لم يعد الفن البيداغوجي- اليوم- يقتصر على تربية و تعليم النشء الصاعد، أو بالأحرى يتمركز حول إعطاء الدروس و تلقين التعلمات و المعارف الجاهزة، دون الانتباه الى المرحلة العمرية للمتعلم و لا الالتفات الى مستواه الإدراكي و مساءلة اختياراته و ميولاته الفنية منها و الأدبية و العلمية. ناهيك عن باقي الاسئلة المهمة التي بواسطتها تكتمل صورة مسيرته الدراسية، و أخص بالذكر: 1- الإدارة التربوية: الى حدود الثمانينات كان مفهوم الإدارة يعني استعمال السلطة و إحكامها في وجه المتغيبين من المدرسين و المدرسات و المكررين من التلاميذ و التلميذات ، بالإضافة الى اعتماد أسلوب الغلظة في التعامل و التصرفات، مما دفع بالعلاقات التربوية- سواء بين الإدارة و الطاقم التربوي الى التأزم أو بين الإدارة وآباء و أمهات التلاميذ الى الجمود أو بين المتعلمين و مدرسيهم الى التآكل و التسوس- تماما كما يتسوس الخشب أو الضرس- والنشاط التربوي الى التراجع و الموت البطيء. و ما النتائج المأساوية- (غياب الأنشطة التربوية بشكل مستمر و دينامي، شجار الأساتذة مع التلاميذ و الطلبة، نزاعات الآباء و الأساتذة و الإدارة)- التي نجني ثمارها اليوم إلا دليل فاحم على سوداوية الماضي المتحكم و الانفرادي وغياب آليات التواصل البيداغوجي المتحضر. 2- شخصية المدرس: أكدت العلوم و الدراسات الإنسانية ، و على رأسها علم النفس و علم الاجتماع ، أن لشخصية المدرس أأأأأثر كبير، ليس على ابصام صيرورة المتعلم الدراسية فحسب، وإنما على مستقبل شخصيته. إذ بقدر ما يكون المدرس مبادرا، نشيطا، متفهما ، منفتحا و بسيطا في علاقته و تعامله مع المتعلمين، انعكست هذه الدينامية إيجابا على المتعلمين، و كان هؤلاء متقمصين لشخص أستاذهم ، مستثمرين لتعليماته و إرشاداته و توجيهاته و العكس صحيح. وبما أن ماضي التربية و التعليم كان يقوم على التلقين و الحشو المعرفي و الضبط و الزجر عند الوقوع في الخطأ أو الغياب ، فان حضور المتعلم في الفصل الدراسي كان يشبه عدمه، إذ لا ينادى عليه إلا أثناء إخراج سجل الحضور و الغياب فقط. ضف على ذلك أن شخصية المدرس أتذاك كانت لا تختلف كثيرا عن شخصية المدير السلطوي، مادامت تجمعهما ثقافة الصرامة و الضبط و مدرسة التلقين و الصمت. 3- بنية الحجرة الدراسية: تعتبر الحجرة الدراسية عنصرا قويا في تحقيق الاستقرار و الاستمرارية للعملية التعليمية، بل جزءا لا يتجزأ من نجاح المنظومة التربوية أو فشلها. إذ من المعلوم أن عشوائية التنظيم التي كانت تعرفها الحجرات الدراسية الضيقة السائدة في الماضي، بالإضافة الى عامل الرطوبة المسيطر عليها، كانت تكبح الى حد بعيد حركية واندفاعية المتعلمين، الى درجة تخسيسهم و كأنهم ملتصقين بكراسيهم وان أرواحهم ستزهق منهم وقت مغادرتهم لها، ولولا لطف فترة الاستراحة لحدثت الكثير من المفاجئات و التراجيديات اقلها تبول وتغوط التلميذ في ملابسه. 4- المادة المدرسة: من عيوب العمل التربوي وإخفاقات العملية التدريسية في الماضي، عدم الاهتمام سواء بمؤهلاته العلمية أو بميولاته الأدبية و الفنية، حيث تقدم له المواد الدراسية و كأنها أطباق شهية من الفواكه و الحلويات اللذيذة، أي دون الاكتراث في التفكير في طبيعتها وواقعيتها حتى تستقيم معناها و تتضح أهدافها ، إذ لا جدوى من تعلمات و دروس غامضة و بلا معنى . 5- هيكل المؤسسة: من البديهي أن تتقاسم المؤسسة و الحجرة الدراسية بعض القواسم المشتركة سواء من حيث التنظيم أو النظافة و تختلفان من حيث المساحة و الوظيفة ا. وبما أن المؤسسات في الماضي كانت لا تعير لهذا التشابه و الاختلاف أي قيمة و اهتمام ، فلهذا السبب غاب عنصر التنظيم عن تصورها و برامجها، مما جعلها – أي المؤسسات تعيش الاعتباطية في كل التدابير و الإجراءات الموكولة لإدارة المؤسسة. وقد انعكس سوء التصرف و التسيير الاداري هذه على محصلة و حرية المتعلم، الذي كان يرى التتويج بالنجاح ، أو المرور من فصل دراسي الى آخر السنة الدراسية جحيما يجب ان ينهي مسافته. لذلك ، إذا كانت حياة البيداغوجيا في الماضي منعدمة أو شبيهة بذلك، فانها اليوم أضحت متوهجة كنار الحداد ، و حارقة كالجمر، ولعل الاطار المرجعي لهذه الثورة يعود بالدرجة العولمة الى عامل العولمة الكاسح و التطور الكبير الذي حققته تكنولوجيا الاتصال في هذا الباب، حيث أصبح العلم قرية صغيرة، تتغذى شعوبها (رغم اختلاف درجة نمائها و تقدمها) بثقافات و علوم متنوعة، مادام عامل الحدود الجغرافية و الهوية و الدين و اللغة و الخصوصية لم تعد له أي معنى أو وجود، حينما انحنى الجميع للقديس العولمة. بالإضافة الى هذين العاملين، هناك التغيرات الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية التي ساهمت في بزوغ فجر سياسي جديد خاصة في الأنظمة الشاملة و المتحكمة التي كانت تنعت إلى حدود الأمس القريب بالديكتاتورية . هذه العوامل و الأسباب كانت كفيلة بتغيير رؤية دول المعمور و شعوبها اتجاه الفعل البيداغوجي، الذي أصبح شرا تربويا لا بد منه و رافعة قوية للتنمية المستدامة. و حتى تتمتع المنظومة التربوية بمواصفات حداثية و تخضع للمعايير الدولية، أصبح من اللازم القطع مع جميع الأساليب و الممارسات الماضوية البالية التي غيبت ذات المتعلم و طاقاته الإبداعية و الاقتراحية، وتعاملت معه كأداة للإنصات و الشحن فقط. وذلك باعتماد نظام تربوي حديث يقوم على التواصل البيداغوجي الفعال لتحفيز المتعلم نحو المبادرة و الخلق و الانخراط في قضايا محيطه المحلي، بغية اكتشاف قدراته و كفاياته النوعية من جهة و تحسيسه بالمسؤولية و دوره الأساسي في إيجاد الحلول ومعالجة كل الوضعيات التي تستدعي تدخله. إن الفعل التربوي الذي لا يرتكز اليوم على المتعلم ويجعله في قلب العملية التعلمية، وبالتالي لا يستند ولا يستحضر قدراته الفعلية ولا طاقاته الفكرية و الإبداعية هو مشروع مشلول و تخطيط تربوي تقليدي محكوم بالفشل و المحدودية. ولكي يصير نظامنا التعليمي مواكبا للتطورات العلمية الباهرة التي يعرفها حقل علوم التربية تحديدا والعلوم الإنسانية بشكل عام ،أضحى من اللازم أن تعيد منظومتنا التربوية ليس النظر فقط في المفاتيح الخمسة المتحكمة( الإدارة ، المدرس، الحجرة الدراسية، المادة التعليمية،هيكل المؤسسة) في الحياة المدرسية للمتعلم المغربي و مواصلة مشواره الدراسي بتفان و نجاح، مادام الهدف الأسمى هو ربح المواطن الصالح لبلاده وعبادها، وإنما مراجعة و عقلنة كل النظم و القواعد و المشاريع والدراسات و الاختلالات التي تسببت لنا في هذه العلة القاسية: بدءا من تهميش دور المتعلم في بناء العملية التعليمية، إلى ظاهرة الاكتظاظ المتفشية في جميع أسلاك مؤسساتنا التعليمية، و التي وقفت سدا منيعا في تطبيق بيداغوجيا الإدماج ثم ظاهرة التكرار التي قوت روافد نهر الهدر المدرسي وصارت نتائجه و أرقامه تربك مخططات الدولة وعلاقاتها مع المنتظم الدولي. و حتى أزيح كل غموض محتمل نحو عنوان الموضوع، أقول أن المقصود بجمرات البيداغوجيا الحديثة ، هي الرجة القوية التي يجب أن يعرفها نظامنا التعليمي في اعتماده لبرامج و مناهج تربوية تمنح المدرس الحرية الكاملة في التأمل و النقد- وهذا ما يثبت جدارة مهنيته- إلى درجة استبدال و اختيار المواد المعرفية ،التعلمات، الأنشطة و الفضاء الدراسي ( باعتبار أن طبيعة بعض الدروس تستلزم إقامتها في الطبيعة- كدروس الجغرافيا و النشاط العلمي- أو داخل مصلحة البريد أو الميناء أو المطار أو تستدعي تنقلا أو سفرا – كزيارة المآثر التاريخية- الخ) التي يراها مفيدة و ملائمة للمتعلم .اذ يكفي التنصيص على المحاور المقررة أو رسم الخطوط العريضة لكل مستوى على حدة، لان الباقي يستحسن أن يدبر أمره المدرس و تلاميذه، تماما كما عود المربي الفرنسي سليستيان فرينيه كل المبدعين و التواقين إلى الحرية و الاستقلالية المنتجة. فالفن البيداغوجي الحديث – جمر حارق ومشروع ليس هين التحقيق- لأنه لا يقوم على النوايا و الأماني الطيبة، بقد ما يستلزم تجنيد طاقات جديدة وإعداد التجهيزات و الوسائل التربوية اللازمة/ مع تغيير العقليات الموروثة في مراكز القرار ، وجعلها قوة بشرية تؤمن بان الزمن الذي بنى العالم ي مكنه أيضا أن يصنع غدا رجالا أبطالا لهذا الوطن بواسطة تكوين رصين و حديث لأولاد هذه الأمة. إن الوصفات و طرق العلاج التي نعتمدها من حين لآخر، لم تعد نافعة مع مرض عمر في الجسم لعقود طويلة ، فالخلاص هو دعوة الفاعلين الاقتصاديين و الاجتماعيين و كل الشركاء الذين نص عليهم الميثاق الوطني للتربية و التكوين إلى الاستثمار في هذا القطاع الاجتماعي الهام الذي يعتبر عصب النهضة العلمية و الثقافية وإكسير التنمية الوطنية الشاملة. ترى هل قطع نظامنا التربوي مع مخلفات الماضي؟ و إلى أي حد تسعى بلادنا جادة إلى ركب عجلة البيداغوجيا الحديثة- على الأقل في ربط الفعل التعلمي بمحل التكوين و التطبيق أو تكييفه مع مجريات الحياة و ضرورات النصوص الدراسية على غرار نظريات ماكارينكو و بلونسكي؟ الحسين وبا