لم يكن المفكر التونسي هشام جعيط، الذي رحل عنا مؤخرا، مجرد مؤرخ، بل سعى إلى أن يكون عالماً في التاريخ الإسلامي. وقد اعتمد مناهج عدة منها المنهج السوسيولوجي والثقافي. وهذا ما منح مؤلفاته طابعاً أكاديمياً مميزاً، وجعلها تثير سجالاً في أوساط المؤرخين والمثقفين والقراء. واصل هشام جعيط تعليمه العالي في باريس حيث حصل على شهادة التبريز في التاريخ عام 1962، ثم حصل على شهادة دكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة السوربون عام 1981. عيّن أستاذاً فخرياً في جامعة تونس، ودرّس كأستاذ زائر في جامعات عربية، أوروبية وأميركية منها جامعة كاليفورنيا- بركلي والمعهد العالي- فرنسا وجامعة ماك غيل- مونتريال. كما تولى رئاسة المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون «بيت الحكمة» بين العامين 2012 و2015، وهو عضو في الأكاديمية الأوروبية للعلوم والفنون. أصدر جعيط العديد من المؤلفات باللغتين العربية والفرنسية ناقش فيها جملة من الإشكاليات المحورية في التاريخ الإسلامي وأهم مكونات الموروث الحضاري. ومن مؤلفاته بالعربية والفرنسية: الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي، 1984، الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية 1986، الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر 1992، أزمة الثقافة الإسلامية 2000، تأسيس الغرب الإسلامي 2004، أوروبا والإسلام: صدام الثّقافة والحداثة 2007، في السيرة النبوية. 1: الوحي والقرآن والنبوة 1999، في السيرة النبوية. 2: تاريخية الدعوة المحمدية 2006، في السيرة النبوية.3: مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام 2014. في ما يلي سنقدم لقراء «فسحة الصيف» أهم المقالات التي تناولت فكر الرجل وأبحاثه، وأثره على الدراسات التاريخية والإسلامية، وإسهاماته في فكر التنوير..
يعد المؤرخ والمفكر التونسي د. محمد هشام جعيط من أهم المفكرين العرب الذين اشتغلوا ونقبوا في التاريخ الإسلامي وأعطوا أهمية كبرى لمناقشة جملة الإشكاليات المركزية في التاريخ الإسلامي وأهم مكونات الفكر الإسلامي والموروث الحضاري بشكل عام. ولعل من أهم القضايا المركزية التي تناولها دكتور جعيط مسألة نقد الشخصية العربية والثقافة الإسلامية والأزمات التي عاشها المسلمون وأهم الإشكاليات الكبرى التي واجهوها، كما تناول جعيط علاقة الإسلام بأوربا، وكذلك التركيز على التعمق في دراسة السيرة النبوية وشخصية النبي صلى الله عليه وسلم مستخدماً في ذلك المنهج التاريخي الذي تتداخل فيه جملة من العلوم الأخرى كالأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الأديان والفلسفة حتى يتسنى له تقديم قراءة أكثر موضوعية وبعيدة عن التحليل الإيماني الذي يرى فيه أنه محاولة لاغتيال الحقيقة التاريخية. الظروف التاريخية التي شكلت فكر جعيط لعل بعض القارئين لا يرون أهمية لهذا العنوان في هذه الدراسة لأن شخصية جعيط ليست هي المقصودة هنا في هذه الدراسة، ولكني أقول إنني أحاول أن أستخدم المنهج نفسه الذي اتبعه جعيط في قراءته لجملة الإشكاليات الفكرية والتاريخية والدينية في موروثنا الحضاري، فمعرفة الظروف التاريخية التي نشأ فيها جعيط ستساعدنا حتماً في فهم ملامحه الفكرية وأهم المصادر التي شكلت فكره وأثرت فيه سواء من داخل الحقل المعرفي العربي والإسلامي أو حتى من بقية الحقول المعرفية والمدارس التاريخية الأخرى التي كان لها الأثر الكبير في تشكيل رؤيته الفكرية والتاريخية. جعيط الذي ولد سنة 1935م مفكر مخضرم عاش فترة الاستعمار الفرنسي والحرب العالمية الثانية ودرس في مدرسة الصادقية التي تختلف في منهجها التعليمي عن التعليم الزيتوني، كما أنه أكمل دراساته العليا في فرنسا وعاش مدة شبابه في أوربا، ولا شك أن جعيط تشبع بالفكر الغربي خلال وجوده في فرنسا مما جعله يتأثر بأهم المدارس التاريخية التي ظهرت في أوربا خصوصاً المنهج التاريخي الذي اعتمدته المدارس الاستشراقية الأوربية في دراستها للتاريخ الإسلامي ودين الإسلام ونصوصه المركزية. كما أن جعيط عاش مرحلة ما بعد الاستعمار أي في فترة الاستقلال وما نتج عنها من تحولات جذرية في بنية المجتمعات العربية والإسلامية، خصوصاً تونس البلد الذي يعيش فيه جعيط، والذي لم يكن منسجماً مع النمط السياسي البورقيبي وكذلك النمط المجتمعي الذي عاش فيه، برغم أن جعيط ينحدر من عائلة علمية وبرجوازية متدينة فهو ابن عبد العزيز جعيط شيخ جامع الزيتونة والذي كان مختلفاً مع بورقيبة صاحب المشروع الحداثي الساعي إلى بناء تونس على النمط الأوربي. كل هذه الظروف كان لها الأثر الكبير في تشكيل النسيج الفكري لهشام جعيط وحركت فيه الرغبة في مناقشة كل المسلمات والقراءات التي يعتقد كثير من العرب والمسلمين أنها الحقيقة المطلقة. إن حالة التخضرم التي عاشها جعيط بين فترة الاستعمار وفترة ما بعد الاستعمار هي التي ستنعكس حتماً على طبيعة وملامح فكر جعيط وستتحكم في قراءاته للموروث الثقافي الإسلامي مما قد يلمح لحالات من التناقض والغموض في دراساته جراء حالة التخضرم التي عاشها. جعيط مفكر يتقاذفه القلق والحيرة لعل من أهم ما يميز هشام جعيط عن بقية المفكرين الآخرين من العرب والمسلمين الذين يتبنون المنهج التاريخي في تحليلهم للدراسات الإسلامية مثل أركون وعبد المجيد الشرفي وغيرهم أنه مفكر يعتقد أن الإسلام هو العنصر الأساس الذي يشكل الشخصية العربية والإسلامية وأنه لا يمكن الاستغناء عليه، ويرى أنه عامل محدد في بناء هذه الشخصية، ولكن يعتقد أن الذي يجب تغييره في ذلك هو الفهم الخاطئ للإسلام وللتاريخ الإسلامي الذي يحاول الكثير من المفكرين الإسلاميين قراءته قراءة إيمانية تغيب الحقيقة وتغتالها لتنتج لنا ثقافة إسلامية مأزومة خالية من كل علمية وموضوعية. جعيط يختلف عن الدكتور عبد المجيد الشرفي الذي يختلف في طريقة تناوله لمجمل هذه القضايا الكبرى في التاريخ الإسلامي عن الدكتور هشام جعيط، وبغض النظر عن الاختلافات إلا إنهما يتفقان بشكل عام في المنطلق المنهجي وهو المنهجي التاريخي، وربما هذا يعود إلى تأثر كلا الطرفين بالفكر الاستشراقي الذي كانت تحركه بشكل خاص نزعة معادية للإسلام وللحضارة الإسلامية. هذا التأثر بالمدرسة الاستشراقية لدى جعيط يجعل فكره يتسم بالحيرة والتناقض في الوقت نفسه، ويجعل رؤيته للنص الديني مثلاً هي قراءة من خارج سياقه وبأدوات لا تنسجم مع الحقل المعرفي الإسلامي، لأنها من إنتاج معرفي مختلف تماماً عن الثقافة الإسلامية التي كان لزاماً على جعيط أن ينتج منهجاً جديداً لتشريح مثل هذه القضايا، ويستنبط أدوات تشريحية تكون منسجمة مع النص الديني ومع طبيعة الظروف التاريخية التي ظهر فيها، والاعتماد على وثائق مادية وليست قراءات وتأويلات نابعة من سياقات معرفية مختلفة تماماً في مزاجها ومكوناتها عن السياقات المعرفية العربية الإسلامية. من هذا المنطلق نلمح حالة من القلق لدى المفكر جعيط خلال تحليله لجملة هذه القضايا المركزية في الحقل المعرفي الإسلامي، ربما يعود هذا القلق إلى أن جملة الأبحاث التي انطلق منها لم تكن قلقاً نابعاً من ذات جعيط ومن حالة البحث عن إجابات مقنعة كانت تراود خلده وخلد كل المفكرين العرب، بل كان هذا القلق قد تشكل من خارج ذاته أي مما أنتجه المستشرقون الأوربيون الذين كانت تحركهم دوافع أخرى تتصل بعملية التشكيك في أن القرآن كتاب سماوي أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولعل ما نتج عن هذا القلق الخارجي الذي تلبست به شخصية جعيط حالة من الحيرة العامة في إيجاد إجابة عميقة لهذا القلق الكامن في مساراته الفكرية والأكاديمية. ونحن بمجرد أن نقوم بتفحص لجل كتب هشام جعيط نجد أنه لم يتناول قضايا جديدة بل هو يتناول ما طرحه المستشرقون الغربيون بداية من القرن الثامن عشر والتاسع عشر حتى إننا نلمح أن جعيط يسكن في داخله مستشرقون يوحون إليه بما يريدون. ولست هنا أتهجم عليه ولكن أقول إن جل العناوين لكتبه لا تخلو من وجود حكم مسبق أولي مستورد من خارج المنظومة المعرفية والفكرية والحضارية لهذه القضايا مثل عنوان كتابه «أزمة الثقافة الإسلامية» أو كتابه «الفتنة الكبرى» وغيرهما، وهذه عناوين لا توحي إلا بخلل في المنهجية وفي أدوات التحليل التي انطلق منها هشام جعيط، وحتى المبررات التي توصل إليها هي مبررات تخلو من معقولية وتوحي بأنها استنتاجات قطعية في نظره برغم أنه يلمح إلى نسبية الحقيقة في البحث العلمي. هذا القلق غير النابع من الذات والمستورد من خارج ذاته وحالة الحيرة التي تلمحها في فكر جعيط حوّل قراءته إلى قراءة منبتة عن جذورها وعن تربتها الحقيقية مثلما هو الحال لدى محمد أركون وعبد المجيد الشرفي ومحمد شحرور ونصر حامد أبو زيد وغيرهم من المفكرين العرب. منهج جعيط وجملة الأسئلة المطروحة قراءة فكر جعيط على مستوى المنهج: اعتمد الدكتور جعيط في أبحاثه على علم التاريخ أو المنهج التاريخي الذي يرى أنه بلغ درجة من المصداقية قربته كثيراً من العلوم الصحيحة، وهو يستعمل علم التاريخ بتداخل مع مجموعة أخرى من العلوم والمعارف مثل الأنثروبولوجيا (علم الأجناس) والفيلولوجيا. ويلخص جعيط منهجه في التعامل مع هذا الموضوع بقوله: «إنه استقراء الماضي متسلحاً بمعرفة دقيقة بالمصادر والمراجع وبالتعاطف اللازم مع موضوعه وبرحابة صدر وثقابة الفكر»، ويضيف قائلاً: «ما سنحاوله هنا هو إعطاء نظرة أنثروبولوجية للثقافة العربية قبل الإسلام أولاً، واستقراء للنص القرآني وتتبع التأثيرات الخارجية والنظر النقدي في المصادر التاريخية والبيوجرافية». والحقيقة إن ميل جعيط إلى المنهج التاريخي يعود بالدرجة الأولى إلى تأثره بالمدارس الاستشراقية التي أوجدت هذا المنهج من أجل البحث عن أي أخطاء داخل الإسلام خصوصاً على مستوى نصوصه المركزية وبالأخص القرآن، المُشَكِّل للبنية المعرفية والفلسفية للإسلام، كما ركزت هذه المدارس الاستشراقية على شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم ودرست تاريخه ظناً منها أنها قادرة أن تكشف أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون استقى القرآن من عند قسيسين ورهبان أو من اليهود أو السريانيين. والحقيقة إن هذا المنهج يتميز بصرامة كبيرة في البحث والتنقيب لكن برغم ذلك فإن المستشرقين أخضعوه إلى جملة أحكامهم المسبقة وإلى نواياهم المعادية للإسلام، لكن هذا لا يعني أن كل المستشرقين كذلك، فمنهم من التزم بهذا المنهج وخرج بنتائج مبهرة تثبت أحقية الإسلام والقرآن. ومهما يكن من نية هؤلاء إلا إن هذه المدرسة التاريخية انتشرت في أوربا وصار لها رواد كثيرون حتى في العالم العربي، ولعل هشام جعيط من هؤلاء الباحثين الذين وجدوا ضالتهم في هذا المنهج من أجل تقديم قراءات جديدة للتاريخ الإسلامي.