إذا كانت هناك قلة ممن تجرؤوا على "طابو" اللغة العربية بتحميل المسؤولية في فشل وتدهور المنظومة التربوية بالمغرب لسياسة التعريب، التي فرضت هذه اللغة كلغة تدريس في التعليم العمومي، فإن هناك "طابو" آخر أكثر عنادا وقداسة من العربية لم يسبق لأحد أن مسه أو حتى اقترب منه. إنه "طابو" مجانية التعليم. هذان "الطابوان" يشكّلان، كما هو معروف، اثنين من المبادئ الأربعة (المغربة، التعميم، التعريب والمجانية) للحركة "الوطنية"، التي (المبادئ) أرست الأسس التي قامت عليها فلسفة التربية والتعليم بالمغرب، والتي لا زالت هي الإيديولوجية الموجّهة للنظام التربوي إلى الآن. فكما أن "الطابو" مرتبط، في دلالته البولينيسية polynésienne الأصلية، بمعاني الحظر والتحريم، والقداسة واللعنة، وتجنب اللمس والمس، فكذلك مبدأ التعريب أصبح، منذ إقراره ضمن المبادئ الأربعة، من الثوابت شبه المقدسة التي يحرّم المس بها ويحظر إعادة النظر فيها، لأن ذلك يعني التنازل عن لغة القرآن ولغة الجنة ولغة الله، والخيانة للغة الوطنية، والحنين إلى السياسة الاستعمارية التي حاربت العربية، كما يردد الخطاب الابتزازي المعروف... أما مبدأ المجانية، فظل "طابو" حقيقيا يحرّم حتى مجرد التفكير في مناقشته، فبالأحرى التفكير في إلغائه. لأن ذلك يعني، باللغة الخشبية الحزبية والنقابية المعروفة، الإجهاز على مكتسبات الشعب، ومصادرة حقوقه، وضرب ما تبقى من قدرته الشرائية الضعيفة أصلا، وفتح الطريق الملكي لتعليم طبقي لا يستفيد منه ولا يلجه إلا أبناء الأثرياء... فمن هذا المسؤول السياسي الذي يجرؤ على المغامرة بالمطالبة بإعادة النظر في مجانية التعليم، حتى تنزل عليه لعنة "طابو" المجانية، ويصنّف بأنه عدوّ للشعب، يعمل ضد مصلحته ويرغب في تجويعه وتفقيره وتجهيله لأن التعلم سيصبح، حسب اقتراح هذا السياسي، باهظ الثمن. هذا في الوقت الذي يتغنى جميع السياسيين بأنهم يدافعون عن الشعب، ويعملون من أجل الشعب، ويخططون لمصلحة الشعب الذي منحهم الثقة والشرعية. إن من ينادي بإلغاء المجانية يعرّض في الحقيقة نفسه، سياسا، لنوع من الإحراق الشعبي في ساحة عمومية. وهكذا ظل الشعب رهينة للغة العربية في ما يخص التعريب، وظل المسؤولون رهينة لهذا الشعب في ما يخص المجانية. فأصبح التعريب والمجانية "طابو" لا يقترب منه المسؤولون السياسيون خشية اللعنة التي قد تصيبهم من جراء ذلك الاقتراب، كما ينسب ذلك إلى "الطابو" في المجتمعات البولينيسية. فاستمر التعريب والمجانية في تدمير التعليم دون أن يستطيع أحد من أصحاب القرار وقف هذا التدمير. لكن الخاسر الأول والأخير هو هذا الشعب الذي باسمه فرضت العربية، ولمصلحته تقررت المجانية. لقد ثبت الآن أن التعليم المعرّب لا ينتج إلا البطالة والجهل المدرسي (يقضي التلميذ سنوات طويلة في المدرسة ويخرج منها كجاهل لا يعرف أي شيء مفيد)، والتطرف والفهم السيئ للدين... وما هو نوع المدرسة التي تلقّن هذا النوع من التعليم المعرّب غير النافع؟ إنها المدرسة المجانية المفتوحة للجميع بدون مقابل. وما هو التعليم النافع والمطلوب في سوق الشغل؟ إنه التعليم غير المعرّب حيث تكون لغة التدريس هي الفرنسية أو لغات أجنبية أخرى. وما هي المدارس التي يلقّن فيها هذا النوع من التعليم النافع غير المعرّب؟ إنها مدارس التعليم الخصوصي الراقية (البعثات الأجنبية، الدراسة في الخارج، المدارس الخصوصية من النوع الممتاز) التي تكلّف الدراسة بها ميزانية محترمة. أقول الراقية تمييزا لها عن مدارس التعليم الخصوصي "الشعبية" التي يدرس فيها التلاميذ بمقابل في متناول الشعب، والتي لا تختلف مردوديتها كثيرا عن مردودية مدارس التعليم العمومي. نلاحظ إذن، إذا قارنا بين التعليم الجيد النافع والناجح، والتعليم غير النافع والفاشل والرديء، أن التعريب والمجانية وجهان لعملة واحدة وهي عملة الرداءة والفشل والكساد. ذلك أن التعليم العمومي تعليم معرّب ومجاني في نفس الوقت. والنتيجة أنه نموذج للرداءة وتدني المستوى. في حين أن التعليم المفيد والناجح، هو التعليم الذي يلقن بغير اللغة العربية، ومؤدى عنه في نفس الوقت. الرداءة مجانية لأنها بلا مقابل مالي، والجودة مكلّفة ماليا لأنها مطلوبة وذات قيمة. إذن، لكي يكون التعليم العمومي جيدا، يجب أولا أن تكون لغة التدريس هي غير اللغة العربية، أي أن لا يكون التعليم معرّبا، ويكون ثانيا تعليما مؤدى عنه. وهذا ما يحتاج إلى نقاش وتوضيح. إذا كانت هناك قلة، كما سبقت الإشارة، قد تتفق معي في مسألة تغيير لغة التدريس، فإنني أعرف أن لا أحد سيتفق معي في مسألة إلغاء مجانية التعليم. وهذا ما قصدته ب"طابو" المجانية. عندما أقول ينبغي، إذا أردنا تجويد تعليمنا، تجاوز "طابو" المجانية وفرض الأداء، فلا أقصد بذلك أن النفقات التي يتطلبها قطاع التعليم سيتحمّلها الآباء، على غرار ما يجري بالتعليم الخصوصي. فمؤسسات التعليم الخصوصي تفرض أثمانا تغطي النفقات وتحقق أرباحا، لأنها مؤسسات ذات هدف تجاري ربحي. أما إلغاء المجانية بالتعليم العمومي فلن يكون هدفه لا تغطية كل نفقاته، ولا تحقيق ربح بالمفهوم التجاري. وإنما يرمي إلى مساهمة الآباء في تحمل جزء يسير من ميزانية قطاع التربية والتعليم بهدف إصلاح أعطاب هذا القطاع، وتحسين مردوديته والرفع من مستواه. لهذا فإن المقدار المالي الذي من الممكن فرضه على كل تلميذ يجب أن يكون في حدود معقولة ومقبولة، ولا يتجاوز مثلا 50 درهما شهريا، وذلك حتى بالنسبة للمستوى الجامعي. لنفرض أن هذا المقدار هو 30 درهما عن كل تلميذ وطالب. فإذا كان هذا المبلغ يبدو زهيدا، فإنه، بالنظر إلى عدد التلاميذ والطلاب بالتعليم العمومي الذي يتجاوز ستة ملايين، يعني مدخولا لخزينة الدولة يقدّر بستة ملايين درهم يوميا. يجب الانتباه والاعتراف أن عددا من السياسيين الرافضين لأي مساس بمجانية التعليم العمومي وبقرار تعريب هذا التعليم، لا يفعلون ذلك فقط من باب التظاهر بالوقوف إلى جانب الشعب دفاعا عن مصلحته وحماية للغته، كما يقولون، بل يفعلون ذلك دفاعا عن مصلحتهم وحماية لمصدر ثرائهم. ذلك أن الكثير من هؤلاء السياسيين هم الذين يملكون مؤسسات التعليم الخصوصي بالمغرب، التي تدرّ عليهم أرباحا طائلة كل شهر. فإذا ألغيت مجانية التعليم وأصبحت المدرسة العمومية مدفوعا عنها، وتحسّن تبعا لذلك مستوى التعليم العمومي، وخصوصا إذا أصبحت لغة التدريس هي غير العربية بعد وقف تعريب التعليم، فإن الإقبال على مدارسهم الخصوصية سيتراجع، وتتراجع معه، بالتالي، مداخيلهم التي يجنونها من هذا التعليم الخصوصي. فهناك سياسيون معروفون في أحزاب سياسية معروفة، مثل "حزب الاستقلال" و"الاتحاد الاشتراكي" و"العدالة والتنمية"، يملكون مدارس للتعليم الخاص، وفي نفس الوقت تعارض أحزابهم المساس بمبدأي التعريب ومجانية التعليم العمومي، حتى يستمروا في الاغتناء باحتكارهم للتعليم الخصوصي. مما يجعل من هذا الأخير رهانا، ليس فقط تربويا أو سياسيا، بل رهانا اقتصاديا بالدرجة الأولى. إلا أن المشكل الحقيقي في إلغاء المجانية، ليس فقط إرهاق جيوب الآباء المرهقة أصلا، وإنما في كيفية توظيف الأموال، التي تقدّر ب 6 ملايين درهم تدخل الخزينة العامة يوميا في حالة جعل ثمن الدراسة بالتعليم العمومي 30 درهما للشهر عن كل تلميذ وطالب، في إصلاح جدي وجذري للمنظومة التربوية بالمغرب. ففرض الأداء بالتعليم العمومي مشروط بتوفر إرادة سياسية حقيقية وصادقة لإصلاح التعليم إصلاحا حقيقيا وصادقا، يقطع من سياسة الإصلاحات التي عرفها التعليم منذ الاستقلال، والتي كانت تنصب على الأعراض وتتجنب الجوهر. هناك مجالات كثيرة ومتعددة، ضمن قطاع التعليم العمومي، تستحق أن توجّه إليها الأموال المتحصلة من الأداءات الشهرية التي يدفعها التلاميذ والطلاب. لكن نريد البدء من البداية، أي إعطاء الأسبقية للمجالات ذات الأولوية، والتي لها علاقة سببية مباشرة بجودة أو رداءة مستوى التعليم ببلادنا. أين ستنفق إذن هذه الأموال بالشكل الذي يجعل هذا الإنفاق مفيدا للنهوض بالمدرسة العمومية، ويرفع من مستوى التعليم ببلادنا؟ هناك ثلاث أولويات يمكن أن يرصد لها الجزء الأكبر من تلك الأموال، وهي، بدءَ من أقلها إلى أكثرها أهمية، الزيادة في أجور رجال التعليم التي تقل رواتبهم عن 6000 درهم، تخفيض مجموع ساعات العمل الأسبوعية للمدرسين والعودة إلى ما كانت عليه قبل فرض الحسن الثاني، في بداية الثمانينيات، للساعات الإضافية التي سميت بالساعات "التضامنية" و"التطوعية"، مع ما يستتبعه ذلك، طبعا، من توظيف وتكوين مزيد من المدرّسين. أما أولوية الأولويات فتتمثل في إصلاح مستعجل للحلقة الأوى التي منها تنطلق وتنتقل الرداءة إلى باقي حلقات المسار التعليمي للتلميذ، والتي تشكّل، بالتالي، سبب ومصدر إخفاق النظام التعليمي المغربي برمته. هذه الحلقة هي التعليم الابتدائي. فكما أن الرداءة تنطلق وتنتقل من هذا المستوى إلى باقي المستويات الأخرى، فالنتيجة إذن أن جودة هذا المستوى تنتقل، بالتسلسل كذلك، إلى باقي المستويات الأخرى. التعليم الابتدائي، ولأنه يخص مرحلة الطفولة، فهو المستوى الذي توضع فيه الأسس، وترسى الأصول والآليات التي ستحدد المستقبل المدرسي للتلميذ. فإذا كان مستوى تعليمنا الجامعي متدنيا ومترديا، فذلك راجع إلى تدني وتردي مستوى التعليم الثانوي. وإذا كان هذا المستوى متدنيا ومترديا، فذلك راجع إلى تدني وتردي مستوى التعليم بالمرحلة الابتدائية، التي فيها تكتسب الأدوات والمفاتيح الأساسية والضرورية لاكتساب المعارف والكفاءات والمهارات في المستويات اللاحقة. وحتى يكون التحصيل المدرسي في هذه المرحلة الابتدائية ناجحا وجيدا، ينبغي توفير شروطه المادية والبيداغوجية. ويأتي على رأس هذه الشروط الحدّ من ظاهرة الاكتظاظ التي تجعل عملية التدريس عقيمة وبلا فعالية ولا نتيجة، تماما مثل صبّ الماء في الرمال. يُستعمل إذن المال الذي تجنيه خزينة الدولة من التعليم المؤدى عنه أولا في تخفيض عدد التلاميذ بالحجرات الدارسية، الذي لا يجب أن يتجاوز العشرين في كل حجرة في هذا المستوى من التعليم الابتدائي، مع أن الأمثل، تربويا وبيداغوجيا، هو أن لا يتجاوز خمسة عشر تلميذا. الحدّ من الاكتظاظ بهذا الشكل يتطلب، بطبيعة الحال، توفير حجرات جديدة وبالعدد الكافي، وتكوين مدرسين جدد وبالعدد الكافي كذلك. وهو ما يتطلب ميزانية إضافية لمواجهة هذا الخصاص في الحجرات وفي الأطر التربوية. فبدون هذا التخفيض لعدد التلاميذ بكل حجرة دراسية بالتعليم الابتدائي، لن يكون هناك إصلاح للمنظومة التربوية، سواء استمر التعليم مجانيا كما هو اليوم، أو أصبح مؤدى عنه ب1000 درهم شهريا عن كل تلميذ. المأمول والمفيد أكثر أن يُخفّض عدد التلاميذ بحجرات التعليم الثانوي أيضا كلما كان ذلك ممكنا ومتاحا. لكن إذا كان هناك اكتظاظ كذلك في فصول التعليم الثانوي، إلا أن آثاره السلبية على التحصيل المدرسي أقل بكثير منها بالتعليم الابتدائي، لأن الأمر في هذا المستوى الأخير يتعلق، كما سبقت الإشارة، بغرس الأدوات والمفاتيح اللازمة لفتح خزائن العلم والمعرفة في المستويات العليا اللاحقة. وأول هذه الأدوات والمفاتيح هو اللغة. وإذا كان معلوما أن تلامذتنا ضعاف المستوى في جميع المواد، فذلك راجع أولا إلى ضعف مستواهم في اللغة، التي هي مفتاح باب الفكر والمعرفة والعلم. فمن لا يتملّك اللغة لا يستطيع أن يتملّك أية معرفة لافتقاره إلى الأداة الضرورية لتلك المعرفة. كما أنه ثبت أن من لا يتقن لغة بشكل جيد وسليم، لا يمكن أن يتقن أية لغة أخرى بشكل جيد وسليم، لأن اكتساب تلك اللغات الأخرى يمر عبر اللغة الأولى. وهذا ما يفسر أن تلامذتنا لا يتقنون أية لغة بشكل جيد وسليم، الشيء الذي يفسر بدوره الضعف المهول لتكوينهم الفكري والمعرفي والثقافي. وإذا كان إتقان اللغة عاملا حاسما في تحسين المستوى الدراسي للتلميذ، فذلك لأنه أصبح يتعلم بنفسه، ويعلّم نفسه بنفسه، أي يمارس التعلم الذاتي الذي هو الغاية من التعليم الناجح: تعليم القدرة على التعلم Apprendre à apprendre. ومفتاح التعلم الذاتي هو تملّك اللغة التي بها تقرأ المعارف والمعلومات والمعطيات. فأساس التعلم الذاتي هو القراءة والمطالعة. ولا يمكن أن تكون هناك قراءة ولا مطالعة بالنسبة لمن لا يتقن اللغة التي هي الأداة الضرورية لهذه القراءة والمطالعة. فإذا كان مستوى تلامذتنا ضعيفا جدا، فذلك لأنهم لا يقرأون من أجل تنمية قدراتهم الفكرية والمعرفية في إطار التعلم الذاتي. ولا يقرأون لأنهم يفتقدون إلى أداة القراءة التي هي اللغة. ولهذا فإن المغرب، إذا كان يحتل المراتب الدنيا في ما يخص أداء قطاع التربية والتعليم، فلأنه يحتل المراتب الدنيا في القراءة أيضا، لأن المغاربة، وخصوصا جيل ما بعد الثمانينيات، لم يتقنوا في المدرسة أية لغة تحبّب لهم القراءة. هنا، بصدد اللغة، يأتي دور الجزء الآخر من الإصلاح، والذي لا يكلّف مالا كثيرا مثل بناء حجرات جديدة وتكوين مدرسين جدد، والمتمثل في إلغاء التعريب، هذا الإلغاء الذي سيحتفظ على تدريس العربية كمجرد لغة، لكن دون اعتمادها كلغة للتدريس، هذه التي يجب أن تكون لغة حية، أي تستعمل في الكتابة مثل العربية وفي التخاطب الشفوي أيضا، وهو ما تفتقر إليه العربية. لغة التدريس الطبيعية هي لغة الأم للتلميذ. لكن في غياب هذه اللغة بالمدرسة المغربية، والتي هي الأمازيغية والدارجة، فلا مناص من اعتماد الفرنسية حاليا وبصفة مؤقتة إلى حين أن تصبح لغتا الأم للمغاربة جاهزتين للاستعمال المدرسي بعد تأهيلهما لذلك، على فرض أن تكون هناك إرادة سياسية لإعدادهما للقيام بهذه الوظيفة المدرسية. أعرف أن الكثيرين، إن لم أقل الجميع، يرفضون، وفيهم من هم ذوو نية حسنة، تغيير العربية كلغة للتدريس بالفرنسية أو أية لغة أخرى أجنبية. ويبررون هذا الرفض بأن العربية لغة كاملة ومكتملة، أثبتت قدرتها في جميع الميادين. فلماذا نفضل عنها لغة أجنبية؟ نعم، إذا نظرنا إلى العربية كلغة، فهي ذات قدرات عالية تجعلها صالحة للاستعمال في كل الميادين من طرف من يجيدها ويتقنها. لكن إذا نظرنا إليها كلغة للتكوين والتدريس في مراحل التعليم الأولى، فهنا سيظهر عجزها وقصورها، ليس فقط لأنها ليست لغة الأم بالنسبة للتلميذ، بل لأنها لغة لا وجود لها في الحياة اليومية وفي التخاطب الشفوي. فالعربية لغة عظيمة وعبقرية، لكن بعد إتقانها وتملّكها. أما بالنسبة للتلميذ الذي لا يتقنها ولا يتملّكها، والذي يبدأ في تعلمها لكي يتعلم بها أشياء أخرى، فإنها، تشكّل بالنسبة لهذا التلميذ، عائقا حقيقيا لتعلمه وتكوينه. لقد أدى تعريب التعليم إلى فشل ذريع لهذا الأخير، ومعه فشل فرص التنمية والتقدم والنهضة، وبشكل أصبح معروفا لدى القاصي والداني ولا يحتاج إلى نقاش ولا جدال. فلماذا الاستمرار في سياسة فاشلة تقف عائقا أمام تقدم المغرب ونمائه؟ إذا كانت الفرنسية غنيمة حرب، كما قال كاتب ياسين، فإن الشعب المغربي حرم من هذه الغنيمة التي استولت عليها أقلية نافذة تحتكرها لأبنائها الذين يدرسون بمؤسسات خاصة أو أجنبية، ولا يتقاسمونها مع أبناء الشعب الذين يدرسون بالتعليم العمومي الذي دمرته ساسة التعريب التي قررتها تلك الأقلية النافذة نفسها، والتي تربأ أن يدرس أبناؤها باللغة العربية التي فرضتها هي نفسها بالمدارس العمومية. كثيرا ما نسمع من أفواه بعض السياسيين الدجالين بأن اللغة العربية اختارها الشعب المغربي ولم تفرض عليه. طيّب. لنفتح إذن بكل مؤسسة تعليمية جناحين اثنين: أحدهما خاص بالفرنسية كلغة للتدريس والثاني خاص بالعربية كلغة لهذا التدريس. ولنترك للآباء حرية تسجيل أبنائهم في الجناح الفرنسي أو الجناح العربي. وهنا سنرى، كما هو متوقع من هذا الاستفتاء الافتراضي، أن الجميع سيختارون الفرنسية. فلنترك للشعب حرية اختيار اللغة التي يريد لأبنائه، وليس فرض اللغة العربية عليه ثم القول بعد ذلك بأنه اختار العربية، كما يقول الكذابون والدجالون. إن ما أوصل التعليم العمومي ببلادنا إلى الحضيض الذي يوجد فيه، هو وجود طبقة سياسية، من الأحزاب والمسؤولين السياسيين، انتهازية وجبانة وطفيلية تفتقر إلى الحس الوطني، مما يجعلها لا تفكر في الوطن ولا في الشعب، بل تفكر في مصلحتها الخاصة، الآنية والظرفية والعابرة، وليس في مصلحة الشعب والوطن، العامة والدائمة. لهذا فهي تعرف أن تعريب التعليم كارثة على الوطن والمواطنين، لكنها تدافع عنه وتطالب بتعميمه ليشمل المحيط والحياة العامة، في الوقت الذي تدرّس أبناءها في مؤسسات لا تعريب فيها. فالذي يهمها ليس هو مستقبل الوطن الذي يسير نحو الهاوية بفعل سياسة التعريب، بل مستقبلها هي الذي تضمنه بالمناصب السامية والأجور السمينة. إنها تمارس السياسة الصغرى ذات العلاقة بمصالحها وأنانيتها، في حين أن مصلحة الوطن تتطلب اعتماد سياسة كبرى تخطط للمستقبل البعيد. ولهذا فلا يهم هذه الطبقة استمرار الفساد والاستبداد وتراجع مستوى التعليم، ما دامت مصالحها محمية ومضمونة. إنها طبقة ضد الوطن وضد الشعب. ماذا أنتج التعريب المجاني والمعرّب، غير البطالة والتطرف والجهل المدرسي، وجيش من المحاربين بالمجان في سوريا والعراق دفاعا عن قضايا الآخرين؟ الكثيرون يقولون ويكررون بأن فشل التعليم بالمغرب يرجع إلى غياب استراتيجية واضحة وأهداف محددة وإيديولوجية موجِّهة. هذا غير صحيح إطلاقا. ذلك أن فشل التعليم بالمغرب، هو نتيجة استراتيجية واضحة وأهداف محددة وإيديولوجية موجِّهة، تصب جميعها، ليس في تكوين إنسان متعلم ومؤهل يساهم في تقدم وتنمية بلده، قادر على مواجهة مشاكل الحياة وحلها بما تعلمه في المدرسة من معارف وكفاءات ومهارات، بل تصب في تعريب الإنسان المغربي، أي تحويله إلى إنسان عربي، في لغته وانتمائه وهويته ووجدانه ومشاعره وقناعاته وقيمه. وهذا ما نجح فيه النظام التعليمي بشكل كبير جدا. أي نجح في نشر وتعميم فاحشة "الشذوذ الجنسي" لدى المغاربة ("الجنسي" بمعناه الأصلي في اللغة العربية، الذي يعني القومي والهوياتي). وهو ما يؤكد وجود استراتيجية واضحة وأهداف محددة وإيديولوجية موجِّهة، ترمي كلها إلى جعل المغاربة "شواذ جنسيا" بتخليهم عن جنسهم الأمازيغي الإفريقي وتبنيهم لجنس عربي أسيوي. إن وضع حدّ لسياسة التعريب الإجرامية، التي لم تنتج سوى "الشذوذ الجنسي"، شرط لتوفير تكافؤ الفرص اللغوي لجميع أبناء الشعب، حتى يملكوا نفس المفاتيح التي تفتح لهم أبواب الحداثة والمعرفة النافعة، وتفتح، بالتالي، للمغرب أبواب التنمية والتطور والنهوض. أعرف أن إعادة النظر في مبدأي التعريب والمجانية، اللذين أقرتهما "الحركة الوطنية"، أمر شبه مستحيل ما لم يتم التخلص من إرث هذه الحركة نفسها، والقطع مع أفكارها ومبادئها وأيديولوجيتها، التي لا زالت تشكل قيدا حقيقيا يكبّل المغرب ويمنعه من السير نحو الحداثة والتنمية والتقدم.