لعله قدر الجيل الجديد من الشعوب العربية أن تحيا هذه اللحظات التاريخية المذلة لبعض "زعمائها" الواحد تلو الآخر. بعد مشهد صدام حسين وهو يستل من حفرة أمريكية مهينة للغاية, ويتم تعريضه لفحص أسنان شبيه بما تتعرض له الحيوانات أثناء فحصها من طرف البياطرة, أتى الدور على فرعون مصر حسني مبارك لكي يدلف أكاديمية الشرطة التي لطالما صفقت له جدرانها حتى وهو يقول كلاما لامعنى له, لكن محمولا هذه المرة على سرير طبي من أجل حضور أطوار محاكمته التي انطلقت الأربعاء. البعض يقول إن الأمر في النهاية والبداية لعبة يلعبها عسكر مصر من أجل البقاء في السلطة, بعد أن قرروا منح "جثة مبارك الحية" للشعب لكي يرتاح قليلا ويؤمن أن "ثورته" قد نجحت, لكن كل تكتيكات الكون التي قد تكون هي السبب وراء المشهد المهين للريس المصري لاتنزع عن المشهد كله تاريحخيته, ولا تستطيع منع ذلك الأربعاء الرمضاني من دخول الزمن المعاصر من بوابته الواسعة.
البي بي سي العربية وجدت لعبة طريفة للغاية ذلك الأربعاء حين عادت من خلال أحد تقاريرها إلى كل الجمل والعبارات المستهزئة أو المضحكة التي قالها مبارك في الأونة الأخيرة من حكمه, والتي كانت تدل على انعدام التواصل بينه وبين مايقع على أرض الواقع, وتكشف أن ثمة جدارا حديديا سميكا قد تم وضعه بينه وبين من يفترض أنهم ناخبوه الذين أصلوه إلى سدة الحكم, أي بينه وبين الشعب.
أظهر التقرير حسني مبارك وهو "يستظرف" محاولا السخرية حين سأله أحد الصحافيين عن "العبارات ومشكلتها في مصر بعد أن كثرت حوادث غرق هذه العبارات", حيث رد عليه مبارك راغبا في الضحك "العبارات من اللي بتغرق ولا الثانية؟". الصحافي المسكين مثله مثل كل صحافة العهد السابق في مصر لم يكن يستطيع أن يقول له حينها "هذا موضوع لايقبل ضحكا وفيه جثث مئات المصريين يوميا تبقى في البحر", إذ ابتسم محاولا تمثيل دور من راقته النكتة الرئاسية والسلام.
المسألة نفسها كررها مبارك في البرلمان المصري (مجلس الشعب) أثناء حدديثه الشهير عن البرلمان الشعبي الموازي الذي قالت القوى المعارضة المصرية إنها ستنشئه بعد فشل كل قادتها ورموزها في دخول البرلمان في الانتخابات النيابية الأخيرة في مصر بفعل التزوير, (وهي بالمناسبة الانتخابات التي دقت المسمار الأخير في نعس حكم مبارك لبر المحروسة) حيث التفت جهة نواب "الوطني" الذين أصبحوا الأغلبية الساحقة في المجلس وقال لهم "خليهم يتسلو".
لعبة البي بي سي العربية ذلك الأربعاء بدت في محلها وهي تنقل صورا مناقضة تماما لصورة مبارك العليل أو الذي يمثل دور العليل, وهو متكئ على سريره الطبي في قفص الاتهام, يسترق السمع لكي يعرف أي مصير ينتظره بعد أن تخلص منه العسكر الذين حكموا به مصر منذ مقتل أنور الساداتز التناقض ذاته في الصور كان يقفز إلى الذهب أثناء مشاهدة علاء وجمال وهما يحاولان حماية أبيهما من عدسات الكاميرا, حيث تذكر الجميع مشهد إبني الرئيس وهما يقودان الكتيبة المصرية الكروية في كل المحافل القارية, ثم مشهدهما المثير لكثير من الاستغراب وهما يصيحان في مستودع الملابس بعد نهاية كأس إفريقيا الأخيرة "زي ماقال الري, منتخب مصر كويس".
الشابان معا تركا عنهما صراخ أيام الحكم لصالح منتخب الكرة, وحملا كل واحد فياليد, مصحفا يبدو أنهما عادا إليه بقوة في أيام السجن هاته, وإن كان علاء يجد صعوبة كبرى في وجوده صحبة أخيه جمال الذي يعتبره أس كل البلاء الذي أصاب والدهما, خصوصا وأن علاء كان يرغب في الحكم الاقتصادي فقط, ولم يكن ذا هواجس سياسية عسك أخيه الأكبر جمال.
البعض سيقول "ويل ويل", والتجارة والإمارة حين يطمع فيها أبناء الحاكم دون وجه حق تتحولان معا إلى بلاء عليهما, وهو البلاء الذي قدمه لنا درس آل مبارك الجديد. غير أننا سنكون واهمين إذا اعتقدنا أنه الدرس الأخير فعلا. حكام آخرون سيخطئون, وحكام آخرون سينجبون من سلالتهم أناسا يعتقدون أن توريث شعب بأكمله هو أمر قابل للتطبيق في عالم اليوم. حكام آخرون سيطمئنون إلى أوهامهم وسيقولون إن وضعية مصر لاتشبه وضعييات بلدانهمو وحكام آخرون سيقولون إنهم نصحوا مبارك لكنه لم يرعو, دون أن يقولوا لنا من نصحهم هم في يوم من الأيام بفعل شيء يجنبهم مصير مبارك ونجليه المذل.
لاخيار في العالم العربي والإسلامي اليوم عن الوصول إلى حل حضاري, يسمى عند بقية خلق الله الآخرين: الديمقراطية, من أجل تلافي تكليف أمريكا مرة بإلقاء القبض على صدام حسين في حفرة لكي يتخلى عن حكم العراق, أو تكليف العسكر في مصر بالتخلص من الفرعون وتعبيد الطريق أمام الإخوان المسلمين لكي يحكموا في الفترة المقبلة بمباركة أمريكية صرف, لئلا "تضيع مصر كلية", أو تكليف الناتو بقصف القذافي لتخليص ليبيا من قبضته القاتلة والمجرمة.
لا حل أمامنا إلا الديمقراطية الحقيقية, أو...المزيد من مشاهد الإذلال الجماعية لنا ولمن كانوا في وقت من الأوقات يحكموننا.
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق تعيين الفقيه المنوني مستشارا ملكيا يبدو أمررا مندرجا في إطار سيرورة طبيعية للغاية, بعد العمل الطيب والمتميز الذي أنجزه الفقيه الدستوري رفقة اللجنة التي حملت إسمه, والتي أنجبت للمغاربة دستورهم الحالي الذي صادقوا عليه يوم فاتح يوليوز المنصرم. تعيين يأخذ أبعاده كلها لكي يصبحإعادة اعتبار للرجل بعد كل الكلمات المنتقدة التي سمعها في الشارع سواء من طرف العشرينيين أو من طرف زملاء له كانوا يتمنون أن يكونوا محله على رأس لجنة المراجعة, وسربوا غير قليل من الكلام الكاذب حوله. لحسن الحظ أن البلد يتقن القيام بهذه الإشارات الإيجابية بين الفينة والأخرى, لئلا يفقد أبناؤه البررة أملهم فيه نهائيا