في الصورة العم أبو وهبة يمارس هوايته المفضلة "" كم كانت متعتي كبيرة وأنا ألقي على جانب بمعطف الصحفي، وأتحرر من قيود الخبر المقدس وأعود لأرتمي في أحضان ملكوت اللون وفضاء الحرية المطلقة .. لم يتأتى ذلك بتخطيط مسبق بل هي الصدفة ، الصدفة الرائعة التي كثيرا ما تتكرم علينا بلحظات ما كنا لنمني النفس بها. أحسست وأنا أدخل بيت العم أبو وهبة أنني ألتقط بعضا من طفولتي الضائعة التي انهمرت كسيل أمام بصري لأراها ألوانا زاهية متحررة من قيود العلم والقانون والمسطرات والفروض .. هناك .. كان المسجد والكنيس والكنيسة وحقول البرتقال دخلت البيت لأجري حوارا صحفيا مع دكتور تجاوز عقده الثامن ببضع سنين ..كنت أمني النفس بفتح ملفات مع رجل يخزن في ذاكرته تاريخ العرب منذ بدايات القرن الماضي لكن الشيخ العجوز أماط اللثام عن طفل بداخله يحب مشاركة أحفاده هواية الرسم والتلوين والتشكيل .. سألته كيف ؟ ومتى ؟ ومن أين بدأ ؟ فكانت أجوبته قصيرة غير مقنعة وبخيلة في مفرداتها كريمة في فحواها ومعانيها ، وأبلغ منها كانت لغة الشكل واللون والظلال والأضواء فوق بساط أبيض أراد العم أبو وهبة ان يعيد فوقه كتابة تاريخ فلسطين. أقسمت له ان ابلغ رسالته لكم .. أقسمت له أنني سأخبركم عن قصة يافا التي ضاعت ويازور التي تلاشت وذابت في محلول استعماري متغطرس. قلت له يا عم كلنا في الحسرة وطن .. فجدي من والدتي يرقد بقير في مدينة سبتة .. وأين هي سبتة ؟ هل تفضل أن أصفها لك أم أصف لك مقبرة سيدي مبارك بالروصاليس.. أم تريدني أن أرسمها ؟ فرسمت له المكان .. فقط المكان وأخبرته أننا كلنا في الحسرة وطن . ما أجمل الوطن عندما تلتقط له الذاكرة صورة بلغتني منه عبارات ألقت بثقلها على كاهلي وأرغمتني أن أشطب مهنة الصحفي من هويتي ولو لبعض الوقت .. سمعته يكرر أن فلسطين ضاعت لكنها لم تمحى من ذاكرته أصغيت له وهو يتحسر على تاريخ عربي مزور يأبى ان يتركه العم كذلك. كما حدثني عن الفرق بين القضية والمأساة قائلا : نحن لا نعرف شيئا اسمه القضية الفلسطينية بل هي المأساة الفلسطينية . ثم عاد ليمطرني بوابل من رسائل الأمل لكنه اختار لذلك لوحات تشع حبا وحنينا لقرى ومدن فلسطين التي مسحتها الجرافات لكنها ظلت تحتفظ بمكانها في خريطة ذهنه الطفل الفطري الناصع النقاء. أعزائي القراء أعدكم بحوار مطول صوتا وصورة مع الدكتور أبو وهبة عسانا أنا وأنتم نشتم من كلامه بعضا من عملة قديمة ونفيسة كان يطلق عليها إسم الحقيقة .. وأرجوكم أن تخزنوا في ذاكرتكم أكبر قدر من صور لوطن جميل فمن يدري ..؟ فقد تلتحق الرباط والجزائر وتونس والقاهرة بيافا والقدس وسبتة ومليلية .. فنلجأ إلى مخلط الذكريات لنبحث عن نقوش نؤرخ بها للوطن.