ليس من غريب الصدف أن تجد مواجهات ثقافية في إطار احتكاك الشعوب والدول، تمر دون صدام في ما بينها على مستوى القيم، باعتبارها وجها إجرائيا للتواصل البين ثقافي بامتياز. ولعل ما أبرز ذلك، ما نشهده الآن في بطولة العالم لكرة القدم بدولة قطر، حيث تم إظهار كل من الشرق والغرب ثقافته وقيمه، ولوّحا بها مجسدة أمام أنظار الملايين من المشاهدين المتتبعين لهذا الحدث الكوكبي الكروي. غرب يظهر قيمه، وأساسا قيمة الحرية الفردية مجسدة في شعار المثلية الجنسية، والدفاع عن ألوانه المختلفة، معبرا عنه إشارة، وشارة، ورسما جسديا، وغير ذلك؛ وفي مقابل هذا الإظهار الغربي لقيم حقوق الإنسان في جيليها الأول والثاني، كقيم عالمية وعلى رأسها قيمة الحرية، نجد إعلاء لقيم محلية رافضة التواجد جنبا إلى جنب معها، الشيء الذي يدعو إلى طرح مجموعة من التساؤلات بصدد مشروعية هذا التواجد الجنبي للقيم وإلى مشروعية انخراط الدول الإسلامية تحديدا في راهن الشأن "الحداثي الإنساني الكوني"، منذ مطلع الألفية الجديدة، مع ضرورة الحفاظ على خصوصيتها وهويتها الثقافية والحضارية، أو ضرورة "التشبع بقيم التعايش مع الآخرين، في التزام بقيم الحرية، والمساواة، واحترام التنوع والاختلاف". وهذا ما يجعل منظوماتها التعليمية أمام رهانات الجمع بين المحلي والعالمي، بين الخصوصي والكوني، ورهانات الجمع بين ثنائية الأنا والآخر، وثنائية الثابت والمتحول في القيم، وتحديدا بين القيم العالمية (قيم المواطنة والديمقراطية، قيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية) والقيم الإسلامية (قيم العقيدة الإسلامية). بعبارة أخرى، أسئلة تطرح ذاتها من جديد بخصوص التطرق إلى قضايا القيم العالمية في علاقتها بالقيم الإسلامية، وفي علاقتهما بالسياق العالمي الجديد، والذي ظهر بحدة مع بروز العولمة وإشكالاتها الثقافية، والتي ساهمت في غموض مفهوم العالمية ذاته، وشككت في محتواه "الإيديولوجي"، إلى درجة طرحت سؤال مشروعية وجود قيم عالمية في حد ذاتها. وإذا ما كانت موجودة بالفعل، فما معاييرها الإنسانية العالمية التي يمكن أن يؤمن الناس بها جميعا؟ وما أشكال علاقتها بالتصرف الإنساني المناسب؟ دون الرجوع إلى الأسس التاريخية والفلسفية لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان بوصفها وجها عمليا للقيم العالمية، وكذا التطورات المصاحبة لأجيالها الثلاثة، مع طرح إشكالية السياق الحضاري الإسلامي والغربي لتشكيل مفهوم هذه القيم الحقوقية، وما يتنازعانه من بعد عالمي لقيمهما؛ ودون الرجوع كذلك، إلى كون كل الدول الإسلامية تقريبا، قد صادقت على جميع المواثيق الدولية، التي تنص على إلزامية اعتماد جميع بنود حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا -مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق وعدم قابليتها للتجزيء- ما لم تتعارض مع الشريعة الإسلامية والخصوصية المحلية؛ حيث حاولت بذلك، أن تتجه هذه الدول الإسلامية نحو الديمقراطيات الغربية في إقرارها لمبدأ سمو الاتفاقيات الدولية، المعبر عنها في المواثيق الدولية وعلى رأسها: "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، و"العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية"، و"العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"؛ ومن ذلك التوصية التي أقرها المؤتمر العام لليونسكو بباريس (نونبر 1974)، حيث "التربية ينبغي أن تكون مشربة بالأهداف والغايات التي ينص عليها ميثاق الأممالمتحدة، والميثاق التأسيسي لليونسكو، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان".. وإذا كانت القيم لا تقبل التجزئة، فلأن القيم -كما يذهب الباحث لويس داينو- تشتغل في إطار نسقها ونظامها الخاص بها، إذ هي "ليست منارات منعزلة عن بعضها البعض، وإنما هي مجموعات مندمجة في أنظمة، سواء على مستوى الفرد، أو مستوى المجتمع، أو مستوى الثقافة؛ والسؤال الأساسي بالنسبة للتربية هو معرفة مدى انسجام العناصر المكونة للقيم فيما بينها". وبالتالي، فطبيعة اشتغال القيم، بوصفها بواعث موجهة للسلوك، لا يتحقق وجودها إلا في الفعل، مجسدا بذلك معايير للسلوك الاجتماعي والتدبير السياسي ومحددات لرؤية العالم. فلا تعايش بين المنظومة القيمية المحلية، والمنظومة القيمية العالمية، في حضور مرجعيات فكرية مختلفة اختلاف تضاد وليس اختلاف تنوع، وفي حضور مركزيات قيمية متضادة، أساسهما ومبعثهما هيمنة التحيز الثقافي لكل من ثقافتيهما في نظرتهما للقيم. وهذا ما هيمن على الجيلين التأسيسيين الأول والثاني لعالمية حقوق الإنسان، حيث هيمنة قيم الحقوق فيهما، على عكس مقتضيات الجيل الثالث لحقوق الإنسان (حقوق التآزر والتضامن)، باعتبارها ذات أبعاد إنسانية اجتماعية، تلتقي حولها كل الأنظمة الثقافية رغم اختلاف مرجعيتها، وباعتبار هيمنة قيم الواجبات عليها؛ الشيء الذي يجعل تواجد كل من القيم الإسلامية والقيم العالمية، جنبا إلى جنب، أمرا "طبيعيا" وممكنا، ما دامت لهما نفس أرضية الاشتغال المتمثلة في القيم المشتركة. أي، ما دام هناك غياب للتنافر بين القيم ذات المرجعيات الثقافية المختلفة، باعتبار العلاقة الطردية التي بين الثقافة والقيم (ما يؤثر إيجابا في الثقافة يؤثر إيجابا في القيم والعكس صحيح). بمعنى، كلما تم الابتعاد عن "الأساس المشترك"، المتمثل في "التوافق القيمي"، كلما كانت هناك استمرارية لتواجد تنافر بين "مركزية الدين" و"مركزية الإنسان"، وكلما تلاشى هذا التوافق، برز على السطح إفراط في التشبث بالمركزيتين المذكورتين. وما "مونديال" قطر إلا حفازا (بالمعنى الكيميائي للكلمة) سرّع من عملية إظهار إمكانيات التفاعلات القيمية واستحالتها في وجهها المركزي الثقافي المفرط، وقد يتكرر هذا الأمر في أي مناسبة عالمية، كلما توفرت نفس شروط هذا الحفاز، وتوفرت نفس شروط الهيمنة القيمية المتمثلة في هيمنة الحقوق على الواجبات.