أهم القطاعات إن لم يكن أخطرها على الإطلاق هو قطاع التربية والتعليم وذلك لسبب جوهري كونه أكثر من غيره ارتباطا بالعنصر البشري. فالتعليم هو أساس التنمية الشاملة وعليه تعقد كل الآمال وترفع كل رهانات المستقبل، رهانات لا يمكن لها أن ترى النور إلا ببناء أجيال صالحة تستقيم على العلم والمعرفة وعلى نكران الذات وحب الوطن. فالتعليم هو المجال الذي لا يمكن العبث فيه ولا يحتمل سياسات عمومية قائمة على العشوائية والارتجال، بقدر ما هو في أمس الحاجة إلى قراءة واقعية وموضوعية للبيئة التي هي موضوع البحث والإصلاح. وكلما تحقق ذلك كلما كانت فرص الإصلاح المنشود على درجة كبيرة من النجاح والتوفيق. فقبل الخوض في مشاريع الإصلاح المرتبطة بالتعليم، يجب أن نستحضر خصوصيات البيئة المغربية ككل. صحيح أن معالجة إشكالات التربية والتعليم تتطلب خبراء ومختصين والعاملين في هذا المجال مما يرفع المعالجة التقنية إلى سقفها الأعلى، لكن على الرغم من أهمية هذه المقاربة فإنه لا ينبغي أن تتم تلك المعالجة بمعزل عن التأثيرات الأخرى كالعقليات والثقافات السائدة في المجتمع المغربي، التي غالبا ما يكون لها تأثير سلبي على أي مشروع أريد به ذلك الإصلاح. ولذلك وجب علينا أن نفهم أن عملية إصلاح التعليم هي جزء أساسي من إصلاح المجتمع. فالتلميذ أو المعلم حينما يقبل على المدرسة فهو يقبل عليها كمغربي حاملا معه قيما ومفاهيم وسلوكيات صالحة أو طالحة لا تنفصل عن تعامله اليومي في باحة المدرسة أو القسم. ولقد تعلمنا في مدرستنا العمومية حينما كان لها شأن بفضل ذلك المعلم الذي قالوا لنا عنه "قم له وفيه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا". فهل ما زال المعلم رسولا؟ لا أعتقد أن هذه الصورة استطاعت أن تصمد أمام ماديات هذا العصر البئيس، بعد تراجع القيم والأخلاق في المجتمع المغربي وفي المدرسة العمومية التي يفترض فيها أن تكون مجالا للتربية والقيم الوطنية. فالمعلم أو الأستاذ نزل من برجه العاجي وبات يخوض في متاهات الفساد والغش وفي المتاجرة وفي الجنس وفي كل الموبقات التي تنخر الواقع المغربي. المعلم لم يعد كما كان في السابق حاملا لرسالة نبيلة أو مربيا لأجيال بل أصبح يرى في نفسه موظفا لدى الدولة يقوم بعمل يتقاضى عنه أجرا. كما أن التلميذ بات هو الآخر لا يهاب المدرسة كمحفل للعلم والمعرفة، بل يسمح لنفسه بالتطاول على معلمه وبالخصوص على معلمته. أعتقد أن هذه الحقائق معروفة لدى الجميع، فكيف للقائمين على هذا القطاع منذ الاستقلال إلى يومنا هذا أن يتغافلوا عن كل ذلك؟ يبدو أن سياسة الإهمال واللامبالاة هي المتحكمة في هذا المشهد أو على الأقل هكذا أرادوا لها أن تكون. هذا الوضع يحيلنا بدوره إلى ما هو أخطر وهو أن جميع السياسات العمومية التي قيل إنها تندرج في إصلاح المنظومة التربوية والتعليمية على مدى ستة عقود كانت سياسات بعيدة كل البعد عن إصلاح حقيقي، غابت عنها الإرادة الجادة والوطنية الصادقة، سياسات كانت محكومة بالمزايدات السياسوية والأيديولوجيات المستوردة التي هي دخيلة على المجتمع المغربي، ومحكومة كذلك بالحسابات الفئوية والطبقية التي أرادت أن تجعل من التعليم العمومي تعليما نخبويا ومطية لٌإقصاء فئات عريضة من المغاربة، وأصبحنا أمام واقع مزر تنتج فيه المدرسة العمومية أجيالا تتخبط في الجهل ويكاد أن يقارن ذلك التعليم "بتعليم الأمية وخريجين مختصين في الفقر المعرفي". ومن دون شك أن ما وصل إليه تعليمنا في أسفل الرتب على الصعيد العالمي ما هو إلا نتاج لسياسات غير وطنية ولتخبط واضح في المشاريع الإصلاحية التي تتعارض مع بعضها البعض، في كل مرحلة من المراحل التي عاشها التعليم تحت وطأة أزمات كان لها دور أولا في تشويه الهوية وثانيا في المساس بالولاء للوطن وثالثا في التلاعب بمصير الأجيال. ولنستحضر في هذا الصدد وجها من أوجه العبثية في قطاع لا مجال للتلاعب فيه من ذلك سياسة التعريب التي كانت مدمرة بالفعل للمدرسة العمومية. شخصيا لا أستطيع أن أستوعب تبني هذه السياسة في تعريب المواد العلمية فقط على المستوى الابتدائي والثانوي والإعدادي والنأي بذلك على المستوى الجامعي. إنه الإقصاء بعينه لتلاميذ المدرسة العمومية وأن أعلى ما في سقفهم أن يحصلوا على شهادة البكالوريا، في الوقت الذي بقي فيه التعليم الخصوصي والبعثات الفرنسية في منأى عن سياسة التعريب حتى تعطى الفرصة لأبناء المجتمع المخملي الذين حرصوا على أن يدرس أبناؤهم اللغات الحية في تلك المدارس كي يرثوا المناصب ويستتب لهم الأمر في مختلف المجالات. هذا الوضع يتناقض مع مبدأ تكافؤ الفرص المنصوص عليه في دستور البلاد. واليوم حينما نتحدث عن تجويد المدرسة العمومية كمشروع للإصلاح، فهل هناك إرادة حقيقية من وراء ذلك أم أن مآل هذا المشروع قد لا يختلف عن المشاريع التي سبقته؟ وكثر عنها في حينه اللغو فيما التعليم في بلادنا ما زال يفرز لنا واقعا مزريا يغرق في الأوحال بدون أفق. فالمدرسة العمومية لن تصلح بدون معلم صالح وكذلك بدون مواطن صالح، ولن يعطي ذلك الإصلاح ثماره ما دامت كل المقاربات التي نتبنى غير شمولية. ولذلك يجب بالأساس العناية برجل التعليم من الناحية المادية كما هو الشأن عند الدول التي تقدر المعلم حق قدره، والعناية به كذلك كمرب وكمكون لأجيال على أساس قيم ومبادئ وأخلاق تراعى فيها خصوصية المجتمع المغربي. لا نريد من المعلم أن يكون شريكا في الغش ولا نريده أن يمارس التجارة في التعليم ولا نريد منه أن يقوم بمهامه من منطلق أنه موظف تابع للدولة، بل من منطلق أنه يحمل على عاتقه رسالة. وإذا كان المعلم هو الأساس في هذه المعادلة، فإن خيارات الدولة على مستوى البرامج والمناهج التربوية والتعليمية يجب أن تكون بالأساس خيارات وطنية بعيدة كل البعد عن الإيديولوجيا والحسابات السياسية والحزبية. وفي اللحظة التي يستقيم فيها الأمر على هذا الأساس، فإن إصلاح المدرسة العمومية قد يفرض نفسه على الجميع. فنحن أمة "اقرأ" لكننا لا نقرأ، ومناهجنا لا تعودنا على معاشرة الكتاب. ورحم الله من قال "إذا أردت أن تدمر أمة فأنت لست بحاجة إلى سلاح بل يكفيك أن تدمر تعليمها". رجاء توقفوا عن هذا التدمير.