من دون أدنى شك أن التعليم يشكل رافعة أساسية في بناء الوطن والأمة، بل وفي بناء الإنسان وتكوين شخصيته؛ فالأمم المتقدمة لم يتأت لها ذلك إلا بفضل ما بنته من أجيال كان فيها للتعليم دور ريادي في وضع سياسة ذات برامج وأهداف واضحة، محورها أولا وأخيرا الإنسان؛ فهو الوسيلة كما هو الهدف باعتباره أساس التنمية. ولا يستقيم ذلك إلا من خلال تعليم ومناهج تربوية تسند سياستها لرجال قلوبهم على وطنهم، ولا هم لهم سوى بناء ذلك الوطن على أسس قويمة وسليمة، وبعيدا كل البعد عن الحسابات الضيقة. وفي سياق ذلك تتناسل الأسئلة على كثرتها، منها هل القائمون على سياستنا التربوية والتعليمية هم أولا أصحاب معرفة واختصاص؟ وثانيا هل يتحلون بالوطنية حتى تكون قلوبهم مرهفة لخدمة وطنهم، أم أنهم يرون في أبناء هذا الشعب فئرانا يجب وضعها في مختبر حتى يواجهوا في كل حقبة عملية إقصاء ممنهج تتنوع فصوله حسب المخرج من بداية الاستقلال إلى يومنا المشؤوم هذا؟. بالتأكيد أن مسلسل تدمير الأمة لا يعدو أن يكون نتاجا لتدمير التعليم في هذا البلد. ولم يتوقف أبدا هذا المسلسل، فالتخبط في السياسة التعليمية والتربوية كان هو المتحكم في التوجهات. ومن التخبط ما هو ناتج عن الجهل بالأشياء، ومنه ما هو ناتج عن قصد وعن غاية مبيتة في نفس يعقوب. والغريب في الأمر أن هذين النوعين من التخبط: الجهل والنية المبيتة، اجتمعا وبقيا ملازمين للشخصيات التي تعاقبت على هذا القطاع. فمع بداية الاستقلال ورث أولئك الذين يطلقون على أنفسهم أنهم "وطنيون" مغربا جاهزا ومعدا على قياسهم؛ ولضمان استمرارية مغربهم، اعتمدوا بالأساس على تعليم مفتوح في وجه النبلاء قوامه اللغة الفرنسية، لغة المستعمر. ولسنا ضد هذه اللغة، ولكن نحن ضد من يريد أن تظل محصورة في أبنائه ومحظورة على أبناء الشعب الذين تم الدفع بهم عن قصد إلى العسكر في رتبه الدنيا؛ بينما عمد هؤلاء النبلاء وورثة الاستعمار إلى توجيه أبنائهم إلى الجامعات والمعاهد الفرنسية. فتخرجوا منها وعادوا ليستلموا زمام الأمور في هذا البلد من آبائهم وذويهم، حجتهم الواهية في ذلك أن المغرب مفتوح في وجه الكفاءات، بينما في واقع الحال رفضوا أن يكون تعليمه مفتوحا أمام تكافؤ الفرص. فطبيعي أن يكون التفاوت في تحصيل المعرفة وفي المستويات لأن المفاضلة بين مغربي من الدرجة الأولى ومغربي غير مصنف كانت منذ نقطة البداية؛ فكان الحكم آنذاك على الأمازيغي بأنه إنسان جاهل ومتخلف ومصيره مسقف بطموح لا يتجاوز أن يصبح عسكريا، وهو ما يشكل السيناريو الأول من عملية الإقصاء في السياسة التعليمية للمغرب مع بداية الستينيات إلى أواسط سبعينيات القرن الماضي. وقد أرادوا لجيل بأكمله أن يكون ضحية لهذه السياسة، وتأتى لهم ذلك. السيناريو الثاني في هذا المسلسل هو ما عرف بتعريب التعليم، فهو حق أريد به باطل، وقد جاءه الباطل بتكريس وضعية الإقصاء من جديد من أجل إبقاء أصحاب السلطة على رأس السلطة. كيف تم ذلك؟ الداعون إلى التعريب وتعميمه على جميع مواد التدريس في المراحل الابتدائية والثانوية والإعدادية يوهمون الناس بأنهم من المدافعين عن اللغة العربية وأنها لغة القرآن وأن المغرب بلد عربي، وأن استقلال المغرب هو من استقلال تعليمه، وغير ذلك من المبررات الكاذبة..والمفارقة أن من دعا إلى التعريب أبقى على أبنائه في المدارس الفرنسية. هذا التوجه أريد به إضعاف تكوين أبناء عامة الناس وإغراقهم في تعليم متخلف ينبني على لغة واحدة، فيما تراجعت المستويات في اللغة الفرنسية. وبات التلميذ في عداد الأميين يتردد على المدرسة العمومية ليغرف من منابع الجهل والأمية ووضع له سقف محدود لا يتجاوز مستواه في أحسن الأحوال مستوى البكالوريا، وأصبح العائق الكبير أمامه هو مستواه الضعيف في اللغة الأجنبية الذي لا يمكنه من متابعة دراسته الجامعية. هذه الوضعية المزرية جعلت الجامعات والمعاهد العليا التي تعتمد الفرنسية في متناول أبناء المنعمين بخيرات الوطن، وهم الذين تلقوا تعليمهم في مراحلهم الأولى في المدارس الأجنبية لضمان استمرارهم في التعليم العالي وانتزاع شواهد عليا لا علاقة لها بما دعا إليه آباؤهم من تعميم التعريب في المدرسة المغربية؛ وها هم اليوم أصحاب مناصب عليا والمتحكمون في رقاب البلاد والعباد، وعلى نهج آبائهم وأجدادهم، يدعون حاليا إلى "بغررة التعليم"، أي إدراج الدارجة في مناهج التعليم بالمدارس الحكومية. شخصيا لا أستطيع أن أستوعب هدا التوجه، ولا أجد له معنى أو مكانا في المنظومة التربوية؛ فالطفل الذي تفتقت عيناه داخل الأسرة وفي الشارع لا يتحدث سوى الدارجة، فما هي الإضافة التي بمقدور المعلم أن يعطيها للتلميذ في هذا التعليم. الأصل في التعليم أن يتعلم الطفل لغة جديدة، قد تكون العربية الفصحى وقد تكون لغة أجنبية. وهنا تبرز أهمية رجل التعليم كمعلم وكملقن وكمرب. ثم ما أهمية هذه الدارجة في علاقاتها التفاعلية مع لغات التخاطب الكوني؟ وكيف يمكن استعمالها خارج الحدود والاستفادة من العلوم التي حققتها البشرية في مختلف العوالم؟ في اعتقادنا أن دعاة الدارجة هم من دعاة العزلة والتقوقع. يحدث ذلك في اللحظة التي بات فيها العالم قرية صغيرة بفضل تكنولوجيا عابرة للقارات. أريد من دعاتنا تفسيرا بداغوجيا وعلميا لتبرير هدا الاختيار. إنهم يعملون بكل بساطة على تدمير المجتمع. لذلك فإن "بغررة" التعليم أو "حرحرته" لم تأت محض الصدفة، بل هي نتيجة حتمية لمسلسل متحكم فيه القصد منه بالدرجة الأولى مواصلة الإقصاء وتمييع المجتمع وإعطاء الطابع الرسمي للغة الشارع أو "التشرميل" بإدخالها إلى المدرسة. أية نذالة وأي انحطاط هذا الذي نعاينه في المشهد التربوي؟.. مرة أخرى سيتم تدريسها فقط في المدارس الحكومية ليزداد جهل الجاهل استفحالا، وتبقى مدارسهم في منأى عن هذه العبثية. سابقا كان يقال لولا أبناء الفقراء لضاع العلم.. هذه المقولة انتهت ولم يعد لها مفعول مع هؤلاء القوم، فهذه الإستراتيجية التعليمية والتربوية كما يحلو لهم أن يتغنوا بها باتت في حكم المؤكد مدرسة لصناعة الرذيلة وتجريد أمة من قيمها الروحية والأخلاقية ومسخ هوية شعب وفصله عن دينه وتاريخه وجذوره لكي يعيش مفككا بلا مرجعيات ولا ضوابط وتحويله من الآدمية إلى البهائمية. فما يميز الإنسان عن الحيوان هو علمه ومعرفته. وهم بذلك يريدون أن يظل الإنسان المغربي حيوانا بطبعه ولسانه، محروما من التفكير أو التعبير، طموحه وإن كبر لن يتعدى شهيته من الأطباق التي أعدتها له تلاوة "بوكلاخ".. رحم الله الزمن الجميل، زمن أحمد بوكماخ. إجمالا، هده السياسات التربوية يمكن وصفها بالمتخلفة، وتفتقر إلى منظومة تربوية متكاملة وذات رؤيا واضحة، ويغيب عنها تحديد المفاهيم وتحديد الأهداف المراد تحقيقها. لا وجود لخيط ناظم بين المنظومة التربوية والواقع المراد خدمته بما ينسجم مع الطبيعة المغربية. الارتجال الذي تتسم به تلك السياسات يخلق قطيعة مع متطلبات وحاجيات الوطن. من نتائج كل ذلك أن الدولة لها يد في خلق أجيال بدون أفق ولا مستقبل، ومن أخطر تداعياته انتشار الجهل وفقدان الأمل، وازدياد منسوب الجريمة وانهيار القيم الذي قد يؤدي إلى انهيار المجتمع. وما دامت الأشياء تقاس بنتائجها، فما هي إذن حصيلة هده السياسات التربوية؟ فالحصيلة كارثية بكل المقاييس، وعلى رأسها نجد المغرب اليوم يتذيل قائمة الدول في العالم من حيث مؤشر جودة التعليم، فهو حسب تصنيف المنتدى الاقتصادي العالمي يحتل المرتبة 101 من أصل 140 دولة. أهذه هي التطلعات التي كانت الأسر المغربية تتوسمها في إصلاح المنظومة التربوية، لاسيما بعد الخطاب الملكي السامي الذي شدد على إصلاح التعليم؟. يبدو لي أنه بعد هذه المهزلة التي خرجت بها الكتب المدرسية لهذا الموسم الدراسي يبدو أننا بصدد مواجهة أعداء للوطن يعملون ضد التيار وخارج التوجهات العليا وما يقومون به ليس إصلاحا بل إفسادا للمنظومة التربوية وتشويها لقيم مجتمع وتدميرا لشعب. الإصلاح بات ضروريا لإنقاذ الوطن ولو كره الكارهون. ولست على درجة من العلم والمعرفة في مجال التربية والتعليم حتى أدلو بدلوي في ما ينبغي أن تكون عليه إستراتيجية هذه المنظومة، لأنني أفضل أن يترك ذلك لذوي الاختصاص والممارسين والعاملين في هذا الحقل. لكن المرجعيات التي يجب أن يستنير بها الإصلاح ويسترشد لا ينبغي أن تنزاح عن بعض الأسس والأهداف، منها أولا أن يكون الإنسان هو الهدف الأسمى لهذا الإصلاح لخلق مواطن صالح. مواطن متعلم خير من مواطن أمي أو جاهل. ثانيا مواءمة البرامج التربوية والتعليمية مع طبيعة متطلبات وحاجيات البلد. ثالثا إبعاد السماسرة والمتطفلين عن الحقل في رسم ووضع سياسة التعليم. رابعا تحصين التعليم وجعله في منأى عن التيارات السياسية. خامسا إشراك جميع الفاعلين وقوى المجتمع المدني بما فيها "الباطرونا" أثناء وضع السياسة التربوية والتعليمية. سادسا الانفتاح على اللغات الحية وتدريسها بدءا من المرحلة الابتدائية. رحم الله الحسن الثاني حينما وصف من يتحدث لغة واحدة بأنه أمي. سابعا إعادة كتابة تاريخ المغرب وإدراجه في المناهج التربوية وليس كما هو عليه الحال بتكريس البديهيات الكاذبة؛ فالمناهج الحالية تضع قطيعة بين التلميذ وتاريخ أجداد بلاده، ويروج له عربيا أن الشرق هو المبتدأ وهو المنتهى، وغربيا أن فرنسا هي الأم وهي منهل المرجعيات؛ فيما يظل المغرب مغيبا عن برامج التدريس وكأنه لم يكن له وجود إلا بعد مجيء "رجل من المشرق منذ اثنى عشر قرنا فقط". ثامنا تشجيع البحث العلمي وتمكينه من ميزانيات مهمة، فهو الأساس في إحداث نقلة نوعية لتقدم الأمم والذي يحدث الفارق بينها. وميزانيات الدول العربية مجتمعة في مجال البحث لا ترقى إلى نصف ما تخصصه دولة صغيرة مثل إسرائيل من أرصدة لتطوير أبحاثها في مختلف المجالات، كما أن جامعاتها ومعاهدها تصنف من أجود المؤسسات عالميا. هذا هو التوجه الحقيقي الذي يجب أن يتخذه الإصلاح، وليس هذا الذي نعاينه من تمييع وتشويه للمشهد، بل هي مؤامرة على مستقبل الأجيال القادمة. أين نحن من هذا كله؟. إذا كان الفارق على ما هو عليه من اتساع بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، فإن ردمه ممكن متى خلصت النوايا بتمكين أصحاب الاختصاص من العمل باستقلالية. ويحق لنا أن نفخر ونعتز بهذا البلد، ولا نرضى لأنفسنا أن توجد بيننا قلة تقتل فينا روح الفخر والاعتزاز. فإلى متى سيستمر هذا الحال؟.. نريد لبلدنا أن يكون مغربا للجميع من خلال تعليم جامع وحاضن لكل فئات المجتمع. قيل إننا أمة لها تاريخ لكن يجب أن يكون لها مستقبل..والمستقبل مرهون بتربية وتعليم أبنائنا. [email protected]