يؤكد المستشار طارق البشري في هذا الحوار أن المواثيق الدولية من حيث قوتها القانونية لا تعدو أن تكون قانونا، وهو ما يعني سمو الدستور عليها باعتباره قواعد حاكمة للقوانين، كما يعني سمو المرجعية الإسلامية عليها باعتبارها القواعد الفكرية الحاكمة للدستور. ويعتبر أن طرح موضوع سمو القوانين الدولية على القوانين المحلية هو جزء من صراع الإرادة الوطنية مع إرادة الهيمنة الخارجية، وينفي في هذا الحوار مقولة كونية القوانين التي يتذرع بها بعض الناشطين الحقوقيين، ويؤكد أن ما يسمى بالقوانين الكونية لا تعدو أن تكون قوانين غربية تنطلق من مرجعية القانون الطبيعي وقواعد العدالة. قضية الحرية الفردية تطرح اليوم بمقاربات حقوقية مختلفة، فهناك من يتبنى مفهوم المواثيق الدولية فيوسع من دلالة الحريات لتشمل أنماطا من السلوكات الغريبة عن الثقافة الإسلامية، وهناك من يرى أن هذه الحريات لا ينبغي أن تتجاوز سقف الخصوصية الثقافية، في نظركم هل يمكن أن نتحدث عن الحريات الفردية بالمعنى الكوني؟ لا أظن أنه من الممكن تجاوز المرجعية الإسلامية بالنسبة لشعب يدين بالإسلام ويؤمن به ويعتبره مرجعية له. الاتفاقات الدولية بالنسبة إلينا، نحن الدول العربية والإسلامية المختلفة، عندما ندخل فيها لا تعدو أن تكون قانونا، وكل قانون لا بد أن يتقيد بمرجعية البلد، وحين نتحدث عن البلاد الإسلامية فإننا نتحدث بالضرورة عن المرجعية الإسلامية، وعلى أهل القرار في هذا الشأن أن يلتزموا بالمرجعية ومقتضياتها عندما يقبلون على التوقيع على أية اتفاقية دولية. هناك تحفظ شائع على المواثيق الدولية فيما يخص حقوق الإنسان، ذلك أن الدول الإسلامية حين تعرض عليها مثل هذه الاتفاقات تتحفظ على ما يتعارض مع الشريعة الإسلامية. فالتحفظ على المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان شائع وموجود، وله ممارسات في بلاد كثيرة من بلدان العلم العربي والإسلامي. وعلينا دائما كدول عربية وإسلامية أن نلتزم بهذا التحفظ فيما يخص توقيعنا على المواثيق الدولية التي تمس ثوابت أو أحكام قطعية من الكتاب أو السنة. سعادة المستشار حينما يكون هناك تحفظ شامل من دول عربية وإسلامية كثيرة وأيضا من بعض الدول التي ترى أن بنودا في اتفاقية دولية ما لا توافق خصوصيتها الثقافية، هل يصح بعد ذلك أن نسمي هذه القيم المبثوثة في هذه الاتفاقيات الدولية قيما كونية؟ هي قيم وضعية وليست قيما كونية، وضعها الغرب في مواثيقه بدءا ببيان حقوق الإنسان الفرنسي وبيان حقوق الإنسان الأمريكي واطردت هذه البيانات بعد ذلك حتى صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 دجنبر سنة 1948, وبعدها صدر العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية سنة 1976. هذه كلها مواثيق سواء وقعنا عليها أم لم نوقع عليها فإن الأمر يبقى خاضعا في نهاية المطاف إلى إرادتنا الوطنية، ولذلك فالجاري به العمل هو التوقيع عليها فيما لا يخالف الشريعة الإسلامية والتحفظ في البنود والنقاط التي تتعارض مع مرجعيتنا الإسلامية، والقول بأنها مواثيق دولية لا ينفي بأنها ذاتها ذات مرجعية وضعية بحتة وأنها تعكس وجهة النظر الغربية في هذا الشأن. وهي في نهاية المطاف وجهة نظر صنعها البشر لهم احترامهم في بلادهم، ونحن نأخذ منهم ونترك وفقا لما نجده صالحا لنا، ونعرضه على قيمنا وعلى معايير احتكامنا. لكن هناك من يقول بأن هذه المواثيق هي خلاصة ما انتهى إليه الفكر الإنساني وأن مآل البشرية إلى أن تقبل بهذه القيم الكونية؟ هذه هي الصياغة الوضعية العلمانية لفكر حقوق الإنسان، وهي التي تدرس اليوم في كليات الحقوق ونطلق عليها بالقانون الطبيعي وقواعد العدالة. بالنسبة إلى بلادنا العربية الإسلامية، فنحن حينما نصدر قوانينا وفقا للشريعة الإسلامية إنما نأخذ من الآراء التي تتفق مع حاضرنا بما تسعه أحكام الشريعة الإسلامية ويكون سقفها هو المرجعية الإسلامية، ونختار في هذا الشأن ما يتفق مع أوضاعنا وبيئتنا وظروفنا المعيشية الراهنة. هذا هو الوضع الشرعي الذي يتعين الالتزام به. أما بالنسبة للغرب فقد أسقط المرجعية الدينية، فوضع القانون، فرأى أن القانون لا بد له من مبادئ حاكمة، فوضع الدستور، ورأى أيضا أن الدستور لا بد له أيضا من قواعد حاكمة يحتكم إليها، فوضع ما سماه القانون الطبيعي وقاعد العدالة الذي يعتبر خلاصة للفكر البشري في لحظة معينة، فأوجد مرجعية وضعية خلقها بنفسه بعد أن استبعد المرجعية الدينية الواردة في المسيحية في القانون الكنسي، لأنه لا يؤمن التنزيل، وبحث لنفسه عن مرجعية أخرى، فخلق بذلك إلها غيبيا آخر سماه القانون الطبيعي وقواعد العدالة. ما فعله هو أنه رفض الغيب الحقيقي، وخلق غيبا جديدا نسب إليه أنه الواضع الحقيقي للحقوق وقواعد العدالة، مع العلم أن الإنسان هو الذي ابتكرها ونسبها إلى القانون الطبيعي وقواعد العدالة وألهه، فكأنما وضع صنما له بنفسه وصار يعبده بعد ذلك، ولكنه صنم ليس مجسدا في صخر ولا في صورة مرئية وإنما في معنى معين. هل هذه الاتفاقات الدولية تعكس في الحقيقة تطور الفكر الإنساني أم أنها لا تعدو أن تكون خلاصة موازين قوى ينتصر فيها الغالب ويفرض منظومته القيمية على الآخرين؟ هي خلاصة تجربة الفكر الغربي التي استبعدت المرجعية الدينية. وهو حر في أن يختار ذلك. هل يمكن بهذا المعنى أن نسمي ما ورد في المواثيق الدولية بخصوص الحريات الفردية قيما كونية؟ ما يهمنا هو أننا نأخذ من هذه المواثيق ونترك وفقا لخيارنا الذي يدخل فيه التزامنا بمرجعيتنا الإسلامية. معنى هذا أن الديمقراطية تتأسس داخل العالم العربي والإسلامي انطلاقا من هذه المرجعية الإسلامية؟ طبعا. الديمقراطية هي نموذج تنظيمي وليست عقيدة. الديمقراطية هي قيادات جماعية للعمل، وأسلوب معين من اتخاذ القرار ينطلق من الجماعة وليس من الفرد، وقرارات تتعلق بتمثيل أشخاص لأشخاص آخرين عبر التمثيل والانتخاب وغيره، وقرارات متعلقة بهيئات متعددة تتعاون في اتخاذ القرار والمشاركة في اتخاذه. كل هذه القضايا تندرج ضمن الديمقراطية بوصفها أسلوبا تنظيميا وليست عقيدة. ولذلك فالديمقراطية بهذا الوصف ليس لها شأن بالمرجعية، والديمقراطية كأسلوب تنظيمي في أوربا وأمريكا تخضع لمرجعيتهم الخاصة التي يسمونها القانون الطبيعي وقواعد العدالة التي يقابلها عندنا المرجعية الإسلامية. فالغرب لا ينفي مرجعيته ولا يجعل الديمقراطية بديلا عن هذه المرجعية وإنما يؤسسون هذا النموذج التنظيمي على هذه المرجعية، ولذلك فنحن في العامل العربي والإسلامي يمكن أن نلتزم بهذا الأسلوب والنموذج التنظيمي وفي نفس الوقت ألتزم بمرجعيتي الإسلامية. بعض الدراسات الحديثة عندنا في المغرب أكدت أن التزام المغاربة بالمبادئ الدينية ليس عائقا أمام الديمقراطية بل هي محفزات تشجع أكثر في الانخراط في مشروع تحقيق الديمقراطية، ما هو تعليقكم؟ المرجعية الإسلامية لا يمكن مطلقا أن تكون عائقا أمام الديمقراطية في الوطن العربي والإسلامي، بل العكس تماما هو الصحيح، ذلك أن التزامنا بهذه المرجعية ينمي في ذواتنا قيمة المسؤولية، فكل فرد يعتبر نفسه مسؤولا عن ترجمة معاني العدالة والحرية في سلوكه وسلوك الآخرين وفي تشاركه مع الآخرين. فالمرجعية الإسلامية تزكي الروح الجماعية في اتخاذ القرارات وتجعل لهذا السلوك الإنساني الحميد معنى دينيا، فيزيد في ترسيخ مفردات النموذج التنظيمي الديمقراطي بإذكاء رصيد الرقابة الذاتية. هناك بعض الحركات الحقوقية في البلاد العربية تطالب بسمو المواثيق الدولية على القوانين المحلية لهذه البلدان، فهل مرتبة المواثيق الدولية من جانب القانون الدولي هو أكبر من رتبة القانون المحلي؟ هي لا تعدو أن تكون بمثابة قانون في الداخل، والقانون في هذه الحالة لا بد أن يكون منسجما مع الدستور والمرجعية الحاكمة على الدستور ولا بد أن يراعي مرجعيته وما تأمر به وما تمنعه فيما يعرض له من أحكام حتى ولو صدرت كقوانين. ويستحيل القول بأن المواثيق الدولية لها قوة قانونية أكبر من القانون المحلي بله الدستور وإلا للزمنا القول بأن الدولي يتحكم في الوطني، وستكون المواثيق الدولية بهذا الاعتبار بمثابة إرادة أجنبية تتحكم في الإرادة الوطنية. من الناحية القانونية الصرفة هل المواثيق الدولية لا تسمو على القوانين المحلية؟ من الناحية القانونية الصرفة، المواثيق الدولية لا تزيد قوتها القانونية على القانون، وهي تعرض على الدستور وعلى المرجعية الحاكمة على الدستور، ويعمل بها ما دامت لا تخالف الدستور ولا تخالف المرجعية الحاكمة على الدستور. معنى هذا أن المطالب الحقوقية التي تخالف المرجعية الإسلامية وتتذرع بالمواثيق الدولية ليس لها أي مستند قانوني أو دستوري في البلاد العربية والإسلامية؟ يلزم أن يعلم هؤلاء أن الشيء الأعلى في كل مجتمع هو المرجعية. في عالمنا العربي والإسلامي عندنا المرجعية الإسلامية، وعندهم في الغرب مرجعية القانون الطبيعي وقواعد العدالة. فالمرجعية الإسلامية هي الشيء الأعلى وهي القيم العليا التي تتقبلها الجماعة وتحتكم إليها بشكل كامل، يليها الدستور، وهو موضوع بمبادئ وترتيبات معينة، ويليه القوانين. والاتفاقات الدولية في كل هذا لا تعدو أن تكون قانونا، ولا يمكن أن تزيد قوتها على قوة القانون ولا يمكن أن تكون فوق الدستور ولا فوق المرجعية. بهذا المعنى لا يمكن أن نرى في العالم العربي والإسلامي تشريعات تندرج ضمن الحريات الفردية بتحديد المواثيق الدولية تبيح الشذوذ الجنسي مثلا؟ هذا غير ممكن إطلاقا. وحتى لو حدث، فمن حق أي قاض أن يمتنع عن تطبيق هذا القانون. وقد حدث في مصر أن رفض القضاة ورفضت بعض المحاكم بعض القوانين التي تخالف الدستور، فعندنا في مصر، حينما تصدر بعض الأحكام المخالفة للدستور تمتنع المحاكم عن تطبيقها دون حاجة إلى المحكمة الدستورية. هل يمكن أن تورد لنا مثالا على ذلك؟ في قانون الكسب غير المشروع، عرض على محكمة النقض حيث جاء في القانون أن الإنسان لا بد أن يثبت ملكيته ويثبت ثروته ومصادرها، فقالت محكمة النقض إن هذا القانون يشوبه عدم الدستورية لأن الأصل هو براءة ذمة الإنسان وليس الأصل فيه الإدانة وبناء عليه فعلى من يدينه أن يثبت الإدانة دون أنت يحتاج الإنسان إلى إثبات براءته بهذا الإثبات. فالقانون المعروض يجعل الأصل ليس هو براءة الذمة وإنما هو الإدانة والاتهام بحيث يطلب من الإنسان أن يثبت براءته قبل أن تثبت عليه أية تهمة وهذا لا يجوز. وكذلك الأحكام والقوانين التي تخالف الدستور لا يمكن العمل بها ويجوز للمحاكم والقضاة عدم تطبيقها لعدم دستوريتها. إذا ما قبلت حكومة عربية بتبني مفهوم الحريات الفردية كما هو تحديد المواثيق الدولية من غير تحفظ، وقبلت بتشريع يقر بحقوق الشواذ في ممارسة شذوذهم، كيف يكون وضع هذه الحكومة دستوريا؟ في هذه الحالة ينبغي أن تتحرك جمعيات المجتمع المدني وهيئاته لتضغط لإلغاء هذا النص، وعلى المحاكم أن تمتنع عن تنفيذه. وهي مسنودة في ذلك بالقانون والدستور. فالمحاكم في بعض البلدان العربية تستطيع أن تمتنع عن تنفيذ هذه التشريعات كما هو الحال في مصر مثلا. نحن في مصر عندنا محكمة دستورية تلغي الأحكام المخالفة للدستور، لست أدري هل عندكم في المغرب نفس الشيء؟ (مقاطعا) طبعا عندنا المجلس الدستوري وله نفس المهمة. وعندنا أيضا محاكم النقض وهي تستطيع دون حاجة إلى المحكمة الدستورية أن توقف تنفيذ بعض الأحكام بحجة عدم دستوريتها وقد فعلت ذلك. وهذه المحاكم لا تلغي هذه التشريعات وإنما تمتنع عن تطبيقها، وحجتها في ذلك أنها تطبق القانون الأعلى حينما يتعارض معه القانون الأدنى. هل تتصور سعادة المستشار أن بإمكان البشرية أن تنتج قوانين دولية بصفة الكونية؟ كل دولة لها السيادة المطلقة على الداخل بموجب المؤسسات الديمقراطية التي تتواجد فيها وهي تنتج قوانينها وتتخذ قراراتها بصفة وطنية، وفرض القوانين والمواثيق الدولية على البلدان وجعلها فوق قوانين البلدان هو استعمار لها. لا يمكن إذن أن نتحدث عن قوانين دولية موحدة؟ يمكن بشرط أن تتفق مع أسسنا ونظمنا الداخلية والمهم في هذا كله أن يكون ذلك بإرادتنا نحن لا بإرادة خارجية.