لم ألتهم في يفاعي الأول كتباً بنفس النهم واللهفة التي أتيت بها على روايات جرجي زيدان. عوالمه الآسرة، حيث تمتزج أحداث واقعية من تاريخ الإسلام بقصص الحب اللاهبة من بنات خيالٍ مجنح، واللغة الجميلة التي يصوغ بها قصصه، كلها عناصر شدتني إلى رواياته التي تعلمت منها الكثير في اللغة والمعجم والتاريخ. أنواع الألبسة من ديباج ودمقس وحرير، أنواع الجواهر من ياقوت ولؤلؤ ومرجان وعائلات معجمية أخرى لا تقلّ بريقا. ولأن الرجل كان مسيحياً فقد تعرفنا عبره إلى رجال الدين المسيحيين من مختلف الدرجات: رهبانا وقساوسة، أساقفة وشماسين، بطريركات وخوريين. لذا حينما عثرت بمحض الصدفة في تلك الفترة على مجموعة قصصية تحت عنوان "حزن في الرأس وفي القلب" لكاتب مغربي اسمه إدريس الخوري، سألت والدي: "هل لدينا مسيحيون في المغرب؟" فكان جوابه أن لا. لدينا في هذا البلد مسلمون ويهود، ولا خوريين بيننا. لأعلم فيما بعد أن الأمر يتعلق بمواطن مغربي اسمه علال أو إدريس الكص وأنه عوض أن يُعدِّل اسمه بشكل ذكي ليصير إدريس القس مثلا، فهذا أقرب أسماء رجال الدين المسيحيين إلى لقبه، وزناً على الأقل، اختار "الخوري" ربما تزلفاً للأديب اللبناني الكبير إلياس خوري وتشبهاً به. لكن هل يكفي الاسم يا أسماء؟ هل يكفي الاسم؟ ففيما واصل إلياس خوري مسيرته ككاتب فاتن ليتألق في الرواية والقصة القصيرة والعمود الصحفي، لا زال إدريس الكص يفعلها على صفحات الجرائد أمام الملأ وكأنه لا توجد في هذه الأرض مراحيض. في آخر خرجاته غير المحسوبة طلع علينا خوري المغرب بمقال نشرته جريدة "الاتحاد الاشتراكي" بملحقها الثقافي تحت عنوان "غلمان الأدب وعرّابوه". في هذا المقال الطريف شتم الرجل ما شاء الله أن يشتم "غلمان" الأدب الذين عرّفهم كالآتي: "فتية صغار انبهروا باكتشاف الأبجدية الأولى للكتابة غير مصدقين أنفسهم من شدة الفرح، حتى إذا اشتدّ عودهم الأدبي رموا كل من أحسن إليهم بالنبال السامة وطفقوا يقهقهون. لا أخلاق لهم هؤلاء "الغلمان" الذين نبتوا كالفطر... نبات طفيلي مليء بالأشواك السامة ما فتئ ينمو وينتشر ويعبق بروائحه الكريهة رغم لونه الأخضر". طبعاً يحكي صاحب الحزن المزمن في الرأس وفي القلب عن جيل جديد من الأدباء المغاربة يبدو أنه متضايق جدّا من حضوره. لكن لم كلّ هذه العدوانية؟ لماذا الهجوم بتطرف على جيل برمته؟ هل يمكن تبرير الأمر أدبياً أو ثقافياً في إطار صراع للأجيال أم أن الحكاية كلها زوبعة في فنجان قهوة مُرّة من النوع المغشوش؟ أولاً، لا أعتقد أن الأجيال في المغرب مصطفّة في خنادق لاعتبارات جيلية محضة. فالقصاصون الجدد مثلاً سواء في "جماعة الكوليزيزم القصصي" أو في "مجموعة البحث في القصة القصيرةالمغربية" لا يخفون ارتباطهم بتجربة قاص من جيل إدريس الخوري وأقصد المبدع أحمد بوزفور. فقد لاحظ الجميع كيف آزره هؤلاء المبدعون الجدد قبل غيرهم بعد الحملة التي تعرض لها إثر رفضه جائزة المغرب للكتاب. ولا داعي للبحث عن أسباب خارقة للعادة، فبوزفور قاص أنيق بمواقف نظيفة، هذا كل ما في الأمر. أما إدريس الخوري فلا أحد في المغرب الأدبي الجديد يبدو مستعداً حتى لمجاملته. إن قصصه التي تحكي عن المقدم والكلب ويامنة وعيروض واحميدة والجريدة والحاج موسى والجبهة السورية صارت جزءاً من الماضي العاجز عن أن يغذي حاضر الكتابة ومستقبل الأدب. ثم كيف ستتطور القصة المغربية بمثل هذا الكلام: "الناس يتعشون. يقف كلب أسود حول الطاولة ويشمشم. وعندما استرعى انتباه الفتاة الصغيرة فرحت لتوها وأخذت تمطره بقطع مستطيلة من البطاطس المقلية. كانت ترفع القطعة إلى فضاء الطاولة فيشقمها الكلب في السماء. كنت أشوف هذا المنظر. كانت العائلة تتحدث إلى بعضها بارتياح، تأكل ثم تنقطع ثم تتحدث في أمور تجارية..." لاشك أن الخوري انتبه إلى أن هذا الأسلوب الركيك أعطاه موقعاً في المشهد المغربي في فترة كانت "الجبهة" فيها أهم من الأدب. جبهة مغربية مفلطحة كان حرياً به لو تحدث عنها وعن دورها في شهرته هو الدخيل الطارئ على الأدب بدل التغني بالجبهتين السورية والمصرية في قصته المملة "الصورة في إطار منكسر". في هجومه العنيف على "غلمان" الأدب يقدم إدريس الكص نفسه باعتباره عرّاباً لهؤلاء الشباب. رعى تجاربهم و"أحسن إليهم" لكنْ ما إن اشتد عودهم الأدبي حتى رموه بالنبال السامة. هذا كلام يردده خوري المغرب كثيراً رغم أن لا أحد يؤمِّن عليه. في حين يعرف الجميع انفتاح بوزفور مثلاً على القصة المغربية الجديدة وعلى الجديد من كتابها الذين لا يعرفهم الخوري أصلا ولم يسمع بهم قط ببساطة لأنهم لا يترددون على حانات العاصمة. هؤلاء قدّم بوزفور للعديد منهم، وأهداه معظمهم قصصهم الأولى حتى صار من النادر اليوم أن تشتري مجموعة قصصية جديدة ولا تجد فيها اسم هذا الرجل. لكن صاحب "ققنس" لم يفخر ولم يمُنّ قط بما يبذله لأنه يعتبر ذلك جزءاً من عشقه لطفلة الأدب الصغيرة. أما الخوري الذي يتساءل متغابيا في مقاله الطريف بأنه بات لا يعرف هل هؤلاء "الغلمان" أصدقاؤه أم أعداؤه سرعان ما سيحسم أمره لوحده قائلا: "في الملتقيات يبتسمون لك ويحيونك ببرود، لكنهم في أعماقهم يكرهونك." هكذا يبدو الرجل واثقاً من أنه مكروه من طرف الكتاب المغاربة الجدد. لكنه للأسف لا يكشف عن الأسباب. فهل أنوب عنه؟ من منكم لا يعرف لطيفة باقا؟ في بداياتها الأولى تأبطت هذه الفتاة السلاوية الجريئة مجموعة من قصصها القصيرة وحثت الخطى نحو مكتب جريدة الاتحاد الاشتراكي بالرباط. حظها السيئ وضع إدريس الخوري في طريقها. وبعد بضعة دقائق قضتها المسكينة في مكتبه سمع عبد القادر الشاوي وزملاؤه بالجوار صراخ الرجل. كان يرغي ويزبد مطلقا وابلا من الشتائم لتغادر لطيفة المكتب هاربة لا تلوي على شيء. لم تكن تلك القصص المطرودة سوى مجموعتها القصصية البديعة "ما الذي نفعله؟" الفائزة بجائزة اتحاد كتاب المغرب أشهراً بعد الحادث. لطيفة ما زالت مصدومة منه إلى اليوم لذا تراها "تبتسم له وتحييه ببرود كلما صادفته في أحد الملتقيات". لكن ما لم يستوعبه الكص هو أن لطيفة لا تكرهه بقدر ما تشفق عليه هي التي لا زالت لم تفهم بعد لِمَ طردها من مكتبه على ذلك النحو؟ لي بدوري مع إدريس الخوري قصة مماثلة. فقد نشرتُ نصوصي الأولى في الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي قبل أن يتفضّل الخوري بطردي منه سنة 1991. والجريمة كانت رسالة بريئة نبّهْتُ فيها إلى ارتباك تعرضت له قصتي "الرأس القاحل". كانت رسالة غاية في اللياقة والتأدب حاولت فيها تنبيه الاخوة الساهرين على الملحق إلى أنهم استهلّوا قصتي بفقرتها الأخيرة وأنهوها بفقرتها الأولى وبه وجب الإعلام. ولأن الحس الإنساني عال جداً عند صاحب "الذباب في الشاطئ" فقد بادرني برسالة كلها شتائم: "من أنت لتحاسبنا على أخطاء في قصتك الحقيرة؟ لا تعرف كم كنت محظوظاً لأننا ننشر لك في هذا الملحق الذي يكتب فيه كبار مثقفي البلد؟ يبدو أنك لا تريد أن تحمد الله. لذا أقول لك: توقف عن إرسال تفاهاتك لهذه الجريدة لأنها لن تعرف طريقها للنشر بعد اليوم. يا الله، الله يعاونك." تصوروا تأثير رسالة من هذا النوع على نفسية شاب في العشرين. لا، لا تتصوروا شيئاً. لقد فهمتُ مبكراً أن لا أخلاق ثقافية في هذا البلد وغيرت طريقي لأبعث نصوصي مباشرة إلى "الوحدة" القومية و"الآداب" البيروتية و"الاغتراب الأدبي" و"اللحظة الشعرية" اللندنيتين، قبل أن أركن إلى مجلة "المدى" التي اتخذتها لي ملاذاً لسنوات. وهنا أعترف بأن خوري المغرب قد "أحسن إلى" العديد من أدباء جيلي مثلما "أحسن إلينا"، لطيفة باقا وأنا، لكن بالطريقة ذاتها. لذا يتهيّب كلما جمعه بهم مجلس أو ملتقى. ولهذا أيضاً بدا واثقاً في مقاله من أنه مكروه من طرفهم. لكن فيما كان الخوري يطرد الأقلام الواعدة فعلاً من الملحق الثقافي لجريدته كان يأتي إليها بمن هب ودب في إطار تشجيعه للمواهب. وفي هذا الإطار أريد أن أسأله اليوم عن مصير نجاة السبتي الشاعرة الشابة التي نشر لها في الملحق مباشرة دون أن تمر من صفحة "على الطريق" كما جرت العادة تلك الأيام؟ أين هي نجاة السبتي يا إدريس الخوري؟ أين هي مخلوقاتك الرَّثة التي كنت تصنعها في جريدتك بعد أن طردت منها الموهوبين؟ أم لعلك نسيت تلك المراكشية الضئيلة الجسم التي "قصَّرت" معك ذات ليلة رباطية مجنونة أنت وشاعر خليجي قبل أن تُنعم عليها في نهاية السهرة أنت الخبير في الأسماء المستعارة باسم نجاة الشاوي وتنشر لها في ملحقك بهذا الاسم؟ أعرف أن لك مخلوقات عجيبة غريبة، غيرها، صنعتها في ظروف غامضة ولاعتبارات لا علاقة لها بالأدب. بعض هؤلاء نفذت بطارياتهم بسرعة ولا أثر لهم اليوم في الساحة، فيما ثمة آخرون صاروا جزءا من أزمة الكتابة والقراءة في هذا البلد وعبئا على الأدب والمشتغلين به. فهل هذا ما تمنّ علينا به أيها الضالع في اقتراف الرداءات؟ من حسن الحظ أن جيلنا يكتب بلا أوهام. يعرف أن الأدب مجرد ورطة. وأن هذه الورطة ليست جميلة دائماً. لأن الحرفة التي أدركتهم لن تزيدهم إلا غربة وتهميشاً. ومع ذلك فهم يكتبون. بلا إيمان تقريباً، وبلا ثقة في أي شيء. لا يثقون في التلفزيون، ولا في الحكومة. لا في الآباء، ولا حتى في الأبناء الذين صاروا يترددون طويلا قبل اقترافهم رأفة بهم من ضراوة العالم. لذا كان من الغريب أن يصفهم إدريس الكص في مقاله المتشنج قائلاً: "كيف يمكن التحاور معهم وهم يتوهمون بأنهم يمتلكون الحقيقة؟ لا أحد بقادر على مجاراتهم في الأوهام. يكتبون والشهرة – النجومية هاجسهم الأساس." لكن عن أي نجومية يتحدث هذا المسكين؟ ربما جيلنا بالذات يعرف أكثر من سابقيه أن النجومية ليست سوى نكتة سمجة. فبرامج "تلفزيون الواقع" المتخصصة في صناعة النجوم من عدم تؤكد أن الأمر لا يحتاج كل هذه المشقة التي يتطلبها الأدب. لكن الرجل على ما يبدو ضليع في إسقاط هواجسه الخاصة وعقده الذاتية على الآخرين. قال محمد شكري في حوار أجريته معه أشهراً قليلة قبل وفاته وكنت قد سألته عن صداقاته وعداواته: "في السابق كان الناس يبحثون عن الأصدقاء ولا يجدونهم. وأنا كنت أبحث عن الأعداء فلا أجدهم. لكن الآن مع النجاح وبسبب وضعي المادي الحالي بدأ الأعداء يظهرون. وآخرهم إدريس الخوري الذي اكتشفت أنه لم يكن قط صديقاً لي. عقدة الخوري الأساسية هي الشهرة، لكن ماذا أعمل له أنا لكي يشتهر؟ إنه شخص حقود وحقير ويبدي إزائي في الآونة الأخيرة عنفاً غير مفهوم. لقد خدعت فيه وفي العديد من أمثاله. كنت أعتبرهم أصدقاء حقيقيين، لكنهم فاجأوني بحقدهم. أنا أتفهم الحسد وأقبله. لكنني لا أقبل الحقد." إن الرجل دائم الحديث عن الشهرة. ويتهم كلّ من اختلف معه من الكتاب بأنهم طُلاّب شهرة ونجومية ومجد. لكن شحرور طنجة كشف السر. كان إناء الكص يرشح بما فيه ونحن لا ندري. ولأن شكري من أعرف الناس بصاحب "الذباب في الشاطئ" فيمكن العودة إليه لنحصل على المزيد. يقول صاحب "الخبز الحافي" لرئيس تحرير صحيفة "مرايا" الجهوية الصادرة بطنجة متحدثاً عن خوري المغرب: "ليس له صبر الجلوس ساعات للقراءة. إنه ينتهز الفرص السهلة. قد يمدحك ويشتمك وأنت جالس معه في نفس اللحظة، فإذا دفعت عنه ما يشربه ويأكله يمدحك وإن لم تفعل شتمك في اليوم الموالي. إنه شخص اقتحم عالم الكتابة دون أن يكون كاتباً. ليس كاتباً على الإطلاق. وكم كنت أتمنى لو لم أعرفه." ولأننا مع الأسف الشديد نتقاسم مع خوري المغرب نفس الهواء الثقافي الفاسد لا يمكننا أن نتجاهله. فحتى حينما تتجاهله تراه يرتكب الحماقات ليلفت إليه الانتباه. والدليل مزحته الثقيلة الدم على صفحات الاتحاد الاشتراكي التي وجدت من يفتح لها شرفة خاصة على صدر الصفحة الأولى للجريدة. ولعلّ المسؤولية تفرض علينا اليوم أن نساعد صاحب "خديجة البيضاوية" على معرفة نفسه. أنت كاتب فاشل يا إدريس والكل يعرف ذلك. أعمدتك التافهة التي ينفحك من أجلها بعض المحسنين من مدراء الصحف المغربية رواتب في آخر الشهر ليست أكثر من إعانة اجتماعية لكاتب شكّاء يدّعي ضيق ذات اليد منذ كان ولا يزال. هل تذكر عمودك الطريف في "القدس العربي" قبل سنوات حينما كتبت بلا حياء أنك استلفت ثمن تذكرة القطار من الرباط إلى البيضاء لتتمكن من حضور فعاليات مهرجان الشعر العالمي. تباً للبؤس حينما يعرّش في الأرواح. في مقالك البائس عن "غلمان" الأدب بالاتحاد الاشتراكي آثرتني بتحية خاصة دون أن تسميني. ولأنني أرد التحايا عادة بأحسن منها، ولأنني لم أعتد رفع أصبعي لخصومي من تحت الجلباب كما تفعل أنت، أفضل أن أواجهك مباشرة بأسمائك كلها: الصريح منها والمُعار والمستعار. إن لقب الكاتب الكبير الذي أطلقوه عليك هذه الأيام لا يناسبك، بل يبدو فوق رأسك مثل قبعة المهرج مثيراً للضحك والسخرية. إنك ركيك ككاتب وكإنسان، ونحن لا نصادر حقك في أن تكون ضحلاًً، لكننا نناشدك فقط بجاه الأولياء والصالحين والبطاركة والخوريين أن تضع فردة حذاء في فمك وتخرس.