شكل مثول الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك أمام المحكمة في القاهرة، أول أمس، وسط قفص حديدي وفي مشهد مهين، رسالة قاسية موجهة لحكام عرب، مفادها أنهم قد يواجهون يوما المصير ذاته ويخضعون للمحاسبة في حال تمادوا في إهانة شعوبهم وإذلالها ولم يسرعوا تنفيذ الإصلاحات المطلوبة والتي رفع عناوينها بالبنط العريض على اللافتات حركات احتجاجية شعبية طالبت بالتغيير والديمقراطية والحرية. وليس من المستبعد أن يعرب معظم المواطنين العرب عن أملهم في أن يروا زعماء كل من ليبيا واليمن وسوريا في الموقف ذاته الذي وقفه «فرعون» أول أمس لتقتص شعوبهم منهم بعد أن أذاقوهم لعقود طويلة أصنافا من العذاب والحرمان، ولا يزالون يرتكبون أفظع الجرائم إلى يوم الناس هذا. واستحوذ مشهد محاكمة «فرعون» على اهتمام المصريين والعرب، فبعد أن كان رئيسًا عربيًا لثلاثة عقود، بات الآن أول رئيس يُحاكم، منذ بدء الانتفاضات التي عُرفت إعلاميًا باسم «الربيع العربي». ابتهاج مصري ومصريا، فإن وضع الرئيس السابق في قفص الاتهام يمكن أن يخفف الانتقادات الموجهة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يدير شؤون مصر الآن ويخفف شكوك المحتجين من أنه يحمي قائده السابق. وطالب مصريون اعتصموا في ميدان التحرير بالقاهرة لأكثر من ثلاثة أسابيع في يوليوز الماضي المجلس الذي تسلم السلطة منذ تنحية مبارك في 11 فبراير بإصلاحات أسرع بما في ذلك محاكمات سريعة لمبارك ومعاونيه بتهمة الفساد وقتل محتجين. ويشتبه كثيرون في أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يتباطأ في اتخاذ الإجراءات ضد مبارك الذي أدخل مستشفى في شرم الشيخ في أبريل ومازال هناك حتى الآن. وسيسعد كثير من المصريين لمجرد رؤية الرئيس المخلوع في قفص الاتهام. وأقيم خصيصا قفص اتهام يمثل فيه مبارك أمام المحكمة في أكاديمية الشرطة بالقاهرة التي كانت تحمل اسمه. وخارج قاعة المحكمة شاهد مصريون على شاشة كبيرة الرئيس السابق الذي تجاوز الثمانين من عمره راقدا على سرير طبي ويزود بالمحاليل وهو ينفي ضلوعه في قتل متظاهرين في الاحتجاجات التي أطاحت به. وقال أحمد عامر (30 عامًا) وهو موظف في شركة للمياه خارج المجمع، الذي توجد به المحكمة لوكالة «رويترز»: «لا أصدق هذا.. أن أرى رئيسًا يُحاكم... لم أتخيل قط. أشعر أن غدًا سيكون أفضل، وأن الرئيس القادم يعلم ماذا قد يحدث له إذا انقلب على شعبه». وتكدّس المصريون في المقاهي وعند الأكشاك، وفي أي مكان به جهاز تلفزيون لمتابعة المحاكمة. وخفتت الحركة المروريَّة في شوارع القاهرة المزدحمة، مع متابعة المصريين للحظات رأوا أنَّ التاريخ يُكتب فيها. واعتبر الدكتور عماد جاد رئيس مركز العَلاقات الدولية بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية محاكمة «مبارك» ونجليه علاء وجمال ووزير الداخلية الأسبق حبيب العادلى خطوة تاريخية ستسجل فى التاريخ، مشيرا إلى أنها المرة الأولى في تاريخ مصر يحاكم فيها رئيس نتيجة ضغوط ومطالب شعبية. وأوضح جاد فى برنامج «صباح الخير يا مصر» بالتليفزيون المصري، أول أمس، أن مصر على أول الطريق الصحيح لسن قوانين جيدة وتنحي مبارك وإلغاء سيناريو التوريث هو بداية للإصلاح، مشيرا إلى أن ظهور الرئيس السابق في القفص يعني ثورة وبداية لعهد جديد قائم على الإصلاح. وأضاف أن تشكيك الشعب المصري وعدم تصديق محاكمة مبارك شيء طبيعي بعد فترة طويلة من التباطؤ، مشيرا إلى أن كل ما حدث لمبارك هو نتيجة طمع نجله جمال وأسرته فى السلطة والنفوذ. وأضاف أن انشقاق الآراء ما بين مؤيد ومعارض لإعدام مبارك لن تؤثر على الحكم النهائي، فالقانون سيأخذ مجراه في تحقيق العدالة، مشيرا إلى أن يوم الثالث من غشت سيسجل فى التاريخ ويدرس بالمدارس. وأكد أن مبارك كان مسؤولاً عن أمن شعبه وإلقاء تهمة قتل متظاهرين على حبيب العادلي وزير الداخلية الأسبق لن تعفيه من العقاب. من ناحية أخرى، قال الناشط السياسي والمعارض جورج إسحاق خلال اتصال هاتفي للبرنامج إن محاكمة مبارك هي درس لكل رئيس عربي، معربا عن أمله في أن تكون المحاكمة عادلة ونزيهة، مشيرا إلى أنه تابع عن كثب سير المحاكمة للتأكد من مثول مبارك أمام القضاء. وأضاف أنه لا يستطيع التكهن بكيفية سير محاكمة مبارك ورموز الفساد (إلى النهاية)، داعيا إلى ضرورة طي صفحة محاكمة رموز الفساد والتوجه نحو الإصلاح والتنمية بالإسراع في الحسم، مؤكدا أن محاكمة وزراء النظام البائد المتهمين بجرائم فساد سيمنع الوزراء الجدد من ارتكاب أية جرائم في حق المصريين. وتبادل مبارك الحديث مع ابنيه داخل القفص وكان يرفع رأسه من وقت لآخر ليتابع وقائع الجلسة. ويرى كثير من المصريين أن مرضه حيلة لكسب التعاطف واعتقدوا أن الجيش قد يستغلها لتفادي إحضاره ليمثل شخصيا أمام المحكمة. وقال محمد نجيب (32 عاما) في شرم الشيخ «لماذا كان على سرير طبي؟.. هل هو عاجز؟.. هذا لعب بمشاعر الناس حتى نبدأ البكاء على رجل عجوز». ردود فعل وأثارت محاكمة «مبارك» ردود فعل دولية تناولتها الصحافة بالتفصيل، حيث أشادت تعليقات كبرى الصحف الأمريكية وصحفيون بلجيكيون بالخطوة، فيما تحاشى ساسة الاتحاد الأوروبي الإفصاح عن موقف مساند أو معارض للمحاكمة، معتبرين أن محاكمة «مبارك» شأن داخلي مصري. في وقت دعا فيه أردنيون الحكام العرب إلى الاتعاظ ب»مبارك». واعتبرت صحيفتا ‘'واشنطن بوست'' و''نيويورك تايمز'' الأمريكيتان، أول أمس، أن محاكمة الرئيس المخلوع ودخوله قفص الاتهام بمثابة لحظة فارقة وتاريخية بالنسبة لمصر والعالم العربي. وأشارت الصحيفتان إلى أن المصريين لا يزالون حتى الآن غير مصدقين أن رئيسهم السابق يمثل للمحاكمة ويوضع في قفص الاتهام. ولفتت صحيفة «واشنطن بوست» الانتباه في تقرير بثته على موقعها الالكتروني بشبكة الانترنت إلى مخاوف بعض المصريين وشكوكهم حول محاكمة مبارك من عدمه. وكان وزير الصحة عمرو حلمي قد أكد في وقت سابق قدرة مبارك على المجيء والمثول أمام المحكمة بالإضافة إلى نجليه جمال وعلاء مبارك وحبيب العادلي وزير الداخلية السابق وستة من كبار مساعديه. ومن جانبها، قالت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية في تقرير بثته على موقعها الالكتروني بشبكة الانترنت: إن العديد يعتبرون هذه اللحظة تاريخية في التاريخ العربي الحديث حيث إن «الفرعون في قفص الاتهام». وأشارت إلى أن حضور الرئيس السابق إلى المحكمة أنهى التكهنات وتضارب الأقوال بمثوله في قفص الاتهام. ترحيب بلجيكي من ناحية أخرى، استحوذت محاكمة الرئيس المخلوع على اهتمام الرأي العام البلجيكي، حيث وصف الأمر بأنه «غير قابل للتصديق». وقال الصحفي البلجيكي المختص بشؤون الشرق الأوسط والمنطقة العربية «بودوان لوس» في تعليقه على المحاكمة التي تحظى باهتمام شعبي خاصة من قبل ذوي ضحايا الثورة، إن الرئيس السابق ليس إلا كبش فداء تخلى عنه الجيش المصري. ووصف في تعليق نشرته صحيفة «لوسوار»، أول أمس، المحاكمة ب»الأولى من نوعها إذا ما قارنا محاكمة اليوم (الأربعاء) بمحاكمة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، أو المحاكمات التي تجري حالياً بحق الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، فإننا نرى أن محاكمة مبارك فريدة من نوعها»، حسب قوله. وأضاف أن خصوصية هذه المحاكمة تأتي لكون مبارك سيكون أول ديكتاتور عربي يحاكم من قبل شعبه بجرائم تتعلق بمقتل مدنيين. ولفت إلى الشكوك التي تجتاح الشارع المصري بإمكانية أن تؤدي هذه المحاكمة إلى صدور حكم فعلي على الرئيس السابق بسبب حالته الصحية «الحرجة» وغير ذلك من العوامل التي تجعل الشارع يعتقد أن الجيش ضحى بقائده السابق ليبقى في السلطة بوصفه المؤسسة المسيطرة على البلاد منذ عقود، بحسب تعبيره. وخلص إلى القول أن المجلس العسكري بحاجة إلى إعطاء المصريين ما هو أكثر من الوعود لإقناعهم بأن التغيير قادم. من جانبه، قال المحلل «فانسان بروم»، إن المحاكمة ستكون خارجة عن المألوف بسبب المراكز السابقة التي كان يحتلها المتهمون، وأضاف «إنها المرة الأولى التي سيشهد فيها المصريون محاكمة من كانوا قبل عدة أشهر يسيطرون على مقدرات البلاد ويحتلون مراكز في رأس السلطة»، مشيراً أن العديد من المواطنين هناك لازالوا يعتقدون أنهم يحلمون. وختم بروم كلامه بالإشارة إلى أن هذه المحاكمة، وفق وعود رئيس المحكمة الجنائية القاضي أحمد رفعت ستكون سريعة وعلنية. ارتياح عربي من جانبهم، وصف أردنيون محاكمة «مبارك» ب»الحدث التاريخي في حياة الشعوب العربية»، داعين الحكام العرب إلى أخذ العبرة وعدم التمادي في انتهاك حقوق شعوبهم في الحياة الحرة والكريمة. وأعرب عدد من الأردنيين عن أملهم في أن يروا زعماء كل من ليبيا واليمن وسوريا في الموقف ذاته الذي وقفه مبارك اليوم لتقتص شعوبهم منهم. وتابع المواطنون الأردنيون باهتمام بالغ وقائع محاكمة مبارك التي بثها التلفزيون المصري على الهواء مباشرة. وبعد وقت قصير من ظهور مبارك وهو يدخل قفص الإتهام، راقداً على سرير طبي متحرك، سارع مئات المواطنين لتبادل صورته عبر هواتفهم النقالة وعلى صفحاتهم على مواقع التواصل الإجتماعي (فيسبوك) و(تويتر). وتصدرت صور ووقائع محاكمة مبارك صفحات المواقع الاخبارية الإلكترونية المحلية. وكان الشارع الأردني، بمختلف توجهاته وأطيافه، رحّب بحرارة بتنحي مبارك عن الحكم في الحادي عشر من فبراير الماضي. في المقابل، أبدى عدد آخر تعاطفهم مع مبارك بسبب الوضع الذي ظهر عليه لدى دخوله قفص الاتهام في المحكمة، داعين الى محاكمته غيابياً. وخاطب ناشط بحريني يستخدم الاسم المستعار (أونلاين بحرين) الحكام الشموليين الآخرين في العالم العربي قائلاً: «أعزائي الحكام المستبدين العرب، القوا نظرة جيدة على مبارك. كان قويًا مثلكم. إذا لم تتغيروا فإنّ وقتكم ينفد». ويعتقد البعض أنّ محاكمة مبارك ستلهم محتجين في دول أخرى يحاولون الإطاحة بزعمائهم مثل الرئيس السوري بشار الأسد، الذي يقمع احتجاجات على حكمه بالقوة. وقال عماد الدين الرشيد أستاذ القانون الإسلامي الذي فر من سوريا إن المحاكمة تلهم السوريين دون شك وتزيد آمالهم في انتصار قضيتهم من أجل الحرية حتى يروا الضالعين في إراقة دماء السوريين وسرقة ثروات سوريا يقفون في قفص الاتهام. وتزامنت الجلسة الأولى لمحاكمة مبارك مع توغل للجيش السوري في قلب مدينة حماة. وفي اليمن تسمر المحتجون أمام شاشات تلفزيون صغيرة جلبوها إلى خيام اعتصامهم في العاصمة صنعاء. حياد أوروبي من ناحيته، اعتبر الاتحاد الأوروبي محاكمة «مبارك» ونجليه وكبار أركان نظامه السابق «أمراً داخليًا مصريًا صرفًا»، رافضًا التعليق حول إمكانية إصدار حكم بإعدامه. وقال مايكل مان، المتحدث باسم الممثلة العليا للأمن والسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون تعليقًا على المحاكمة غير المسبوقة لحاكم عربي يطاح به في انتفاضة شعبية، إن الأمر يتعلق بالشعب المصري، «فلا تعليق لنا على ما يجري، فالأمر الآن بيد القضاء المصري، الذي يعرف تمامًا ما عليه فعله». ورفض المتحدث التكهن بموقف الاتحاد الأوروبي في حال تم إصدار حكم بالإعدام على مبارك، واصفًا ب»الثابت» موقف الاتحاد المناهض للإعدام في كافة الظروف، «لكن الحديث عن إمكانية صدور حكم إعدام بحق الرئيس المصري السابق يبقى، حتى اللحظة، من قبيل التكهنات»، بحسب وكالة «آكي» الإيطالية للأنباء. يذكر أن الثورة الشعبية في مصر التي انطلقت في 25 يناير من العام الحالي قد أدت إلى الإطاحة بالرئيس حسني مبارك الذي حكم البلاد لمدة ثلاثين عامًا، وقد أحيل لاحقًا إلى المحكمة الجنائية في تهم تتعلق بقتل المتظاهرين.