قد تحصل بعض الأمور في السياسة أحيانا كما في الرياضة والثقافة، تتقاطع فيها أشياء وتتواصل أخرى. يقولون في الغرب مثلا نقلا عن كارس ماركس إن "الدين أفيون الشعوب"، ويصبح هذا الأفيون أكثر فتكا مع الإدمان على كرة القدم، ولكن حينما ينتصر المغرب على بلجيكاوكندا، يتحول هذا الأفيون غضبا وعُنفا في شوارع الغرب المُتحضّر، وتحترق معه الشوارع في أمستردام أو باريس وبروكسيل. ولا عجب في ذلك، لأنهم يريدون لعبة كرة القدم قوة ناعمة يجب أن تبقى محتكرة بين أياديهم، يصرّفون بها أسماءهم وسلعهم في الإشهار بالشارع والتلفزيون، كما يريدون احتكار النصر لأنفسهم، وأن نبقى نحن مهزومين على الدوام في كل شيء، بما في ذلك لعبة كرة القدم نفسها، هي التي ليست أكثر من تصريف مهارات إنسانية فوق رقعة الملعب، ولا تتطلب من اللاعب التفوق في دراسة العلوم أو التكنلوجيا المعقدة. قبل "مونديال" قطر، وإلى وقت قريب، كان الفريق الوطني المغربي يشكو من جماعات ولوبيات فرنسية، أو محلية مغربية وأنغلوسكسونية، تفسد عليه التناغم والانسجام وتبطل الانتصارات. اشتكى بعض اللاعبين من جور الجامعة وانحيازها لأطراف على حساب أخرى، وآخرين أبعدتهم أنانية المدرب السابق خاليلوزيتش واستعلاؤه، فيما كان بعض اللاعبين يعزون إبعادهم إلى لوبيات داخل الفريق، لها كلمة مسموعة أو تستقوي بقربها من شخصيات نافذة، وكل المغاربة يتذكرون حين قال المدرب وحيد لحكيم زياش: "على جثتي، ما دمت مدربا للأسود...". هكذا تم إبعاد مهارات فنية مغربية رائعة بشكل مستفز لمشاعر المغاربة، رغم أنه لا أحد كان يقلل من خبرتها أو يشكك في وطنيّتها. وحين كان المنتخب الوطني المغربي يعيش انتشاء مغشوشا بانتصارات وهمية لا قيمة لها والجو مشحون بالتوترات والخيبات، كان هؤلاء اللاعبون المغاربة المُستبعدون يصنعون البطولات مع أعرق الأندية وأشهرها في أوروبا، ومن هناك أيضا سيعلن حكيم زياش، نجم شيلسي الإنجليزي، بشكل درامي ومأساوي عن اعتزاله دوليا، هو الذي توج في النسخة الحالية من كأس العالم بجائزة رجل المباراة في لقاء مفصلي وحاسم ضد منتخب بلجيكا، وانضم إليه في ما بعد نصير مزراوي، المحترف في بايرن ميونيخ الألماني، مؤازرا ومساندا، واستبعد حمد الله بعدم الانضباط كحجة باطلة. وبقي فريقنا الوطني شيعا وقبائل تنهزم مع فرق متواضعة، وتتعادل مع أخرى أقل منها تواضعا. والحصيلة أننا خرجنا مدلولين ورؤوسنا منحنية في أكثر من محفل إفريقي. وكان سهلا على مسؤولينا كرويا، كما عادتهم، أن يجدوا لنا ما يكفي من أسباب ومبررات. وهنا ستصبح عودة زياش ثم حمد الله والمزراوي مطلبا شعبيا وحّد كل الأطياف المهتمة بالشأن الكروي في المغرب. وحينما أعلن فوزي لقجع عن وليد الركراكي "زريعة البلاد" مدربا للمنتخب الوطني، جاء مشحونا ب"تامغرابيت" مفعما بحماسة جيل الشباب، ثم بدأ يصنع تاريخا جديدا مع أول مقابلة ودية له، سلاحه في ذلك حماسة تخضع إلى العقل، وليس إلى تهور تحكمه العواطف. بدأ وليد مشروعه بإرجاع الأمور إلى نصابها وإعادة المُستبعدين، وجمع شتات اللاعبين في منظومة أسرة أو عائلة، ورمم ما دمره حليلوزيتش، وهو ما كان ينقص الكثير من اللاعبين "الخاترين" بالتجربة والمهارة. اشتغل ابن البلد بما لديه من إمكانيات ومواهب ولم يبع لنا العجل، كما كان يفعل معنا وحيد من قبل. وقد صرح في أكثر من مناسبة منذ أن كان مدربا لفريق الوداد البيضاوي، وحتى مع المنتخب الوطني أن كرة القدم لعبة يملأها الريح فيها الربح والخسارة، والكرة بطبيعتها دوارة تصطدم بالعارضة أحيانا وتدخل المرمى في أخرى. وبهذا المنطق والمنطلق رحل رفقة كتيبة "الأسود" إلى قطر، ورحلت معه قلوبنا، تحمل معها آمالا، ولم نكن نستقوي بطموح مبالغ فيه. كان أكثرنا تفاؤلا يقول بأننا سنرجع بمشاركة مشرفة مع مجموعة تضم أوكرانيا وصيف بطل العالم في نسخته الأخيرة بنجومها: مودريتش، بروزوفيتش، كوزوفيتش، بيريسيتش وآخرون، وفريق بلجيكا الذي يقل عنه ثقلا، من حيث كونه الثالث في النسخة العالمية السابقة بروسيا، والثاني في الترتيب العالمي، مدجج بنجوم عالميين تعج بهم كبريات الأندية في أوروبا من أمثال: لوكاكو، دي بروين، هازارد، كورتوا وغيرهم. البارحة كان ختام المسك بانتصار ثمين على كندا، تسيّد المغرب من خلاله مجموعته، وعشنا معه أجواء مقابلة أحرقت ما تبقى من أعصابنا، خصوصا بعد أن سجل الفريق الكندي هدفا بنيران صديقة. ومع نهاية المقابلة، نسى الشعب المغربي كل مآسيه: فقره المتعدّد، بطالة شبابه، هشاشته واستفحال الغلاء في كل مناحي الحياة، ولم يمنعه بردُ شهر دجنبر القارس ولا ليله الدامس من الخروج على شكل أمواج بشرية تطوف شوارع المدن، وتملأ ميادينها مُردّدة شعارات وطنية في أجواء احتفالية رائعة بانتصارات الفريق الوطني المغربي، أجواء لم نعشها منذ 1986 مع جيل: الزاكي، الضلمي، التيمومي، بودربالة وغيرهم. ولم تكن مجموعة المغرب في النسخة الحالية من كأس العالم بقطر 2022 أقل شراسة عن مجموعة 1986، التي كانت تتكون من فرق في أوج قوتها تعج بالنجوم آنذاك مثل: بولندا، إنجلترا والبرتغال. كتيبة الركراكي وصلت اليوم إلى ما وصلت إليه، وهو ما حققناه سابقا مع كتيبة المهدي فاريا قبل 36 سنة، ولذلك لم يعد تخطي الدور الأول ولا تزعم المجموعة شيئا جديد بالنسبة لنا كمغاربة، وإن كان شيئا مهما ومفرحا للغاية، ولم يعد التمثيل المُشرّف مطمحا ولا كافيا، لأننا نريد المزيد في هذا المسار الصعب. السؤال الذي يفرض نفسه اليوم بإلحاح هو: هل يقف وليد الركراكي عند العتبة التي وقف عندها المهدي فاريا في 1986؟، أم أنه سيتجاوزها مع كتيبة "الأسود" في "مونديال" قطر 2022م، ويذهب أبعد من ذلك؟ سؤال يصعب الإجابة عنه اليوم قبل الثلاثاء المقبل. يوم لم يعُد يفصلنا عنه إلا أياما معدودات، وكلنا أمل كبير في مدرب ذكي، ونجوم لا تقل شراسة وفنية عن نجوم إسبانيا. ولذلك لا مستحيل مع "أسود الأطلس"، ومازالت عندنا رغبة كبيرة ليس في تخطى إسبانيا فحسب، ولكن في الذهاب أبعد ممّا وصلنا إليه اليوم وقبل اليوم، والثلاثاء الموعود فيصل بيننا.