عملية رفع تحفظات المغرب على مواد الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، تثير عدة تساؤلات متعلقة بأبعادها وتأثيرها على استراتيجيات مختلف الفاعلين في الساحة الوطنية: 1- فعلى مستوى العلاقات بين مؤسسات الدولة: نشير إلى أن الحدث سبقه ظهور اجتهاد لمنظمتين نسائيتين يقول بمراجعة بعض قواعد الإرث توخياً للمساواة بين الذكر والأنثى، فانقضت بعض أجنحة التيار الأصولي على المناسبة في محاولة للانتقال إلى الهجوم وتعويض الخسارة التي مُنيت بها بسبب فتوى المغراوي الشهيرة حول زواج الصغيرات. ودخل المجلس العلمي الأعلى على الخط، موجها مذكرة إلى الواعظين والخطباء يدعوهم فيها إلى شرح مزايا وحكم القواعد المعمول بها حالياً بخصوص الإرث. ولما جاءت الرسالة الملكية الموجهة إلى اجتماع المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، بمناسبة الذكرى الستين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي الرسالة التي أعلنت رفع التحفظات المغربية على بعض المواد الواردة في اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، ظن البعض أن المبادرة الملكية تنتصر لرأي الفاعلات النسائيات في مواجهة رأي المجلس العلمي الأعلى والحركة الأصولية، بحكم أن أولئك الفاعلات استندن إلى أحكام الاتفاقية المشار إليها في تأسيس موقفهن، وأن هناك ربما صراعاً بين مؤسسات الدولة وتباينا في زاوية النظر إلى مسألة المرأة. إلا أن قيام المجلس العلمي الأعلى نفسه بعد ذلك بتوضيح المدى المقصود برفع التحفظات، وتأكيده على أن الأحكام التي توجد بشأنها نصوص قطعية كالإرث لا مجال للاجتهاد فيها، وبالتالي لن تعرف أي تغيير، بدَّد اللبس والغموض، ووضع حداً للتساؤلات المثارة عن مدى انسجام الموقف الرسمي، وأظهر أن المجلس العلمي الأعلى لما قرر تنظيم حملة منهجية عامة لمواجهة بعض الدعوات المحدودة لمراجعة أحكام الإرث، لم يكن يتصرف من تلقاء نفسه، بل بناء على إشارة من أعلى، وهذا هو الأصل بحكم الإطار القانوني الذي يندرج فيه عمل ووظيفة المجلس. 2- وعلى مستوى تعامل الحركة الإسلامية مع عملية رفع التحفظات: لوحظ أن تلك الحركة، استبد بها الخوف من أن يكون القرار الملكي مقدمة لعملية إصلاحية جديدة تهم الوضع القانوني للمرأة، يسبق بها الملك إيقاع تطور المجتمع ويحقق بها قفزة غير متوقعة، ويجرد الأصوليين من بعض الشعارات التي يقتاتون بها ويعتبرونها أساس تميزهم، خاصة أن هؤلاء يؤكدون في أدبياتهم على تمسكهم بالوظيفة الدينية للملك ويعتبرون إمارة المؤمنين خير ضمان لحماية الإسلام وسنداً وطيداً لصيانته وتأمين إشعاعه الدائم، وأنهم منتمون إلى أفق الإسلام الوسطي المعتدل الذي تمثله ملكيتنا المغربية في نظرهم ويرفضون وضعهم في غير خانة الإسلام المغربي الذي تتبناه الملكية في خطابها. في بلاغ مؤرخ ب13 دجنبر 2008، اختار المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح أن يجمع في نفس النص، بين موقفه من قضية التحفظات وموقفه مما يتداول عن احتمال زيارة مسؤولين إسرائيليين للمغرب. إن تصرف الحركة بهذا الشكل عمل يخلو من اللياقة ولكنه لا يخلو ربما من إيحاءات. البلاغ يؤكد على «سمو المرجعية الإسلامية على المواثيق الدولية، والرفض التام لكل أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني» وأن المصادقة على المواثيق الدولية «لا يمكن أن يترتب عليها مس بالأحكام الشرعية القطعية لديننا الحنيف». موقف التوحيد والإصلاح، بخصوص قضية رفع التحفظات يقوم إذن على أساسين هما: أ- سمو المرجعية الإسلامية على المواثيق الدولية: إن طرح المسألة بهذا الشكل يفيد بأن الذين يقولون بسمو المواثيق الدولية يقصدون أن يكون هذا السمو على الشريعة الإسلامية، بينما التعبير السائد لدى المنظمات الحقوقية هو سمو المواثيق الدولية على القوانين الوطنية. فهل القوانين الوطنية هي الشريعة الإسلامية؟ ثم إن خطاب التوحيد والإصلاح ينطلق ضمنيا من أن المواثيق الدولية هي عمل صادر من غير المسلمين ويُراد فرضه على المسلمين، بينما المنظومة الدولية تقوم على اشتراك ممثلي الدول والمؤسسات الإسلامية في صياغة القرارات والوثائق. فإذا كان الإسلام هو الجزء الأساسي في المشترك الثقافي للمغاربة، فإن للبشرية جمعاء مشتركها الثقافي، فهل لها الحق في بلورة هذا المشترك عبر أجهزة ومرجعية كونية، إذا كان الجواب بنعم فنحن جزء من البشرية، يسري علينا ما يسري عليها، ننفعل بهمومها ونطور اجتهاداً جماعياً في قضاياها. إن الأساس الفلسفي للفكر الجهادي مثلاً هو أننا لسنا في حاجة إلى الجزء الآخر من العالم ولا نعتبر أنفسنا جزءاً منه. لنا مرجعيتنا الخالصة الصافية وله مرجعيته، وهما معا في حالة تعارض وتصادم دائم ومكين. هناك دار الكفر ودار الإسلام! أما محاولة البعض استغلال التراث الأممي لخدمة أهداف ومصالح غير مشروعة أو فرض هيمنة ثقافية على أمم أو شعوب بعينها، فإنه لا ينهض حجة على التنكر لهذا الرصيد الزاخر من النصوص والإعلانات والمواثيق الحقوقية التي تمثل بحق إحدى حسنات عصرنا الحاضر التي لا يمكن الاستغناء عنها. ب- عدم المس ب«الأحكام الشرعية القطعية» لديننا الحنيف: وهنا يحق لنا أن نتساءل مثلاً عن قائمة الأحكام التي كانت تتقدم بها نفس الجهات قبل خمس سنوات فقط على أنها أحكام شرعية لا يمكن مخالفتها أبداً لاستنادها إلى نصوص قطعية، في مجال الزواج وحده، كضرورة الولي، وواجب طاعة الزوجة لزوجها وحق الزوج في تأديب زوجته، والطلاق كحق مطلق للرجل بمفرده لا تشترك معه فيه المرأة، ثم جرى اجتهاد عدل هذه القواعد وصودق عليها بالإجماع. وقبل عقود من اليوم كانت ممارسة الزوجة للتجارة بدون إذن زوجها أو توليها مهام القضاء يدخلان ضمن الأعمال المحظورة استناداً إلى أحكام الشريعة، وقبل قرون من اليوم كان الحق في امتلاك الإماء من الأعمال التي يعتبر منعها مخالفا للنصوص الصريحة في القرآن والسنة. القضية باختصار هي مدى جواز أن نقرأ النص قراءة تاريخية، تجعلنا في حالة طروء ظروف مخالفة لتلك التي جاء فيها النص، نتجاوز حرفيته في اتجاه يرمي إلى التماس المقاصد السامية والمصالح الكبرى والقيم النبيلة لديننا الإسلامي. إذا كان الخلفاء الراشدون أنفسهم قد فتحوا باب تجاوز القراءة الحرفية للنصوص، فكيف نغلقه بعد أربعة عشر قرناً، ألا يمكن أن نعتبر ما تتوصل إليه المواثيق الدولية ويطابق الفطرة السليمة ويتجاوب مع المنجزات الفكرية والعلمية والمعرفية للإنسانية جمعاء قرينة على تطور الظروف التي أصبحت تحتاج إلى اجتهادات جديدة. إن لنا في تراث الأسبقين ما يكفي من المناهج والطرق لإعمال الاجتهاد ومراعاة تطور الأوضاع ومواكبة المستجدات، ولنا أيضاً في ذات التراث ما يكفي لتبرير منطق الجمود والانتكاص، ونحن نختار بين هذين الطريقين، والاختيار ليس بريئاً إذ تغشاه المصالح الذاتية، فمن يستمرئ حالة التفوق الذكوري لن يبحث عن وسائل تحرير المرأة التي يقدمها تراثنا الإسلامي، ومن يطمع في أصوات انتخابية زائدة سيحرص على استعمال الصيغ التي تسمح له بتقديم عناصر خطابه على أنها مستقاة من القرآن الكريم وعلى أنها الأقرب إلى «المرجعية الإسلامية» وأنه بالتالي أكثر إسلاماً من الآخرين، لأن هؤلاء في نظره يحملون عناصر خطاب متعارض مع النص القرآني! إن الحركة الإسلامية المغربية، كانت تخشى أن يؤدي رفع التحفظات إلى إدخال ثلاثة تعديلات على مدونة الأسرة هي تغيير قواعد الإرث، ومنع تعدد الزوجات، وحق المسلمة في الزواج بغير المسلم. فبإدخال هذه التعديلات الثلاثة، تكون كل «الثوابت» التي تهم المرأة قد انهارت، وبالتالي ستجد الحركة الإسلامية نفسها في هذا المجال محرومة من وضع تظهر من خلاله كحارسة للثوابت والقطعيات ضد من يروم المساس بها واستهدافها. إن بلاغ المجلس العلمي الأعلى بخصوص رفع التحفظات، قد أخرج الحركة الإسلامية المشاركة في المؤسسات من المأزق، إذ لو فُتح باب التعديلات الثلاثة المشار إليها آنفا لتعذر عليها الدخول في مواجهة مع الملك، لأنها ستكون في مواجهة مع منطقها، ولاستحال عليها في ذات الوقت اللجوء إلى درجة التجييش والتعبئة التي حققتها سنة 2000، لأن الظروف المرتبطة بما بعد 16 ماي وبقرب الاستحقاق الانتخابي الجماعي وبالمستجدات السياسية وخطط الآخرين ضدها، تمنعها من ركوب مغامرة المواجهة والاحتكاك، ولهذا تم ربما اختيار تكليف الذراع الدعوي بمهمة متابعة قضية رفع التحفظات وتأكيد الموقف المبدئي واختيار الذراع السياسي حتى الآن التحصن بالصمت. 3- وعلى مستوى العلاقة مع عموم المجتمع: نلاحظ أن عشر سنوات كانت كافية لتكسب قضية المرأة في المغرب، دفعة واحدة، ما لم تكسبه في عشرات السنين (مدونة الأسرة- إدماج النساء في سلك رجال السلطة وتعيين المرأة في منصب العامل- تعيين سبع وزيرات في حكومة واحدة- كوطا النساء في الانتخابات- تعديلات قانونية- حملات رسمية لفائدة المرأة– تكوين مرشدات وواعظات... إلخ). هل لذلك ارتباط بقوة حضور النساء اليوم في مؤسسات المجتمع السياسي ودواليب الدولة وتزايد نشاط الأميرات؟ في وقت ضَعُف فيه المد الجماهيري النسائي التقدمي واتسعت صفوف التنظيمات النسوية الأصولية؟ وكيف تقبل الدولة عدداً من إجراءات التحديث المجتمعي وترفض جوهر التحديث السياسي المطلوب، بل تسير في اتجاه المزيد من إغلاق دائرة القرار، ولا ترى أن جانبي التحديث المذكورين يجب أن يسيرا في خطين متوازيين، بينما الملك الراحل كان يخشى ربما أن يقود التحديث المجتمعي إلى التحديث السياسي. لقد كان يقال إن مقتضيات مثل تلك تضمنتها مدونة الأسرة، ستقود إلى حرب أهلية، ولم يقع شيء من ذلك، فهل قدر مجتمعاتنا أن تأتي مبادرات تحديثها دائما من فوق؟ 4- وعلى مستوى مغزى خطوة رفع التحفظات وآثارها: نلاحظ أن الموقف الرسمي الآن نسبياً واضح، فلن يكون هناك تغيير في قواعد الإرث والتعدد وزواج المسلمة بغير المسلم: - فهل جاء ذلك بناء على قناعة راسخة بأن القواعد المعمول بها حالياً تطابق وحدها الشريعة ولا تحتاج إلى تغيير مهما طال الزمن؟ - أم جاء لأن المجتمع تكلف هو نفسه بدون حاجة إلى المشرع، بالحد من الآثار السلبية لما هو مقرر قانونا اليوم (الهبات المقررة للإناث في حياة المورث – اللجوء إلى نوع من الإسلام الشكلي لغير المسلم قبل زواجه بالمسلمة)؟ - هل جاء لأن الوقت لم يحن بعد، ومتى أزف الزمن المناسب، لن يعدم المقررون اجتهاداً من صلب تراثنا الفقهي لتسويغ مقتضيات جديدة كما حصل مع «الأحكام القطعية السابقة»؟ إن رفع التحفظات قد مكَّن من إحلال قواعد مدونة الأسرة مكانة رفيعة، فكأنه «دسترها»، وبدت الآن كما لو أنها ملزمة للجميع. فلقد شنت على المدونة حرب أصولية ثلاثية: - حرب قضائية، (القبول المبالغ فيه لتزويج القاصرات مثلاً حتى فقد هذا القبول عملياً صفته الاستثنائية). - حرب إعلامية، تسوق صورة عن النص كمصدر للكوارث. - حرب فقهية يتم من خلالها نشر فتاوى تقدم للناس حلولاً مخالفة لما جاء في المدونة، بوصف تلك الحلول هي المطابقة وحدها للإسلام الصحيح، أي عمليا سحب الصبغة الإسلامية عن المدونة. البلاغ الأخير للمجلس العلمي الأعلى ثَمَّن التطور الاجتهادي الذي تبلور من خلال مدونة الأسرة. والحركة الإسلامية في ردها على أصحاب التأويلات الواسعة لعملية رفع التحفظات، اضطرت إلى أن تخص مدونة الأسرة الحالية بالإشادة. إن ذلك يعني أن الدولة نجحت ربما في رعاية انبثاق نوع من الإجماع الجديد على المدونة، فالذين كانوا يحاولون الإجهاز عليها شعروا بأن المقابل لعدم إدخال التعديلات التي يرفضونها هو التشبث بالمدونة، ووضع حد لحروبهم ضدها. والذين كانوا يؤيدونها دائما، ابتهجوا لكون مقتضياتها غدت التزاما دولياً وتم تحصينها ضد رياح التراجع.