مازالت ملامح "الرّبيع الإفريقي" الذي يسعى إلى فك الارتباط مع "الاستعمار الفرنسي" قديما، ومع "أشكال هيمنته واستغلاله الحديثة"، تتشكل تدريجيا عبر الانقلابات العسكرية المتتالية ضد الأنظمة الحاكمة المتحالفة مع فرنسا؛ فبعد إزاحة الرئيس النيجيري محمد بازوم في يوليوز، بعد الانقلاب عليه، جاء الدور اليوم على الرّئيس الغابوني علي بونغو، "الحليف التقليدي لفرنسا". ويبدو أن ما سماه الخبراء "العقل الاستعماري الفرنسي المتصلب" صار ينحسر شيئا فشيئا في البلدان الإفريقية التي ترفض هيمنة فرنسا على الثروات الحيوية الإفريقية، على اعتبار أن الغابون هي رابع دول غرب إفريقيا في ما يخص إنتاج النفط، وهي بلد غني أيضا بالمنغنيز والماس. ولعل بداية التضرر الفرنسي كانت واضحة اليوم حين تراجعت أسهم شركة التعدين الفرنسية "إراميت"، بعد إعلانها تعليق أنشطتها في الغابون، بنسبة 18%. ومنذ اندلاع الانقلاب في بوركينافاسو السنة الماضية، وظهور أولى مؤشّرات فشل "عملية بورخان" العسكرية، بدأ قصر الإليزيه بفرنسا يتحسّس زوال نفوذه في منطقة الصحراء والساحل. أما اليوم فهذا الانحسار أصبح، ربما، "واقعا مرا" لدى الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي اتُّهم من طرف النّخبة السياسية الفرنسية بأنه "فشل في تدبير العديد من الملفات بالقارة الإفريقية، ما أدى إلى إذلال فرنسا وتقهقر أدوارها". خريطة بلا فرنسا عبد الواحد أولاد مولود، باحث في العلاقات الدّولية والشؤون الإفريقية، قال إنّ "الانقلاب في بدايته قام بمنع الإعلام الفرنسي من التشويش على العمليّة، ما يعني أنه استمرار في الصّحوة الإفريقيّة التي تريد أن ترسم خريطة جيوسياسية قارية جديدة بدون التّواجد الفرنسي"، مسجلا أنّ "الوجود الفرنسي في إفريقيا بات في أزمة حقيقية نتيجة استمرار النهج الكولونيالي نفسه ضدا على إرادة الشعوب، واستمرار لامبالاة فرنسا وسياستها التفقيرية للشعوب الإفريقية للاغتناء". وأضاف أولاد مولود، ضمن تفسيرات قدمها لجريدة هسبريس، أنّ "هذا الانقلاب لا محالة سيعزز محاولات إقبار 'السلوك الهاوي' لفرنسا في الأوحال الإفريقية، على اعتبار أن علي بانغو حليف تقليدي للإليزيه"، مبرزاً أن "الانقلابات المتتالية التي تصبّ في مجملها في مناهضة الاستغلال الفرنسي هي إشارة جديدة إلى أن العهد الفرنسي ينتهي تدريجيا في إفريقيا بفقدانها آخر معاقلها التقليدية واحدة تلو الأخرى". وأكد الباحث ذاته أن "هذا الانقلاب هو لا محالة صدمة للدبلوماسية الفرنسية التي لم تفكر في تغيير مكنزمات تواصلها مع الشعوب الإفريقية، وتمسكت بخطابات الهيمنة"، مشيرا إلى أنّ "الاحتجاجات الشعبية الرافضة لفرنسا بدا أنها لم تعد كافية أو غير مجدية، لذلك صارت الطبقة العسكرية تتجه نحو نسف الأنظمة الحاكمة التي تمثل تسويغا سياسيا لوجود فرنسا في المنطقة"، وزاد موضحا: "هذه الخطوة هي استمرار لخفوت الصوت الفرنسي إفريقيا وصعود تنافس دولي في الساحل الإفريقي". وأوضح المتحدث أن "فرنسا ستواجه متاعب سياسية كبيرة، لأن الغابون ذات نمو اقتصادي، مع ملايير الدولارات من الاستثمارات الفرنسية التي ستواجه مشاكل بالجملة؛ وبالتالي سيتحمل الإليزيه وزر ما قام به في منطقة الساحل بسبب خطاباته الاستعلائية"، مؤكدا أنّ "فرنسا قريبة من فقدان كل شيء"، وتابع: "فرنسا لن تواجه فقط مشكلا على المستوى الاقتصادي والسياسي، بل أيضا على المستوى الثقافي والتعليمي وبعض المجالات الحيوية التي تعتمدها لترسيخ سياستها". فرنسا متهمة؟ محمد نشطاوي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاضي عياض بمراكش، أوضح في تصريح لجريدة هسبريس أنّ "التقهقر الفرنسي في إفريقيا آخذ في التّصاعد، فعلاً، لكن انقلاب الغابون مازال غامضا وملتبساً لكون خيوطه لم تتضح بعد لإمكانية تفكيكه"، مرجحا أن "تكون لفرنسا نفسها يد في هذا الانقلاب على علي بانغو، لكون الأخير خلق تحالفا جديدا مع الصين في السنوات الأخيرة، وهو ما صار يهدد مصالحها". وشدد نشطاوي على أنّ "الشركات الفرنسيّة التي جمّدت نشاطها بالغابون لم تنسحب بعد، وخصوصا طوطال إينيرجيز وغيرها"، لافتا إلى أنّ "الولاياتالمتحدةالأمريكية يمكن أن تلعب دورا معينا في ما حدث، لكونها في السنوات الأخيرة تبحث عن موطئ قدم في الساحل الإفريقي الذي صار محطّ أطماع الكثير من الدول المتقاطبة"؛ وزاد: "يمكن حتى أن يكون التدبير لهذا الانقلاب بشراكة أو بدعم أو بمبادرة من فرنسا". وأفاد أستاذ العلاقات الدولية بأنّ "العلاقة بين فرنسا ومستعمراتها باتت تهتز، لذلك يمكن أن تحاول اللعب على حبال مختلفة، بحيث يبدو أنّها تفقد شريكا مهما، لكن ربما قد تعوضه برئيس جديد أو بعسكري يكون قريبا منها ومن مصالحها بالمنطقة"، مسجلاً أنّ "التراجع السياسي والاقتصادي للنفوذ الفرنسي في منطقة الساحل سيدفع باريس إلى التفكير في منافذ جديدة، لكونها لا تستطيع أن تفلت القارة التي تنظر إليها كمستعمرة تاريخيا". وخلص المتحدث ذاته إلى أن "محاصرة الإعلام الفرنسي يمكن أن يكون خدعة فرنسية ماكرة، بحيث تحاول فرنسا دائماً أن توهم بأنّها لا دخل لها في ما يجري في القارة الإفريقية، وخصوصا في المناطق الفرانكفونية"، وزاد موضحا أن "ارتفاع منسوب الغضب الشعبي إفريقيا من سياسيات فرنسا لا نقاش فيه، ولكن بخصوص هذا الانقلاب بالضبط فالمسالك مازالت غامضة، وستسعف الأيام المقبلة في تبين هل هو انقلاب يريد أن يحاصر الوجود الفرنسي أم إنه انقلاب يتورط فيه العنصر الفرنسي".