اعتادوا التداعي إلى مقهى الحي لزوما عند كل أصيل، ونافلة بعد الزوال لما تسنى له ذلك، وإن حصل فهو برجوازي كمل يحلو لكبير الندماء نعته؛ فالمقهى غدت محل إقامة، والبيت محل عبور، متى تسنى الفرار منه، فهي فرصة يُعض عليها بالنواجذ حتى لا تنفلت. لكن هذا المساء ليس ككل المساءات، ففيه تم التحلل ليس من لباس الإحرام، تأسيا بمناسك الحج كما هو شأن أيام النحر، بل من عناء تتبع أخبار السوق، والتجول على مختلف نقط بيع الأضاحي، لإغناء النقاش عند اللقاء بما تحصل من أخبار حول مؤشرات الأثمنة واتجاهاتها في مستقبل الساعات والأيام والسلالة الوافدة والاختلاف بصدد جودتها وحيل الشناقة وقدرتهم التغريرية بالزبناء، باسترسال سرديات هي إلى الخيال أقرب من الواقع، فطول المقام يقتضي المبالغة بل الإبداع في المقال. لكن المُعلم لا يعبأ لكل هذا الصخب (وتهراس الراس)، فقد سلّم كل المهام المنزلية وغيرها بالتقسيط المريح «لمولات الدار»، وقد تم توقيع الاستلام النهائي في افتتاح مونديال قطر، فهو جد مسرور بهذا، لأنه كان فاتحة خير، وبشير يمن على ما حققه المنتخب من نتائج. فلم يتأخر في دفعها إلى مجاراة الشناقة، ومفاوضة الكسابة في الأسواق الأسبوعية والمرائب الحضرية المحدثة. فلها من الخبرة التي تحصلت لديها طيلة خمس وعشرين سنة من الزواج، والصفقات التي عقدتها مع الخياط والنجار والكهربائي والرصاص و... وكل من تداول على تركيب مسمار أو إصلاح رتق، ما أكسبها مقدرة ونبوغا في تجاوز مختلف التحديات المعيشية، وترك المُعلم لمباريات الرياضة الأكثر شعبية، إلا الفحم فقد تُرك له حتى يأخذ نصيبه من الكيس الذي يتقاسمه مع ندمائه الذي يجلبه كبيرهم من مسقط رأسه باغمارة الجبلية، فهي قبيلة ما زال بعض أهلها لصيقين بالغابة والمهن المرتبطة بها. المساء استثنائي بكل المقاييس لكل ما ذُكر، إضافة إلى التحلل الأكبر، فهم اليوم غير متعجلين، فقد أخذوا وقتهم في اختيار القميص والبلغة المناسبة، عوض تلك الثياب التي هي بالأسمال أشبه التي يتدثرون بها بعد خلع ثياب العمل، فهي لا تكلفهم مشقة التنقل بين لباس وآخر، فهي منامة وهندام الأشغال المنزلية التي يتسلل هاربا منها كلما سنحت الفرصة بذلك، ولو بدون ثياب إلى المقهى، حيث يحلو الكلام وإطلاق اللسان افتخارا بالفريق المحبب، وسخرية من خصوم مقصودين ومفترضين. لكن اليوم ستغيب الكرة وشجونها وفتوحاتها، وسيحضر الحولي، وما أحرزه كل لاعب في سطح منزله، الميدان الذي جرت فيه وقائع الظفر بلحم هم الآن بصدد كنس مخلفاته، مستعينين بالمشروبات الغازية التي تزين مائدتهم بأشكالها وألوانها، التي توقع على استثنائية المساء، حيث التحلق حول كؤوس الشاي وأنخاب القهوة، التي لونت أمعاءهم بألوانها الغامقة. كما لوثت ملفوفات الحرشة والرغيف وكادت تسد المسالك الهضمية، فهي مادة أكثر من حيوية في غير هذا المساء، بما لها من قدرة على سد خصاص اليوم الغذائي. ها هم اليوم يعلنون انتقامهم من سطوته، فأمعاء البعض سالت ماء، بعدما كانت تقذف حجارة بين أروقة المرحاض، ولا شك لن يمر عليه الليل إلا وهو منتصب أمام صيدلية الحراسة يطلب ما يوقف به طوفان الأمعاء. انصب حديث طويل حول أثمنة الأضاحي لهذا العام، المحلية منها والمستوردة، وارتباط كل ذلك بالظروف الاقتصادية والسياسية، وجودة كل منها. وككل حديث لا بد من الرأي والرأي الآخر حتى نضمن طول السمر. والذي لم يعكر صفوه إلا رنين هاتف كبير الندماء، إنها مكالمة الوالدة المقيمة هناك بين أحضان جبال مقدمة الريف. تشكو فقدان حلاوة العيد في غيابه، وباقي إخوته وأخواته، فكل واحد أعتقد أن الآخرين سيسدون فراغ مكان الآخر، فالأمر فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الآخر، وألم المفاصل والدهر أعاقاها عن القيام بما اعتادت القيام به في مثل هذه المناسبة، من غسل لأحشاء الشاة، وحرق الرأس والقوائم، و... لولا مساعدة بنات الجيران. هنا سينعطف حديث الندماء بمائة وثمانين درجة، سطت الحسرة بقسوتها على المجلس، انخرط الجميع في سرديات الصبا والفتوة في إحياء الأعياد والمناسبات بين الجيران والأهل والأحباب، هناك في أحضان أغراس القرية وبراريها، حيث يحلو الشواء والطواجين على أمهل المواقد. بينما اليوم هم معتقلون في زنازين إسمنتية، في مدن أجبرتهم على الإقامة فيها ظروف العمل والاجتماع الأسري. انجرف دفء المجلس على حين غرة إلى قاع أثار شجون لا حدود لها، خففت الأصوات، أُعدمت القهقهات، وطأطأت الرؤوس فلا تسمع إلا همسا. مما عجل بانفضاض المجلس على حال من الأسى والحزن على غير العادة، إنها الكرة؛ الأفيون الذي ينسي الهموم ويذهب بالأحزان، فما أشقانا في غيابها.