءً على معدلاتهم السنوية، مما يخلق توازنا مُهما بين الأقسام. نعم، يُتيح البرنامج للإدارة التربوية بمعية الأساتذة، ضمن مجالس الأقسام التي تنعقد في خواتم السنة الدراسية، نقل التلميذ من قسم إلى آخر، لكن هذه مسألة أخرى، وهي ثغرة، تتعلق بدقة التشريع المدرسي، ومروءة المدرسين والإداريين، والواقع التعليمي. كما أن هذا التوازن ليس مثاليا، فهو لا يراعي الجوانب النفسية، والأعمار، والتفاوت بين الأسر من حيث المستويين المعرفي والاجتماعي، وكفاءة الأستاذ، لكن هذه قضية تعالج بمعالجة المنظومة التربوية ككل. ومن المزايا أيضا أن الآباء والأمهات يمكن أن يواكبوا سير أبنائهم وبناتهم الدراسي ولو كانوا يشتغلون في قارة أخرى، تُوفر لهم هذا شبكةُ الأنترنيت. على النقيض مما يحصل حاليا إذ يضطر بعض الآباء خاصة في المدن الكبرى للغياب عن العمل للاطلاع على واقع الولد السلوكي والمعرفي، علما أن زيارات أولياء الأمور المتتالية للمؤسسة المدرسية وكثافتُها تزعج المدرسينَ ولا تمرّ دائما بسلام، وتُشغِل موظفي الإدارة التربوية عن مهامهم الرئيسة المتمثلة في التنشيط التربوي والإشراف على العملية التربوية بكاملها. وبالنسبة للمراقبين التربويين (المفتشين سابقا)، فصاروا في غنى عن الذهاب إلى المؤسسات التعليمية لأبسط الأسباب... وعلى الجملة، أصبحت العملية التعليمية مكشوفة إلى حد كبير في أبعادها الشكلية، وهو أمر مطلوب بالنظر إلى أوضاعنا الاجتماعية والأخلاقية، حبذا لو عُمِّم وشمَل قطاعات أخرى لإضاءة بعض زواياها المظلمة. فلم الاحتجاج والتظاهر بهذا الشكل وفي مختلف المدن؟ لقد تضافرت عوامل أربكت السير العادي للدراسة في المؤسسات التعليمية وشتتت الأذهان. فالبرنامج دُفِع للإدارات التربوية فجأة وفي غمرة الاستعداد للاختبارات الموحدة. والتكوين الذي خضع له الحراس العامون ارتباطا بالبرنامج غير كاف، إذ لم يتجاوز بضع ساعات موزعة على حصتين أو ثلاث. وفيما يخص مسك النقط وإدراجها في البرنامج، تظل أهم العوائق ذات طبيعة تقنية، كرداءة الآلات الإلكترونية الموجودة في أغلب المؤسسات التعليمية، وضعف صبيب الأنترنيت. كما أن غياب عطلة بينية فاصلة بين الدورتين الدراسيتين أثارت استياء المدرسين والمتعلمين. وثمة عامل يمكن اعتباره نقطة سوداء في البرنامج والذي رفع من غضب التلاميذ ذاك الذي يتعلق بغياب التلميذ في أحد فروض المراقبة المستمرة. إذ كيفما كان مبرر الغياب يمنح البرنامج التلميذ صفرا في الفرض. ويبقى الحل الوحيد هو إجراء فرض خاص بالتلميذ الذي غاب. لكن المشكلة هو إذا امتد غياب التلميذ - لمرض مثلا - خارج الفترة الزمنية المخصصة لمسك النقط في البرنامج، أو لم يستطع الأستاذ إجراءه لعلة ما، علما أن أمر اختبار التلميذ وحده في أي ظروف كانت ليس سهلا، ولا يتاح دائما، ويُلقي مشكلا بيداغوجيا. هذا دون الحديث عن مشكلة عويصة ستطرح مستقبلا وقد يكون انتبه إليها البعض، وهي مشكلة القن السري الخاص بالمدير في حالة ما حصل عليه أحدهم بطريقة ما، فتسنح له فرصة التلاعب بالنقط وتغييرها لفائدة ... "من يدفع أكثر"! يتبين إذن أن الوزارة ارتجلت تنزيل البرنامج، واختارت أسوأ الأوقات لذلك، وانفردت بالقرار كعادتها في شأن مصيري كان يقتضي إشراك جميع النخب ذات الصلة بالموضوع والفاعلين التربويين وضمنهم آباء وأمهات التلاميذ. كما غاب التواصل مع الأطراف المعنية، وسادت التعليمات الفوقية مكانه، وحضر الاستعجال. بينما كان متاحا أن تكون هذه السنة تجريبية فقط، سنة للتوضيح والشرح وسدّ الفجوات والثغرات، بتطبيق البرنامج في بعض المؤسسات في الوسطين الحضري والقروي، وفي السِّلْكين التعليميَين، بمناطق متباينة جغرافيا واجتماعيا وثقافيا، قبل التعميم والتنزيل النهائي. رب قائلٍ، وهل يبرر كل هذا خروج التلاميذ في مظاهرات حاشدة في ربوع الوطن، ويسوّغ مقاطعة الدراسة ورفع شعارات قوية تجاوزت بعضها "المسار"؟ لا وألف لا! لكن الذين سيّسوا القضية ومنهم الوزارة الوصية قائلين إن التظاهرات حرّكتها أياد خفية ضيّقوا زاوية الرؤية وتنكّبوا الواقع. فلا يعدو زعمهم أن يكون دفنا للرأس في الرمال، إذ ليس في تقديري يستطيع أي تنظيم سياسي مهما بلغ تغلغُلُه في أوساط الشعب دفعَ التلاميذ للتظاهر في مختلف أرجاء البلاد. إن هذا الزعم لا يلبث أن يتهاوى أمام الحقيقة المرّة المفضوحة التي غدا يتحدث عنها التلاميذ أنفسهم خاصة في المستوى الثانوي، وأكدها التقرير الأخير الصادر عن اليونسكو: خراب التعليم هذا هو الدافع القوي لخروج التلاميذ في أكثر من صعيد، الواجدين في الاستعجال والارتجال فرصة للتنديد، والتعبير عن عرامة تذمرهم من بؤس النظام التعليمي البغيض، العائد في كلمة إلى غياب الإرادة السياسية لدى أصحاب القرار الموجودين خلف الستار. وهذه بعض مظاهر الخراب: - غياب مشروع تربوي مُجمَع عليه من طرف الشعب وقواه الفاعلة. - ضبابية الهدف من التعليم في النظام التربوي المفروض حاليا، بل انعدامه. - انقطاع الصلة بين المدرسة والمحيط الاقتصادي الاجتماعي، وانسداد الأفق. - الخصاص الكبير في الموارد البشرية اللازمة في التدريس والإدارة. - تراجع دور المراقبة التربوية وقلة عدد المراقبين. - هشاشة البنية التحتية المحيطة والموجودة بالداخل، وخراب البنايات، والحجرات، والفضاءات، وسائر المرافق، والوسائل الديداكتيكية الضرورية. - غياب وسائل الإيضاح العصرية، وضعف التجهيز في المواد العلمية والتكنولوجية. - الاكتظاظ في الحجرات الدراسية. - كثرة العيوب والثقوب في التشريع المدرسي، وعدم مواكبته لتطور المجتمع. - غياب التكوين المستمر للمدرسين والإدرايين. - هبوط المستوى المعرفي للتلاميذ إلى أدنى الدركات للأسباب المذكورة، ولاعتماد الخريطة المدرسية المشؤومة. - تراجع عطاء المدرس لفساد الواقع التعليمي وغياب التحفيز، وتردي وضعه ماديا ومعنويا. - تلاشي وضمور أو إضمار الوازع الخلقي على مستوى العاملين في الحقل التربوي أو على مستوى القيم والمضامين المقررة، فاختزلت العملية في معارف ومدركات لا تلامس جوهر المتعلم: وجدانه وروحه.