تنتاب أوروبا، هذه الأيام، حالة من الخوف والهلع تجاه المساجد وأئمة المساجد، إذ يعتبر الكثيرون هذه الأخيرة وكرا للتطرف الذي يفرخ الإرهاب بفعل تأثير أئمتها القوي في تشكيل عقول الشباب وإعادة صياغتها بزرع أفكار تدعو إلى العنف وتغذي الكراهية. لذلك، أقدمت عديد من الدول الأوربية على سحب الرخص من بعض المساجد هي في طور البناء، والتشديد على بعضها الآخر بعدم تمكينها من الحصول على الاعتراف الحكومي الذي يمكنها من الاستفادة المباشرة من بعض الامتيازات التي تمنحها الدولة، ثم سحب الجنسيات والإقامة من بعض الأئمة الذين اتهمتهم بالتورط المباشر في بعض حالات التطرف؛ ففرنسا وحدها مثلا قد قامت بإغلاق ما لا يقل عن عشرين مسجدا ومصلى منذ بداية العام الماضي، وقامت بطرد نحو ثمانين شخصا بينهم أئمة مساجد بتهمة تبني خطاب متشدد والدعوة إلى الكراهية. وكان قد سبقت هذه الإجراءات إجراءات أخرى على الصعيد التشريعي، إذ كانت حزمة القوانين التي قامت بعض الدول الأوروبية باستصدارها مثل "مقترح قانون دانماركي لمصادرة جواز السفر في حالة علاقة أي شخص بالإرهاب" مثار نقاش واسع بين شريحة من السياسيين المنافحين عن هذه التشريعات وبين بعض الحقوقيين الذين رفضوا فيها المساس بالحقوق الأساسية لفئة خاصة من المواطنين، وخاصة المسلمين الذين يحسون بأنهم المستهدفون بهذه القوانين والتي يعتقد أنها ستسهم في تهميش وإقصاء فئة عريضة من المواطنين وستخلف آثارا سلبية على النسيج الاجتماعي الأوروبي. ففي النمسا مثلا، قامت السلطات المعنية بإحداث قانون جديد سمته "إسلام جديد"، يشتمل على حزمة من التوصيات؛ منها إحداث ترجمة واحدة للقرآن الكريم تكون هي المتداولة بين الجميع توافق عليها السلطات النمساوية، وحظر بناء المساجد، أو إحداث جمعيات بتمويل من الخارج، وتدريس مادة الدين الإسلامي خارج جمعيات غير مرخصة. هل هذه الإجراءات استثنائية تندرج ضمن توجهات بعض الدول الأوروبية لمسايرة شريحة سياسية مهمة بدأت تأخذ موقعها في الحياة السياسية الأوروبية والتي أصبحت تنادي صراحة بإغلاق المساجد وترحيل المسلمين؟ أم هي منظومة عامة انخرطت فيها كل أوروبا لتجفيف منابع الإرهاب واقتلاعه من جذوره، إذ دلت الوقائع أن جل المنخرطين في قضايا الإرهاب أصولهم إسلامية؟. والسؤال المهم الذي يجب أن يثار هو: "هل للمساجد، فعلا، علاقة بقضايا التطرف وموجات الإرهاب الذي يضرب أوروبا؟ وهل الإمام وبكل ما يحمله من رمزية ودلالة هو المحرك الفعلي والمسؤول الأول عن هذه الجرائم؟ منذ أن صرح برنار كازانوف، الوزير الفرنسي السابق، بعد هجمات باريس قائلا: "لن تسمح فرنسا بمتطرفين على أرضها، وستقوم بكل الوسائل لترحيل كل إمام يدعو الى الكراهية"، بدا هذا الخطاب وكأنه قد فتح أعين أوروبا على مصدر الإرهاب ومنشئه، وصار اسم الإمام على لسان كل سياسي حاول الاقتراب لمعالجة الظاهرة. لقد أعادت السلطات الأوروبية الى النقاش العام دور الإمام في المجتمع وأهمية وجوده ضمن فئة اجتماعية تحس بضرورة وجوده إلى جانبها. لذلك، فقد حاولت السلطات إدماج صورة الإمام ضمن المعادلة الصعبة، لإيجاد صيغة مناسبة تعتمدها كحل لمعضلة الإرهاب؛ فأحيانا تلصق به تهمة التحريض والتجنيد والتشجيع المفضي إلى التطرف والإرهاب بشكليه المباشر وغير المباشر، وأحيانا تبرزه كقوة فاعلة لكبح جماحه المتمدد في المجتمع الأوروبي. لذلك، تنوعت خطابات العديد من الفعاليات الأوروبية التي وصلت حد التناقض في تقييمها لدور الإمام والوقوف على مدى سلبيته أو نجاعته في الانخراط المباشر إلى جانب الدولة والمجتمع للحد من ظاهرة الإرهاب والقضاء عليه. كثيرة هي التصريحات الأوروبية التي تدين الإمام وتجعل منه شريكا مباشرا في تفاقم ظاهرة التطرف والإرهاب في أوروبا، إذ اتهم الرأي العام الألماني مؤخرا أئمة المساجد بتجنيد الشباب المسلم للالتحاق ببؤر الصراع والتوتر في العالم. وقد صرح بعض خبراء الإرهاب في بريطانيا أن بعض المساجد في أوروبا "يقودها أئمة متطرفون يقومون بغسل أدمغة بعض رواد هذه المساجد بالأفكار المتطرفة". كما أن هناك أصواتا كثيرة أيضا تنبعث من أفواه صناع القرار في أوروبا تبرئ ساحة الإمام من هذه التهمة، باعتبار أن المتطرفين الإرهابيين لم يتربوا في أكناف المساجد ولا على أيدي أئمتها؛ بل ألقوا بالتبعة على المواقع الإلكترونية التي تسقطهم في حبال الإرهاب. وقد صرح أحدهم قائلا: "إن أئمة المساجد يتصدرون الصفوف الأمامية في محاربة الإرهاب والتطرف في أوربا، وأن الإرهابيين يتخرجون من السجون والحانات والمواقع الإلكترونية ولم يعرفوا طريقا في حياتهم إلى المسجد". هل كل من يؤم الناس في الصلاة يستحق صفة الإمام؟ هذا السؤال يجب أن يتبادر إلى ذهن أصحاب القرار قبل أن يتخذوا أي إجراء في حق من يؤم الناس للصلاة في المساجد ولا يصح تسمية من يقع في أيدي العدالة بهذا الاسم . إن استحضارنا لشخصية الإمام في العصر الحديث يرجعنا إلى تاريخ المجتمعات الإسلامي لاستجلاء صورته التي شاركت في صنع أحداث لها رمزيتها الحضارية واضطلعت بوظائف لها ريادتها السياسية والاجتماعية في تقاطع عجيب بين الديني والدنيوي. إنه الشخصية الرمزية الوازنة المنتجة للدلالة والساهرة على إضفاء المعنى على حياة الناس من خلال ربطهم بالمقدس؛ إنه المحور داخل المنظومة الاجتماعية الإسلامية، إذ هو الذي يعقد العقود ويفسخها والقاضي الذي يسترد الحقوق ويفصل في النزاعات الأسرية والقبلية؛ وهو المثقف الذي يفتح للقبيلة نافذة المعرفة نحو الخارج، إذ يأتيها بأخبار البلد ويقرأ الرسائل الواردة لأهل القرية، ويبارك مواسم الغلة، ويستسقى به أيام الجفاف، ويعالج مرضاهم ويشارك أفراحهم وأتراحهم؛ فهو بهذا محط تقدير الجميع ومحل إجماعهم.. هذه هي صورة الإمام عند كل مسلم يعيش في أوروبا، وقد استقاها من مخيلته التي تشبعت بتقاليد اجتماعية في بلده الأصلي، وهو عنده صمام الأمان من كل نزعة تطرفية أو إرهابية خاصة حينما يستشعرون فيه ذلك الإخلاص والتفاني في خدمة المصلين من تربية لأطفالهم وتعليمهم القرآن واللغة العربية وعقد القران لبناتهم والدخول في الصلح بين المتنازعين من أسرهم ثم الإجابة عن أسئلتهم وفتاويهم وكل ما يلزم الجالية المسلمة في عاداتها وقضاياها الشرعية مع ما يتطلبه هذا من جهد وإمكانات ووسائل لم تكن لها الضرورة الملحة في بلده الأصلي كما هي عليه في أوروبا. هل أئمة مساجدنا في أوروبا يستجيبون لشروط وصفة الإمام سالفة الذكر؟ أغلب المتصدرين للإمامة في مساجد أوروبا إما من الطلبة الذين جاؤوا لاستكمال دراستهم ولم يتوفقوا في تلك الغاية، فالتجأوا إلى هذه المهنة لتعويض النقص الحاصل جراء فشلهم الدراسي؛ أو من صفوف العمال الذين اعتمدوا على مجهوداتهم الشخصية وصاروا تلاميذ نجباء لبعض الرموز العلمية يحفظون دروسهم ويستمعون إلى أشرطتهم ويقلدونهم حتى في طريقة أداء دروسهم ومواعظهم؛ أو من الشباب المزداد في أوروبا وتعلم بعض أصول الدين والعربية بمجهودات شخصية أو من خلال بعثات دراسية لبعض دول الخليج. هؤلاء الخطباء الجدد لم يندرجوا في سلك الإمامة كما حددها الشرع والعرف ببلادنا الأصلية؛ بل مقلدون يجترئون على الشرع والفتوى دون الإلمام بأصول الإمامة ينافسون الأئمة الحقيقيين في وظائفهم التقليدية كمرشدين لهم هيبتهم الدينية في الوسط الاجتماعي. ويعد هؤلاء ضمن تيار يقحم مجموعة آرائه الخاصة ومواقفه وممارساته ضمن قوالب دينية يقينية يسعى من خلالها إلى الالتفاف حول عفوية بعض الشباب وبساطة معرفتهم الدينية لإشراكهم في قضايا تراثية بأدوات تراثية منفصلة عن الواقع الأوروبي وسياقه. وقد أسهم هذا النوع من الخطاب في تغذية نزعة التطرف والميل نحو الإرهاب، كما أسهم بشكل كبير في تغذية النزعات القومية المتشددة ضد تواجد الاسلام والمسلمين في الغرب أو ما أصبح يعرف ب"الإسلاموفوبيا". مقترحات للإمام كان على الإمام في أوروبا أن ينتظر أكثر من نصف قرن حتى يلتفت إليه ويسترعي انتباه طبقات كانت تجد حساسية مفرطة تجاه قضايا الدين، إذ كانت تدخلها ضمن القناعات الفردية التي تفضل إبقاءها ضمن مجال محدود. على الإمام أن يعي تمام الوعي بالحالة الفارقة التي يمر بها عليه أن يعي بأنه يعيش زمن العولمة بكل ما يفرضه هذا العالم من تحدّ: تحدي البروز والظهور في الواجهة، وتحدي الدخول في المنظومة الأوروبية ومسايرة آليات الاجتماع الإنساني، وتحدي الخروج من الفوضى والانخراط في نسق الانضباط على المستوى الخاص والعام. ولأجل الوصول بالإمام إلى مبتغاه لا بد من الوقوف إلى جانبه، ليكون في مستوى هذه التحديات؛ وذلك بالإسراع إلى إمداده بكل المقومات التي تؤهله لذلك، ومنها قضية التكوين. ونقصد بالتكوين مرافقة الإمام ليكون عضوا إيجابيا في مجتمعه الجديد بالشكل الذي كان عليه في مجتمعه الأصلي و حاولة تقويته عبر إمداده بما يلزم من وسائل لتأدية دوره في توظيف قدراته الإبلاغية المؤثرة، للحيلولة دون تطرف الشباب والوقوع في براثن الإرهاب آخذا بعين الاعتبار مؤهلاته النفسية واستعداداته القبلية ومحاولة تخفيف ثقل المفاجأة عليه. وأصبح لزاما عليه الدخول في معادلات ترتبط بوجوده ونمط عيشه أولا ثم الدخول في قضايا يصعب معها التمييز بين ما هو سياسي وثقافي وديني مع الاحتكاك بأطراف تؤثر راهنيا بالواقع الاجتماعي سياسيا "أحزاب وحكومات" وثقافيا "كتاب وأساتذة جامعات وصحافيون" ودينيا "رجال الدين ولا دينيون وكنائس وأديرة"، إذ إن إدخال الإمام في معمعة بهذا الحجم يتطلب مرافقة جادة تؤهله لولوج مهامه بفعالية واقتدار. سوف لن أناقش قضايا أثيرت حول التكوين من تولي الجامعات الغربية هذه المهمة ولا البرامج المخصصة لذلك ولا التمويل فقط أريد أن أشير إلى المبادرة التي قام بها "المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة" و"مجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج" بالشراكة مع معهد "غوته الألماني للغات" والتي كانت تجربة رائدة في هذا المجال يجب الاستفادة منها وتعميمها على سائر التراب الأوروبي.