يطرح الدكتور محمد أجواو، وهو باحث وكاتب هولندي من أصل مغربي، ورئيس هيئة العناية الروحية الإسلامية في وزارة العدل الهولندية، في هذا المقال الذي تنشره هسبريس، شخصية ووضعية الإمام في هولندا ودول أوروبا الغربية بشكل عام، حيث يُنتظر منه القيام بالكثير، بينما هو لا ينال سوى القليل من التقدير المعنوي والمادي. وأفاد أجواو بأن الرأي القائل بأن الإمامة ليست مهنة يعني عدم الاعتراف بها، وهو ما يفتح الباب أمام المتطفلين وأشباه الأئمة، خصوصا عندما تنعدم أو تلتبس المعايير التي تحدد ما للإمام وما عليه، وبالتالي تعجز مهنة الإمام عن التطور، فينشأ عن ذلك "ظهور أئمة غير مؤهلين". وفيما يلي نص مقال أجواو كما توصلت به هسبريس: تقييم مسألة الإمامة في الغرب ينتظر الكثيرون من شخصية "الإمام"، لا سيما في هولندا ودول أوروبا الغربية حيث يؤدي دورا أساسيا في اندماج المسلمين، وقد صممت برامج الإدماج قصد تأهيله لهذه المهمة. كما أصبحت تقدم في الآونة الأخيرة مساقات أكاديمية لتكوين الأئمة، في كل من ستراسبورخ، باريس، وأمستردام. غير أن المشكلة الجوهرية أن هذه المهنة لا تتلقى أي اعتراف أو تقدير من العديد من المسلمين. "من الناحية الرسمية لا توجد مهنة الإمام"، حسب ما خلص إليه مراسل راديو RTL.fr بعد استطلاع أراء مسلمين فرنسيين. (9-10-2012) إن تداعيات هذه الخلاصة لا يستهان بها، لأن عدم الاعتراف بمثل هذه المهنة من شأنه أن يفتح الباب أمام المتطفلين وأشباه الأئمة، خصوصا عندما تنعدم أو تلتبس المعايير التي تحدد ما للإمام وما عليه. وهذا معناه أن عدم الاعتراف بمهنة الإمام سوف يقف حجر عثرة أمام تطورها ورقيها. إن الرأي الذي يقول بأن الإمامة ليست مهنة، ينطوي على تقدير مادي منحط لهذه المهمة، مما يترتب عن ذلك ظهور أئمة غير مؤهلين. فالأئمة الجيدون ينسحبون إن عاجلا أو آجلا. فالكثير من المساجد في هولندا، المغربية على وجه الخصوص، غالبا ما تظل بالفعل بلا إمام. فالأئمة الجيدون، الذين يفقدون الحافز ويعتريهم الإجهاد، يشعرون بأنهم يساء فهمهم. ناهيك عن الضرر الذي يعانيه الأفراد والجماعة والمجتمع من الأئمة غير المؤهلين. إن نفي اعتبار أن تكون الإمامة مهنة، يثير سؤالا جوهريا مؤداه: لماذا يجب تنظيم مساقات أكاديمية لتكوين الأئمة؟ ولماذا على الطلاب التسجيل لمتابعة تكوين الأئمة في هولندا؟ تحليل لوضعية الإمام إن النخبة المسلمة تدرك جيدا المشكلة. لقد صرح رئيس المجلس الفرنسي للدين الإسلامي السيد فؤاد العلوي مؤخرا بأن تحسين وضعية الإمام تعتبر تحديا مهما أمام المسلمين الغربيين. وهو يلح تحديدا على تحسين صورة الإمام ومستوى الأجر. وهذه المسألة مطروحة أيضا في هولندا. فالمشكلة تظل مستمرة وتقتضي نقاشا واسعا داخل المجتمع الإسلامي. من أين أتت إذن الصورة الحالية حول الإمام؟ كيف نشأت؟ ما هو رد فعل الأئمة حول ذلك؟ ما هي التطورات التي يشهدها هذا المجال؟ وما هي التوقعات التي تلوح في الأفق؟ في 23 فبراير 2013 سلطت المجلة المغربية الرقمية الشعبية هسبريس الضوء في مقالة حول الوضعية القانونية الهشة للإمام في المغرب. حيث الأئمة يتلقون أجورا هزيلة، ولا يتمتعون بالتغطية القانونية، ويتساءل صاحب المقال حول ما إذا كانت الإمامة مهنة أو شكلا من أشكال العمل التطوعي. ولعل هذا المقال وتعليقات القراء يميلان إلى الاعتبار الأخير الذي يرى الإمام مجرد متطوع. "معلوم أنه لا يجوز التعاقد على الإمامة والتأذين بعقود توظيف، فهما عبادتان يتوجب فيهما الإخلاص لله وابتغاء الأجر والثواب منه تعالى، وأن لا يخلط فيهما ابتغاء الدنيا والآخرة." حسب كاتبة المقال مايسة سلامة الناجي. (أئمة على باب الله.. والتعليم العتيق في مهب الريح، هسبريس، السبت 23 فبراير 2013). غير أنه في خضم هذه الرؤية ينطوي جزئيا السبب الذي يقف وراء تردي الوضعية القانونية للإمام. لأن النظر إلى مسألة الإمامة انطلاقا من ثنائية مهنة/عمل تطوعي يختلف جذريا عن اعتبار الإمامة مجرد عبادة لله تعالى. فالعنصر الأول يشير إلى الجانب المهني على العموم. في حين أن العنصر الثاني يركز على نشاط محدد وهو "إمامة الصلاة". ويترتب عن هذا الاعتقاد الدلالي الخاطئ الذي يختصر عمل الإمام في إمامة الناس للصلاة ويجعله معيارا لكافة خدمات الإمام ومهامه، وينشأ عن هذا التصور تقييم منحط لمهنة الإمام. وقد جسد هذا الاعتقاد الخاطئ مؤخرا رئيس المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة أثناء مؤتمر أقيم بمدينة ليدن على النحو التالي: ينتظر منا المجتمع (الديني) أداء الصلوات الخمس اليومية في بضع دقائق ويختزل جهدنا في هذا النشاط البدني. وعلى هذا الأساس يتم تكريمنا. (مسجد الإمام مالك، ليدن 21 مارس 2013). إن مثل هذا "التقييم المنحط" يعني أن الإمام لا يعتبر صاحب مهنة رسمية قائمة بذاتها، لذلك يتلقى راتبا هزيلا ويظل الاعتراف العام بخدماته مخفقا. "إنهم ينتظرون من الإمام أن يكون راعيا جيدا، في حين أنه يوجد نفسه في وضعية الشاة الضالة!" حسب قول عضو بارز في لجنة أحد المساجد في هولندا. في طي هذا الاعتقاد الدلالي الخاطئ، كما سبقت الإشارة، يكمن التفسير الجوهري للرأي القائل بأن الإمامة لا يمكن أن تكون مهنة وللتقدير المنحط لشخصية الإمام. وعلاوة على ذلك، تلعب العوامل الآتية دورا في هذا الصدد. نشير بدءا إلى مبدأ العرض والطلب الاقتصادي، حيث تنشأ عن كثرة الأئمة أو الأئمة المرشحين للعمل فئة الرعاة الروحيين الرخيصة. في بلدان مثل المغرب يوجد فائض من الأئمة الذين يتلقون تعليمهم في المدارس والمعاهد القرآنية والدينية الخاصة. وقد ترتب عن هذا الفائض أن معظم الأئمة المغاربة المعينين في أوروبا هاجروا من المغرب، لأنه لا يزال هناك طلب في أوروبا على عمل الإمام، غير أن الراتب الذي يتقاضاه الإمام يظل منخفضا. بالإضافة إلى ذلك، يلعب منطق الكثير من اللجان المسيرة للمساجد دورا في ذلك. إذ أن أجور الأئمة يجب أن تتوافق ومعايير الدول الأصلية. فالمبلغ الشهري 500 يورو في أوروبا الغربية لإمام مغربي ينحدر من البادية مرتفع. كما أن الرأي العام الذي يرى بأن الإمام يجب أن ينال أجرا ماديا منخفضا قد يكون له نوع من التأثير، لأنه سيتم مكافأة عمله بما هو غير مادي، كالمكانة الاجتماعية والثواب الأخروي. ولعل هناك تفسير آخر وهو أن المؤمنين يدركون حقا ما يستحقه الإمام ويدركون أن الإمامة مهنة، لكن يرون أن جهده "محدود" وذلك تفاديا لأن تكون مكافأته أعلى مما هو عند الغالبية من أفراد المجتمع. وفيما يتعلق بحالة هولندا وباقي دول أوروبا الغربية يظهر أن راتب الإمام يخضع للمعايير التي تخضع لها أجور المهاجرين من الجيل الأول، حيث معدل الأجور يقترب من الأجر الأدنى في هولندا. لذلك فإن أقصى ما يمكن أن يتلقاه الإمام لا يتجاوز الأجر الأدنى المعمول به. بل وأن الإمام غالبا ما يتلقى أقل بكثير من ذلك، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بأنه لا يتلقى أي تعويض عن العطلة، وليس لديه تأمين على البطالة والمرض والتقاعد. حراك في صفوف الأئمة إن الكثير من الأئمة لا يظلون مكتوفي الأيدي أمام هذه الوضعية، وإنما يحاولون بكل الطرق صقل مهاراتهم المهنية وإبراز قيمة "منتجاتهم" و"خدماتهم". أتذكر، في عام 2011، أن أحد الأئمة الجريئين من جنوبهولندا خصص خطبة الجمعة كلها لهذا الجانب. وسبب ذلك أن أحدهم دعاه بنوع من الإجبار إلى غسل أحد أفراد عائلته المتوفى، وقد عبر عن انزعاجه بهذا الخصوص قائلا: "هذا لا يوجد في اتفاقية العمل. هذا ما يعلمه هذا الرجل جيدا!" بل وأكثر من ذلك، "فإن هذا الرجل لا تربطه أي علاقة بجماعة المسجد، ولم يسبق له زيارة المسجد ولا يدفع مبلغ الشرط". ولعل هذا الإمام أراد تمرير رسالتين أساسيتين من خلال كلامه هذا. أولاهما أنه مقابل الأجر الهزيل الذي يتلقاه الإمام لا ينتظر منه أن يؤدي الكثير من الخدمات المجانية. وثانيهما أنه يجب أن ندرك أن خدمات الإمام العديدة ينبغي أن تقدر سواء على مستوى المكافأة المادية أم التقدير المعنوي. وفي سياق آخر حررت مجلة هسبريس في 23 أكتوبر 2012 في مقالة حول تصدير الأئمة إلى دول الخليج تقريرا عن الأئمة المغاربة الذين يريدون التوجه إلى الخليج العربي لتحسين ظروفهم المهنية. كما أن يومية المساء المغربية كشفت يوم 6 فبراير 2013 عن رسالة تقدمت بها رابطة الأئمة إلى الملك محمد السادس أمير المؤمنين، أو بالأحرى الممثل الأعلى للسلطة الدينية، حيث يطالبون بمزيد من الاعتراف والتقدير. وليست حالة الأئمة في هولندا أفضل من ذلك، فحسب ملاحظات الكثير منهم أنهم يحافظون على عملهم كأئمة لأنهم لم يجدوا بدائل أفضل. بمجرد ما يجد إمام بديلا أفضل للعيش، يستغني فورا عن عمله كإمام. كما أن الكثير من الأئمة ذوي التكوين الجامعي غادروا المساجد للعمل كرعاة روحيين في السجون أو المستشفيات. إن الإمام يعتبر همزة وصل مهمة في العمل الديني، وهذا ما ينبغي إدراكه بعمق. ما يسترعي الانتباه أن تركيا العلمانية هي "الدولة الإسلامية" الأولى التي وعت هذا الجانب أثناء تنظيمها لهذه المهنة. حيث يتم تعليم الأئمة منذ عشرات السنوات في المؤسسات التعليمية الرسمية ويتلقون أثناء التعيين راتبا محترما. (ما بين 800 و1100 يورو شهريا). أما المغرب فقد دشن منذ 2006 بعض الخطوات لتنظيم هذه المهنة. إذ تم في البداية صياغة "دليل الإمام والخطيب" بتعاون مع المجلس العلمي الأعلى. وكل إمام يستوفي شروط هذا الدليل يتلقى مقابلا ماديا وهو 90 يورو بالإضافة إلى راتبه الشهري الذي يقدر بحوالي 150 يورو. في حين أنه في المساجد التركية في هولندا التابعة للدولة يتلقى الأئمة حوالي 1800 يورو شهريا، وهذا أعلى مما يدفع لأئمة المساجد الرسمية في تركيا. تحول إلى الأفضل.. من المحتمل أن الجيل المسلم الصاعد سوف يحقق التغيير في المستقبل القريب. خلافا للجيل الأول سوف تُستثمر خدمات الإمام في إطار العمل الروحي في المجتمع المعاصر المعقد. كون أن تكوينهم ورواتبهم سوف تنمو وتزيد، سوف يؤثر ذلك لا محالة على تقييم الإمام. إن الأجيال القادمة سوف تقدر الإمام على أساس استعداده المتواصل (24 ساعة) لخدمة المسجد والمجتمع عبر مختلف الخدمات، كإمامة الصلاة، التعليم، التوسط بين الناس وإصلاح ذات البين، الاستشارة، ومد الجسور بين الجماعة والمجتمع. لذلك، يتوجب أن يرقى الأئمة إلى مستوى الأجيال الجديدة والسياق الذي يعيشون فيه. وقصد تحقيق هذا المستوى ندعو المسلمين والمؤسسات التعليمية لاستلهام هذا الإعلان الذي علقه على مسجد الإمام السلطانُ العثماني سليمان الأكبر الذي حكم ما بين 1520 و1566. يتضمن هذا الإعلان أهم المتطلبات المهنية التي ينبغي أن تتوفر في كل من يتقدم لهذه الوظيفة (الإمام). وهي كالآتي: • إتقان اللغات العربية، اللاتينية، التركية والفارسية. • المعرفة الأساسية بالقرآن والإنجيل والتوراة. • التمكن من علوم الشريعة والفقه. • الأستاذية في علوم الطبيعة والرياضيات. • إتقان رياضات الفروسية، الرماية، المسايفة وفن الحروب. • التمتع بالمظهر الوسيم. • التمتع بصوت قوي ورخيم. (مجلة حرية التركية، 2 غشت 1998). إذا تبنى المسلمون هذه المبادئ التوجيهية، فهذا يعني بوضوح تام أننا أمام مهنة قائمة بذاتها وأننا سوف نحصل على أئمة في المستوى المنشود. (*) د. محمد أجواو: باحث وكاتب هولندي من أصل مغربي، أستاذ في جامعة أمستردام الحرة، رئيس هيئة العناية الروحية الإسلامية في وزارة العدل الهولندية. صدرت له الكثير من الكتب والمقالات العلمية حول مختلف قضايا المسلمين في هولندا. www.mohamed-ajouaou.com