ثمة في بلادنا، العديد من مسارات الحياة "الناجحة" لشخصيات سياسية، بدأت أولى خطواتها في الحياة، وهي تُعاني شظف العيش، غير أنها تحولت بفعل "ساحر" إلى الثراء الفاحش، إلى حد جعلها على المستوى العالمي، مُفارقة مُثيرة، في بلد من أهم صفاته الاقتصادية والاجتماعية، التخلف والخصاص. وللغراية، فإن المغرب، لا يتوفر على مصادر ثروات طبيعية كبيرة، مثل آبار النفط أو مناجم الذهب، مما يجعل "اللغز" كامنا في "كهف" إدارة الشأن العام، حيث يكفي أن يظفر فلان أو علان، من النكرات، بأحد المناصب العمومية المهمة، ليصنع مسار الثراء في "رمشة عين" هي التي تدومها مسؤولية، وزير أو مدير عام إحدى المؤسسات المالية العمومية. "" فلا أحد، تقريبا، ممن تجشموا عناء فهم "الظاهرة" يجهل، أن هناك تواطؤا ضمنيا، بين شكل ومضمون الدولة، لمغرب ما بعد الاستقلال، وقصص الثراء الفاحش، لكثير من المسؤولين، حيث من الواضح أن قمة الهرم في الدولة، اعتمدت "تقنية" شراء النخب السياسية والتدبيرية، في عملية توزيع مُحكمة للأدوار، وبالتالي، أصبحت ظاهرة الاغتناء غير المشروع "مُقَعَّدة" - من القاعدة -. والأفدح أن هذه "التقنية" أصبحت من قبيل المسلمات، في النسيج الاجتماعي للمغاربة، حيث لن يكون مثلا مما يسهل "هضمه" اجتماعيا، أن يخرج أحدهم من تجربة وزارية، وهو يقطن بيتا مُكترى، كما حدث مثلا للرئيس الفرنسي السابق "جاك شيراك" أو عديد من مسؤولي الدول المتقدمة، عند مُبارحة مسؤولية ما، كبيرة في إدارة الشأن العام.
إن هذا غير مقبول، في المغرب، فأقل ما سيُنعث به المعني هو وصف "كانبو" إن لم يكن الأفدح. ويجب القول، أن النخب السياسية والفكرية في المغرب، منحت ما يكفي من "المبررات" لهذه الوضعية المُزرية، التي عطلت التقدم في البلاد، خلال فترات حاسمة، وذلك عبر قابليتها لأن تُشترى في كل الظروف.
هكذا إذن تحول مناضلون "عُتاة" في مغرب ما بعد الاستقلال، إلى مجرد موظفين كبار، لدى الدولة، لكنهم صغار، من وجهة نظر منطقهم "النضالي" السابق نفسه، وصنعوا ثروات ضخمة لم يكونوا يحلمون بها من قبل.
في الملف التالي، الذي أعددناه، ثمة جرد لمسارات حياة عينات شخصيات سياسية مغربية، من بعض الضفاف السياسية، انطلقت ماديا، من لا شيء تقريبا، لتدخل عالم الثراء الفاحش، من أشد أبوابه ضيقا، هنا أربعة نماذج من السياسيين المغاربة الذين اغتنوا، بعد إملاق، وهم الوزيران الأولان السابقان: كريم العمراني وعز الدين العراقي، ووزير البريد ثم الفلاحة سابقا، امحند لعنصر، ووزير المالية والاقتصاد سابقا فتح الله والعلو.
كريم العمراني: "لي ما عندو فلوس كلامو مسوس"
ينحدر كريم العمراني، من عائلة متوسطة من مدينة فاس، وُلد أواخر سنوات عشرينيات القرن الماضي، ولم يُوضع علي مقاعد الدراسة، على غرار أبناء البورجوازية التجارية الفاسية، بل انهمك في بعض الأعمال التجارية البسيطة، منذ فترة المُراهقة، مكتفيا بالأخذ ببعض المعلومات المُفيدة، من أصدقاء أبناء أحياء فاس الراقية، الذين كانوا ينسجون علاقات اجتماعية ومصلحية، مع أبناء المُعمرين، وفي ذلك الوسط المُختلط، اختار المراهق كريم العمراني طريقه، نحو الارتقاء الاجتماعي، وعندما رحلت الأسرة إلى مدينة الدارالبيضاء، افتتح محلا لبيع أجهزة المذياع، بالمدينة القديمة، وكان أهم رأسماله، صداقاته لبعض المعمرين من رجال الأعمال الفرنسيين، الذين لم يكتفوا بجعله يتحدث لغتهم بطلاقة، ويكتسب طرائق سلوكهم وتفكيرهم، بل منحوه القنوات المُجدية، لانجاح مشاريعه، وفي الوقت الذي انخرط أغلب مُجايليه، في حزب الاستقلال، فضل كريم العمراني، أن يظل بعيدا عن السياسة الحزبية، مُفضلا نوعا آخر من السياسة، تمثل في إنجاح مشاريعه التجارية البسيطة، أي بيع اجهزة "الراديو" التي كانت أهم أداة إعلامية آنذاك. وسيعرف أولى صلاته بدار المخزن، حينما التقى في بيت أحد أصدقائه بأحمد العلوي، الذي كان يعمل ضابطا في الجيش الفرنسي، وفي نفس الوقت، لديه صداقة متينة مع الحسن الثاني، حينما كان وليا للعهد، التقط هذا الأخير الحس البراغماتي، والرغبة المُلحة، في إنجاح الأعمال، فقربه منه، وحينها وجد كريم العمراني طريقه، إلى بيوت الكثير من رجال الأعمال المغاربة والفرنسيين، وبفضل ذلك، حصل على مهام إدارة بعض أعمال هؤلاء وأولئك، في مجالات الاستراد والتصدير والصناعة، لقاء عمولات مُعينة، وهي فترة حاسمة في حياته العملية، حيث خبر كواليس الأرباح الطائلة، التي يجنيها وسطاء مجالات المبادلات التجارية، وظهرت عليه معالم حياة البورجوازية الصغرى، حيث انتقل للسكنى بأحد أحياء المعمرين الفرنسيين بالبيضاء، ليترك إلى الأبد الحياة الاجتماعية التي انطلق منها أول مرة من مدينة فاس.
غداة الاستقلال، استغرب الكثيرون، كيف استطاع "كريم العمراني" الذي لم يُمارس السياسة قط في حياته، أن يتسلم منصب مدير ديوان عبد الرحيم بوعبيد، في وزارة المالية والاقتصاد ضمن الحكومة التي شكلها محمد الخامس، لتبدأ قصة مناصبه الحكومية، العديدة، عبر الحكومات المُتعاقبة بعد الاستقلال، منها منصب الوزير الأول ثلاث مرات، غير أنه لم يترك جانبا، أعماله التجارية، حيث عزز رصيده في هذا المجال، من خلال دُخوله على خط سياسة "المغربة" للعديد من شركات المُعمرين الفرنسيين، فبالاضافة إلى شركاته التجارية، في مجالات صناعية، منح اسمه للعديد من أصحاب الشركات الفرنسية العاملة في المغرب، نزولا في الظاهر، عند مُقتضيات المغربة، وذلك مُقابل أسهم في شركات التصنيع والاستيراد والتصدير والتأمين... إلخ، ولم تكن قد حلت بداية سنوات السبعينيات، حتى كان "كريم العمراني" واحدا من أثرى الأثرياء في المغرب، حيث لم تكن هناك حدودا لمجالات تدخلاته الاقتصادية والمالية، في النسيج الاقتصادي للبلاد، لدرجة أن بعض كوادر الحزب الشيوعي المغربي، حولوا اسم "المغربة" إلى "العمرنة". وبطبيعة الحال، كان كريم العمراني يعرف كيف يرد "الدَّين" لدائنيه، وعلى رأسهم الحسن الثاني، حيث لم يكن يتأخر في الاستجابة لطلبات ضخ أموال، للعديد من مهام تصريف شؤون الدولة، الكبيرة والصغيرة، وهناك مَن اعتبره وزير مالية الحسن الثاني الحقيقي. وحينما استلم منصب الوزارة الأولى، أوائل سبعينيات القرن الماضي، اعتمد سياسية اقتصادية مصيرية، سنة 1973، إبان أزمة النفط العالمية، حيث قرأ في معطى المُقاطعة النفطية العربية للدول الغربية، إشارة بارتفاع أسعار الفوسفاط في السوق العالمية، ومن تم أدخل البلاد، في عدد من المشاريع الضخمة، كانت تمويلاتها تأتي عن طريق الاستدانة الداخلية والخارجية، وما حصل أن سعر الفوسفاط لم يرتفع، لتبقى الديون الضخمة على ذمة خزينة الدولة، وحسب دارسي تلك الفترة، فإن خطوة "العمراني" تلك هي التي رهنت الاقتصاد المغربي، لشبكة القروض الخارجية، والتي ما زال المغرب يُعاني من مضاعفاتها لحد الآن.
وعلى العكس من ذلك، فإن ثروة كريم العمراني اليوم، يصدق عليها قول "مصائب قوم عند قوم فوائد" حيث إنها تضاعفت مئات المرات، من خلال تدخلات ومُساهمات، في العديد من القطاعات التجارية والصناعية والخدماتية، غير أن الرجل ظل "وفيا" لمنطلق نجاحه الأول، فهو اقتصر على "البيع والشراء" وتجنب قطاعات المُضاربات المالية، ووجه الكثير من نشاطه التجاري إلى الخارج، حيث يتوفر في أكثر من موطىء قدم تجاري، في العديد من البلدان الأروبية، وتجنب بالمقابل إقامة مجموعة اقتصادية استثمارية، مُكتفيا بما تُدره عليه قطاعات التجارة والتصنيع التقليدية، حيث يحتكر بعض انتاجات المواد التقليدية في مجالات المواد الغدائية.
يقول عنه أحد مجايليه، اقترب منه لفترة من الوقت، جوابا على هذا السؤال: ما هو سر صعود "كريم العمراني" من أخمص الهرم الاجتماعي إلى ذُراه؟.. "يتصف العمراني بمميزات شخصية نادرة، منها بشاشته الدائمة، وحس النكتة لديه، وهو ما دلل امامه كل صعوبات الاتصال، بمختلف الأوساط الاجتماعية، كما أنه على مرونة كبيرة، تجعله، يحسب بدقة أوجه الرباح والخسارة، في كل المعاملات التي خاض فيها" مستطردا: "فمثلا حينما تسلم مهمة إدارة المكتب الشريف للفوسفاط، في فترة كان فيها النشاط النقابي على أشده، استطاع، بمرونته وحس التواصل العالي لديه، أن يجعل الأوضاع النقابية تهدأ بالرغم من أنه لم يأتِ بجديد للرفع من مستوى المؤسسة"... "وهو نفس حس المرونة - يقول آخرون ممن احتكوا به في أكثر من موقف – الذي جعله دائما، على وفاق مع أصحاب مختلف وجهات النظر السياسية والتدبيرية" كيف؟ "لقد ظل صديقا للاشتراكيين، بدليل تسلمه منصب مدير ديوان عبد الرحيم بوعبيد في وزارة المالية، كما صديق الليبيراليين والرأسماليين، ليس على الطريقة المغربية فحسب، بل في فرنسا أيظا" مضيفين: "غير أن حس البراغماتية لم يُفارقه أبدا، في مختلف مراحل حياته وتجربته التجارية والحكومية، فهو لم يصطدم أبدا مع كبار رجالات المخزن، بل منح كل الذين احتاجوا لخدماته، أكثر مما كانوا يأملون منه، ومنهم إدريس البصري مثلا" وعلى ذكر هذا الأخير فقد كان يردد، في بعض جلساته الخاصة: "لقد تعلمتُ من صديقي كريم العمراني هذه النصيحة: (لي ما عندو فلوس كلامو مسوس).
عز الدين العراقي: ثروات المناصب التي لا تنتهي
يُنسب عز الدين العراقي، لإحدى العائلات الفاسية البورجوازية، وهو ما أهله للاختلاط منذ فترة الشباب، بنخبة أبناء البورجوازية المغربية، الذين احترفوا العمل السياسي، لذا كان على صلة وثيقة، بطموحات أبناء شريحته الاجتماعية، وبطبيعة الحال كان المكان "الطبيعي" لعز الدين العراقي الذي كان قد اجتاز حينها - أواخر عقد الأربعينيات من القرن الماضي - مراحل الدراسة حتى الجامعة، هو الانضمام إلى حزب الاستقلال، ووجد موقعه شبه جاهز في اللجنة التنفيذية للحزب المذكور، باعتباره من نخبة شباب مدينة فاس.
غير أن المسار الحقيقي للرجل، بدأ حينما تسلم حقيبة وزارة التعليم في حكومة "كريم العمراني" أوائل سنوات السبعينيات من القرن الماضي، حيث انغمر في مشاريع عديدة تداخل فيها الخاص بالعام، كيف ذلك؟
لقد تبنى الرجل، مشروعا كبيرا، تمثل فيما عُرِف بسياسة تعريب التعليم وتعميمه، ومن صُلب هذا المشروع، حقق "عز الدين العراقي" أكبر معاملاته المالية، حيث إنه في خضم تجهيز مختلف أنحاء البلاد بعشرات المئات من البنايات المدرسية (كانت هذه البنايات في حاجة إلى تأثيث بالكراسي والطاولات، بطبيعة الحال ) لذا جاءت الرجل فكرة إنشاء مصنع حديث لإنتاج حاجيات المدارس الضرورية، من المصنوعات الخشبية المذكورة، وحصل عز الدين العراقي، طبعا على امتياز تموين المدارس العمومية، على امتداد التراب الوطني. ويُمكن للمرء أن يتصور ضخامة الثروة، التي جناها الرجل، من تلك المعاملات، في مغرب شهد على مدى أزيد من عقد من الزمن، حركة نشيطة، في بناء المدارس والإعداديات والثانويات بمغرب ما بعد الاستقلال.
أما حينما تسلم منصب الوزير الأول، منذ سنة 1986 وعلى مدى السنوات الست المُوالية، فقد سعى أيضا إلى "مُلاءمة" العديد من المشاريع التجارية والصناعية للدولة، مع استثماراته في تلك المجالات، على غرار العديد من أفراد البورجوازية المغربية، الذين حرصوا على الاستفادة أكثر فأكثر، من مشاريع الدولة في العديد من القطاعات.
كما اهتم أيضا بالضيعات الفلاحية، التي لديه منها بضع عشرات في مختلف أنحاء البلاد، غير أن "أشهرها" تلك التي يقع في وسطها منزله الفخم بطريق زعير بالرباط، وذلك لأنها - أي الضيعة المذكورة شهدت أحداثا تناولتها الصحافة - حينما عمد عز الدين العراقي، إلى الاستفادة، من الخدمات العمومية للمكتب الوطني للماء، في سقي عشرات مئات هكتارات ضيعته المذكورة، ، وذلك عبر عملية وصل بأراضيه الزراعية، في المنطقة، على مدى قطر يصل إلى خمسة كيلومترات، وما حدث بعد ذلك، أن وزارة الأشغال العمومية، قررت إقامة سد على نهر أبي رقراق، وبالتحديد في منطقة الولجة، المتاخمة لعين عودة، حيث توجد ضيعة "عز الدين العراقي"، ليطالب هذا الأخير، أن يتم إيصال خدمات السقي من السد المذكور بضيعته، وهو ما تم بالفعل، وكان أن كلفت أشغال إقامة شبكة الري المذكورة، سبعة ملايين دولار، واستغل الوزير الأول السابق، هذه الخدمات الضخمة، ليُنجز بحيرة شاسعة في ضيعته، خصصها لتربية الضفادع، الموجهة للتصدير إلى الخارج، وهي تجارة مُربحة جدا، لا تُكلفه أي شيء تقريبا، أي أن "كلشي من عندهوم" كما نقول باللسان الدارج، وبطبيعة الحال، لم يتسن للرجل أن يحقق "مشاريعه" الفلاحية تلك، دون أن يتسبب في أضرار بالغة، لأراضي الفلاحين البسطاء في الجوار، الذين عاينوا كيف شحت المياه عن مزروعاتهم المعاشية البسيطة.
لم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، فقد عادت وزارة الأشغال العمومية، لتقدم المساعدة لعضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، ووزير التعليم السابق "العراقي" من خلال تشييد الطريق التي تصل ضيعته بالطريق الرئيسية، وهو ما كلف المالية العمومية، مبلغا ضخما، لا يقل عن مليون دولار، أي أزيد من مليار سنتيم، كما أن المكتب الوطني للكهرباء مده بمساعدة أخرى، من خلال تزويد مرافق الضيعة الفلاحية للعراقي بالتجهيزات الكهربائية، بما كلف خزينة الدولة 900000 دولار، أي ما يقرب من مليار آخر (ويجب أن نضع في الحسبان قيمة المليار الكبيرة منذ أزيد من عشرين سنة ) ويجب أن نُشير إلى أن مصدر تلك الأموال كان من قروض أمريكية للحكومة المغربية.
كما أن "العراقي" فرض على مكتب المساهمة المعدنية، حفر آبار لتعزيز مخزون سقي أراضيه، تحسبا لمواسم قلة مخزون سد أبي رقراق من المياه، مستفيدا من وجود صهره "علي بناني" حينها على رأس إدارة المكتب المذكور، وبالرغم من التقرير التقني السلبي، الذي أُنجز قبل القيام بعمليات الحفر، إلا أن "العراقي" تشبث بمطلبه، مما كلف إنفاق 400000 دولار إضافية، في إيصال خدمة أخرى لأراضيه. وكان من شطط تلك المطالب وضخامة تكاليفها، أن وصلت إلى علم الحسن الثاني، فغضب من "عز الدين العراقي" فترة من الزمن، واستبعده على مدى أزيد من عقد، من الاضطلاع بمهام حكومية، غير أنه عاد إلى مواقعه السابقة، كاحد كبار رجالات الحسن الثاني، حين عينه هذا الأخير في منصب أول رئيس لجامعة الأخوين بمدينة إفران، وخصص له أجرا شهريا، بقيمة 60 ألف درهم، زائد مُساهمة في التقاعد التكميلي لا تقل عن 120 ألف درهم، شهريا، مستثناة من أية ضريبة على الدخل، وذلك بالرغم من أن لغة التدريس الأساسية، في الجامعة المذكورة، هي الإنجليزية، والتي لا يفقه فيها "عز الدين العراقي" كلمة واحدة، باستثناء "ثانك يو".. وهو ما دفع الرجل، إلى تسجيل نفسه حينها، في إحدى الجامعات الأمريكية بنيويورك، مع إقامة هو وباقي أفراد أسرته في فندق "لابلاصا" الشهير، بما يعني أنه كان غائبا أغلب الوقت عن إدارة جامعة الأخوين".
واليوم فإن "عز الدين" العراقي برح كل المهام الرسمية، منذ رئاسة منظمة المؤتمر الإسلامي، ويُقيم في ضيعته بطريق زعير بالعاصمة، يرعى تربية الضفادع الموجهة للتصدير، خاتما حياته "العملية" بوضع اجتماعي ومادي، أكثر من مريح، باعتباره واحدا من أثرى أثرياء البلاد.
فتح الله والعلو: أموال العِلم والمخزن العميمة
ولِِد فتح الله والعلو في بداية سنوات الأربعينيات، بحي ديور الجامع، بالرباط، لأسرة مُتواضعة، كان مُعيلها يعمل بقالا، هاجر من إحدى مناطق سوس، وتابع دراسته الابتدائية بمجموعة مدارس محمد الخامس، ثم ثانوية مولاي يوسف الشهيرة، وانخرط في مرحلة المراهقة، في العمل السياسي بحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وكان جاره، ونموذجه النضالي، هو المهدي بنبركة، وفي مرحلة الستينيات أصبح "والعلو" شابا حيويا، كثير الحركة في صفوف الشبيبة الحزبية، بل واستطاع أن يكسب ود وصداقة، كبار الاتحاد أمثال عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي، وعبد الواحد الراضي والآخرون، يقول بعض ممن جايلوه في العمل السياسي، أنه كان يتسم، عكس كثير من شباب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بسلوكات واختيارات، مُعتدلة، في الحياة الشخصية، والعمل السياسي، وميالا أكثر إلى حل الخلافات عن طريق الحوار، ويجنح أكثر لنوع السلوك المُتحضر، وينفر من النزوعات الغوغائية والدوغمائية، كما كان شديد الاعتداد بنفسه، وبحس ذكاء واضح.
وشكلت مرحلة دراسته الجامعية، شعبة الاقتصاد بجامعة مدينة "غرونوبل" الفرنسية، مُنعطفا حاسما في حياته، إذ كانت تلك فُرصته، التي صقل من خلالها ميولاته الدراسية الجادة، ليُصبح واحدا من أهم الأطر المغربية، الأكاديمية إلى جانب الراحل عزيز بلال، في مجال الاقتصاد.
وكان كبار قادة الاتحاد ينظرون إلى فتح الله، باعتباره العقل الاقتصادي للحزب، خلفا لعبد الرحيم بوعبيد، الذي أخذته مهمامه السياسية والتنظيمية، بعيدا عن مجالات الاشتغال والدراسة الأكاديميين. غير أنه حينما احتدت العلاقة بين الحسن الثاني والمهدي بنبركة، في بداية سنوات الستينيات، من القرن الماضي، نأى "والعلو" قليلا، عن ذلك الجو المشحون، في الصالونات السياسية بالرباط، وانشغل أكثر بإدارة شؤون فرع الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بفرنسا، إلى جانب الحبيب سي ناصر(أخ وزير الثقافة السابق علال سي ناصر) وهي المرحلة التي شهدت تنافسا حادا، بين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وحزب التقدم والاشتراكية، بهدف السيطرة على التنظيم الطلابي "أوطيم" مع العلم أن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كانت له اليد الطولى تنظيمييا، في "أوطيم". بعد اختطاف واغتيال المهدي بنبركة، التحق "والعلو" بزُمرة عبد الرحيم بوعبيد الحزبية، ليُصبح بالتالي واحدا من قادة الحزب.
يتذكر مُجايلوه أيضا، أنه تعرض خلال سنوات أواخر عقد الستينيات من القرن الماضي، لمُضايقات مخزنية، زمن أوفقير، كانت تُحصي عليه حركاته وسكناته، سيما حينما كان ينتقل إلى الخارج، حيث كان قد عرف كيف يعقد صداقات متينة مع العديد من الشخصيات السياسية والأكاديمية، سيما في أوساط الحزب الاشتراكي الفرنسي.