بعدما تعرفت على الجامعة الكاثوليكية في البرازيل وطرق تدريسها ومناهجها، بالإضافة إلى المواد المتعددة التي تدرس فيها، قلت في نفسي أين جامعاتنا الإسلامية من هذا الكم الهائل من المعارف والعلوم التي يتلقاها الطلبة خلال دراستهم في هذه الجامعة؟ لهذا حان الوقت في عالمنا الإسلامي للقيام بإصلاحات جذرية في ما يتعلق بالتعليم الديني، فالعولمة اليوم تساهم بتَنامي الجهل المقدَّس، أيْ جهل الإنسان بدِينه وبديانات الآخرين، وهو ما أنتَج ما سمَّاه المحلِّل النفساني فرُويد: "نَرجسيَّة الفُروق الصغيرة"، التي تُنتِج تَشنُّجَ الهُويَّات، وتَزايُد الكراهِيَة والبغضاء بين المجموعات؛ فالمناهج التعليمية الحالية في جامعاتنا الإسلامية لم تنجح في تكريس الوفاق والتناغم والتفاهم؛ بل زادت المتديِّنين انقسامًا إلى طوائف وطرائق قددا، تدَّعي كلُّ طائفة منها أنها الفِرقة الناجية، وأنها خير خلق الله وهو ما غذَّى الصراعات المذهبية والطائفية، وقدَّم للعالَم -للأسف- صورةً مشوَّهة ومُنفِّرة عن المسلمين والمتدينين على وجه التحديد؛ لهذا ينبغي إعادة النظر في التعليم الديني من حيث المفهوم والاستراتيجية والوسائل التنفيذية، بالإضافة إلى صياغة منظومة تَعلُّميَّة ودِيداكتِيكيَّة؛ متعلِّقة بفنِّ التدريس ومنهجيَّته، تهتمُّ بالوسائل البيداغوجية، والتِّقنيّات السَّمعية والبصرية والمعلوماتية، التي تساعد المتعلِّم (ة) من جهة، وتُكوِّن الأساتذة من جهة أخرى. أمَّا على مستوى المضامين والمناهج، فمِن الضروري تدريس الأديان في مَساراتها التاريخية، وأبعادها السُّوسيولوجية والنفسية. وتستوجب هذه المقاربةُ توظيفَ أدوات الحداثة المعرفية، وهي: فلسفة الدين، وتاريخ الأديان المقارنة، وعلم المخطوطات، والسوسيولوجيا الدينية، والأنثروبولوجيا الدينية، وعلم النفس الديني، واللِّسانيَّات، والفيلولوجيا، بالإضافة إلى العلوم السياسية والعلاقات الدولية والفكر الفلسفي وعلوم الاجتماع.. لعلنا نساير العصر وننقذ ما يمكن إنقاذه، وإلا بعض السادة العلماء والفقهاء والمشايخ سيجلبون على الأمة وعلى أوطانهم الفتن والمهالك ما الله بها عليم؛ بسبب جهلهم تلك العلوم والمعارف.. هذه المواد المعاصرة تؤهل الطالب (ة) وتسهل علية المصالحة مع العصر وتقبل الآخر كيفما كانت عقيدته أو جنسه أو لونه أو قبيلته، مع أن التعليم الديني النبوي؛ أو إن صح التعبير المدرسة النبوية الإسلامية؛ كانت لها موازين دقيقة في أخذ الأمور أو ردها أو إباحتها أو تحريمها، فكانت دائما تنظر بمنظار إنساني رحموتي، كما تنظر بمقاييس الخير والشر، وبمقاييس المصالح والمفاسد، وقد نجحت هذه المدرسة في بدايتها وسط نظام وثني قبلي ديكتاتوري في مكة، رغم تهديد صاحبها وحصاره والتنكيل به ومع ذلك صلى الله عليه وسلم أخذ وأشاد ومجد بعض العادات والتقاليد الجاهلية من شهامة وكرم وصدق وأمانة وغير ذلك من الفضائل والقيم الإنسانية والكونية، ولهذا نجد الصحب الأول من صحابته الكرام رضي الله عنهم كانوا ينشدون بحضرته لشعراء الجاهلية ولم يمنعهم من ذلك، وهكذا استمر الأدب الجاهلي وعبر التاريخ الإسلامي لقرون غضا طريا، يستفيدون من حكمته، ويتعلمون من بلاغته، وخاصة أيام الدولة العباسية، التي اعتمدت الأدب الجاهلي كمشترك إنساني، ثم نقل من آداب الفرس والهند والإغريق ما استوعبته الحالة العربية قبل انتقال عاصمة الدولة الإسلامية المركزية للعثمانيين في الأستانة، ومع ضمور قيم العدالة والشورى وفشو الصراعات السياسية والأيديولوجية والقبلية، فإن أروقة بغداد ودمشق والمدينة النبوية ذاتها وأكناف الحجاز وما وراء النهر، ظلت تمارس حراكا فكريا وتبادلا أدبيا لم يُسجّل عليه مطلقا، ولم يُنعت بأدب المشركين أو العلمانيين أو الحداثيين أو المرتدين إطلاقا، ولم يكن في تلك الفترة من ينادي ب" أسلمة المعرفة" أو فصل العلوم البحتة عن علوم الدين والشريعة، بحيث لم تك هناك أصلا جزرُ عزل بين الآداب والثقافة والأفكار في العهود الإسلامية الزاهرة، لأن هؤلاء جميعهم كانوا مدركين ومستوعبين لقواعد ومبادئ المدرسة النبوية الشريفة التي بنيت عليها، ومن ضمنها المشترك الإنساني، والتعايش البشري، بالإضافة إلى خدمة الإنسان ومن أي جنس كان، فالرسول الأكرم يقول: "لا فرق بين عربي وأعجمي ولا بين أسود وأبيض إلا بالتقوى"، فالتقوى في المدرسة النبوية الشريفة هي الميزان فقط.