تأتي زيارة رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق أول سعيد شنقريحة إلى الدولة المستعمرة السابقة فرنسا في سياق إقليمي ودولي مطبوع بالعديد من التحولات الجيو-استراتيجية، خصوصا بعد تصاعد نبرة العداء الجزائري للمغرب، واحتدام الحرب الروسية الأوكرانية، وتزايد النفور الإفريقي من التواجد الفرنسي في منطقة الساحل والصحراء. وتثير الزيارة الأخيرة لسعيد شنقريحة إلى فرنسا في هذا السياق الدولي المحموم العديد من الأسئلة والاستفهامات، لكونها تعتبر أول زيارة لرئيس أركان للجيش الجزائريلباريس منذ أكثر من سبع عشرة سنة، عندما زار الفريق القايد صالح فرنسا سنة 2005؛ كما أنها تأتي في سياق تزايد الصراع الروسي الفرنسي على التغلغل في منطقة الساحل عبر منفذ الجزائر. الجزائر بين التقارب الفرنسي والنفوذ الروسي يبدو أن سعيد شنقريحة كمن يلعب "الباليه" على حافة شفرة حادة، فهو بهذه الزيارة الأخيرة يقترب أكثر من محور فرنسا التي وصف وزير دفاعها صراحة روسيا ب"العدو"!. لكن في المقابل، تبقى روسيا وبوتين أكبر حليف عسكري وأول مورد للسلاح والعتاد وقطع الغيار للجيش الجزائري، بل إنها صانعة العقيدة العسكرية الجزائرية، وبالتالي فإن كل تقارب مع فرنسا "العدو"، على حساب الحليف الروسي، سوف يثير غضب الكرملين، الذي باتت أعصابه سريعة الانفعال مؤخرا بسبب تداعيات الحرب على الواجهة الأوكرانية. وفي هذا الصدد، تشير العديد من التقارير الغربية إلى أن روسيا لا تنظر بعين الرضا للتقارب الجزائري الفرنسي، خصوصا بعد التصريحات الأخيرة لعبد المجيد تبون الرافضة لتواجد قوات فاغنر في مالي، وكذا خضوع قصر المرادية لضغوطات الغرب بشأن التقليص من ميزانية الدفاع، التي ناهزت في البداية 23 مليار دولار أمريكي، وكانت ستنتهي كلها في مخازن الكرملين التي أنهكتها حرب الاستنزاف في الجبهة الأوكرانية. ويعتبر العديد من المهتمين أن تأجيل أو إلغاء الزيارة التي كانت مقررة لعبد المجيد تبون إلى روسيا هي انتكاسة حقيقية في العلاقات الجزائرية الروسية، أيا كانت منطلقات وخلفيات هذا التأجيل أو الإلغاء، سواء كان ذلك بسبب ضغوطات أمريكا وحلفائها الغربيين أو بسبب الامتعاض الروسي مما يمكن اعتباره "الخذلان الجزائري". وفي المقابل، تراهن فرنسا على زيارة سعيد شنقريحة للحصول على جزء من ميزانية الدفاع لهذه السنة، على حساب الاحتكار الروسي السابق، خصوصا أن فرنسا تعتبر أن رئيس الأركان هو الحاكم الفعلي في الجزائر، وهو ما عبر عنه إمانويل ماكرون بكثير من الدهاء مؤخرا عندما قال إن "تبون حبيس نظام عسكري قاس". كما تتطلع فرنسا لاستغلال التدخل الجزائري في محيطها الجنوبي، خصوصا في مالي وبوركينافاسو والنيجر، لمحاصرة قوات فاغنر وكبح التغلغل الروسي، فضلا عن الإبقاء على المصالح الفرنسية في هذه المنطقة التي تدخل في مجال الأمن القومي لفرنسا، التي باتت مهددة بسبب إخفاقات ماكرون على المستوى الدبلوماسي، وكذا بسبب الاستغلال الفرنسي المفرط لمدخرات هذه البلدان. السلاح الفرنسي يهدد أمن المغاربة من المؤكد أن فرنسا تحاول جاهدة استغلال التوجس الجزائري من التقارب المغربي الأمريكي الإسرائيلي لخدمة أجنداتها في المنطقة، فهي تعلم جيدا أن الجيش الجزائري يعيش حاليا حالة وهن مفرطة، بسبب اعتقال أكثر من 37 جنرالا وعميدا في مختلف فروع الجيش؛ ناهيك عن تقادم السلاح الروسي الذي يستخدمه، وعدم توافر قطع الغيار بسبب إنهاك الحرب الأوكرانية للصناعة العسكرية الروسية. أكثر من ذلك، فعدم نجاعة هذا السلاح الروسي في الحرب الأوكرانية، وكذا في الحرب بين أرمينيا وأذربدجان، جعلت الجيش الجزائري يخفف من نبرة عدائه للمغرب، بسبب قوة التسليح المغربي في السنوات القليلة الماضية، وبسبب قناعته كذلك بأنه لا يمتلك مقاليد الفوز في الحرب، لاسيما مع ضعف قوات الإمداد واللوجستيك؛ فالدولة التي لا توفر السميد والحليب وأساسيات العيش لمواطنيها لا يمكنها أن تخوض حربا مفتوحة بتكلفة باهظة. لكن البعد غير المعلن في صفقات السلاح الفرنسي الجزائري، التي يحتمل إبرامها خلال زيارة سعيد شنقريحة إلى باريس، هو أن هذه الأسلحة ستنتهي في يد طغمة عسكرية متعطشة للحرب، وليست لها أي كوابح سياسية أو فرامل إستراتيجية مثل باقي الدول التي تخضع لقوانين أساسية ودساتير مقننة. ومن غير المستبعد أن تجد فرنسا نفسها تتحالف، من حيث الفعل، مع إيران التي تتقارب هي الأخرى مع الجزائر عسكريا. ومن هذا المنطلق، سوف يكون على المغاربة أن يواجهوا السلاح الفرنسي والإيراني الذي يمكن أن تستعمله الجزائر مباشرة، في عمل طائش، أو بالوكالة من خلال تسليمه من الباطن لصنيعتها البوليساريو، التي طالما رددت أسطوانة الحرب على الجدار العازل. فهل سيغامر إمانويل ماكرون بالاستقرار في المنطقة المغاربية، ويفتح مخازن السلاح للجيش الجزائري على حساب العلاقات مع المغرب؟ وهل سيقبل المغرب أن تشكل فرنسا تهديدا جديا وخطيرا لأمن المغاربة واستقرارهم؟. من المؤسف جدا أن تتحول فرنسا، في عهد إمانويل ماكرون، من حليف إستراتيجي للمغرب إلى مصدر تهديد لأمن المغاربة واستقرارهم، خصوصا في ظل تنامي الاندفاع الجزائري الفاقد للشرعية الداخلية، والباحث عن أي مشجب لترميم مشروعيته المفقودة، ولو من بوابة الحرب التي يستعمل فيها السلاح الفرنسي الموجه لصدور المغاربة.