عندما يقدم شبان مسلمون على قتل صحفيين واحتجاز رهائن، من ديانة يهودية، ويعتقدون أنهم، بهذه الطريقة، يخدمون الإسلام ويدافعون عنه ويواجهون أعداءه ويشخصون معنى الانتماء الحقيقي إليه، فإن ذلك يدفعنا إلى التساؤل عما إذا كان هؤلاء الشبان ينطلقون من "إسلام" خاص بهم، لا علاقة له بالإسلام الشائع والمتداول بين عموم المسلمين، أم يمتحون بعض جوانب سلوكهم من منظومة التفكير، نفسها، التي بُنِيَ عليها الإسلام "العام"؛ ولا نقصد بهذا الإسلام العام جوهر "الرسالة السماوية" للديانة، بل نقصد به مآلها والطريقة التي فُهمت بها وما صنعه الأفراد بها وكيف حولوها إلى ثقافة دينية يومية.
نحن، كمسلمين، نجني بعضاً مما زرعناه ونؤدي ثمن تعثر ورش الإصلاح الديني. ليس هناك أتباع ديانة يمكن أن يعتبروا أنفسهم، كما يحاول أن يوحي إلينا به البعض، معفون من واجب القيام بهذا الورش. إن للتاريخ حكماً لا بد أن يصدره وإن لسنة التطور آثارا تطال مختلف مناحي الحياة. أوروبا شهدت، خلال القرن السادس عشر، حركة إصلاح ديني ناهضت عدداً من ممارسات الكنيسة الكاثوليكية وسعت إلى ضمان مواكبة الحقل الديني لمجمل التحولات التي كانت قيد الحصول في القارة الأوروبية. لم تقتصر حركة الإصلاح على إعادة هيكلة الكنيسة ووضع حد لمظاهر الفساد والتعسف والتسلط المرتبطة بها؛ فخلافاً لما يذهب إليه الإسلاميون الذين ينفون الحاجة إلى إصلاح ديني مماثل في العالم الإسلامي، فإن الحركة شملت، أيضاً، مجال تأويل الإنجيل وتبنت شروحات جديدة تختلف عن تلك التي كان يعتمدها رجال الدين المحافظون. وانتصرت حركة الإصلاح بعد مسار مليء بالحروب والانقسامات والتضحيات الجسيمة التي بذلها دعاة الإصلاح، حيث مُنعت كتبهم واضطُهِدُوا وتُوبعوا أمام محاكم التفتيش .. إلخ.
نجحت حركة التنوير، التي مَثَّلَ الإصلاح الديني أحد مرتكزاتها، في الغرب وتعثرت في المنطقة العربية الإسلامية بعد انطلاقها في القرن التاسع عشر. ورغم المجهود التنويري الذي بذله كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورفعت الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان وقاسم أمين ومحمد رشيد رضا وغيرهم، والتي أدت إلى سلسلة من مظاهر التحديث المؤسسي، فإن دورة التنوير لم تكتمل وأفرزت التطورات، التي حصلت لاحقاً، قيام نخب تقليدية جديدة تشكك في جدوى التنوير وتحاول خلق طلب "جماهيري" على العودة إلى الوراء. دافعت حركة التنوير، في منطقتنا، عن عدم تعارض الإسلام مع مؤسسات الحداثة، وعن ضرورة التخلص من السلطوية وأنماط الحكم الاستبدادي ومن الفكر الخرافي، وعن تجذير القيم العقلانية والانتقال إلى دولة المؤسسات والقانون الوضعي ونبذ التعصب الديني وتطوير الاجتهاد وإرساء مقومات الوحدة والتقريب بين المذاهب ومقاومة النزعات الطائفية.
واليوم، تُخاض ضد الإرهاب، الممارس باسم الإسلام، حرب ضروس، أمنية واستخباراتية وقضائية، وتتعرض الكثير من منابعه المالية المفترضة للتجفيف؛ ولكن هذه الحرب، في نظرنا، يجب ألا تشكل بديلاً عن المهمة التاريخية الأساسية المتمثلة في الإصلاح الديني؛ وعليه، يتعين الانتقال، ربما، من مركزية شعار محاربة الإرهاب إلى مركزية شعار الإصلاح الديني. ويرمي هذا الإصلاح إلى إعادة بناء منظومة العقل المسلم وتحريرها من العناصر الدافعة إلى إتيان ردود الفعل الموسومة بطابع التطرف والغلو واللاتسامح والعنف والتحجر أو المُسَوِّغَةِ لردود الفعل هذه. يجب أن يرتد الماضي إلى دوره الأصلي كماض وألا يتعداه إلى ممارسة الوصاية على المستقبل وصد التطور والكفر بالتقدم. إننا سنظل مسلمين بدون أن نظل صورة طبق الأصل لما كنا عليه. إذا كان على "الآخرين" أن يتحرروا من عقدة (الخوف من الإسلام) فإن علينا، بالمقابل، أن نتحرر من عقدة ( الخوف على الإسلام) وأن نكف عن اعتبار الكثير من مستجدات الحياة العصرية مجرد بدع وُضِعَتْ بغاية فك ارتباطنا بهويتنا الدينية ولم تأت لسد حاجات حقيقية وموضوعية. وعلينا أن نتخلى عن المبالغة في طرح قضية الخصوصية، والتي تصل إلى درجة إنكار وجود أي مشترك بين بني البشر. لقد حُورِبَ التغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي، في المجتمعات الأخرى، في مراحل تاريخية معينة، بدعوى الخصوصية، أيضاً. والمفروض أن البشرية طوت صفحة الخصوصيات التي يمكن أن يُهدم، بواسطتها، أساس الديمقراطية وحقوق الإنسان. والمستوى المقبول من الخصوصية، في هذا المجال، هو ذلك الذي يظل حبيس المساحة التي تسمح له بها المرجعية الكونية لأن المفروض أن هذه الأخيرة هي، في النهاية، محصلة عملية الجمع بين الخصوصيات، وكل ما يفيض عنها من صكوك ونظم يتم إعداده في دائرة مفتوحة أمام المسلمين وتعكس التنوع الثقافي العالمي. صحيح أن المنتظم الدولي في حاجة إلى مزيد من الإصلاح حتى لا يفرض الأقوياء أفكارهم على الضعفاء، ولكن الملاحظ، في الكثير من الأحيان، أننا كمسلمين نقبل الانتساب إلى مختلف مؤسسات المنتظم الدولي وننتج، في الوقت ذاته، خطاباً أشبه بخطاب من يوجد خارجها.
إن الكثير من قواعد المعاملات، التي اُعتبرت قبل 12 قرناً جزءاً لا يتجزأ من الشريعة الإسلامية، لم يعد من الممكن تطبيقه، اليوم، إذ عوضته قواعد جديدة تحقق الغايات نفسها، فعقوبة بتر الأطراف، مثلاً، تم تعويضها بترسانة من التدابير الجزائية الدقيقة التي تكفل حماية المجتمع ومواجهة الجريمة مع تفريد العقوبة، وتؤمن إعادة تربية الجاني وإدماجه من جديد في المجتمع، دون حاجة إلى المس بسلامته البدنية. نحن في حاجة إلى قراءة جديدة للإسلام، والذين يعترضون على قيام هذه القراءة، أو على مشروع الإصلاح والتجديد الديني بصورة عامة، يخشون أن يؤدي هذا المشروع إلى تبديد ماهية الإسلام، بينما جوهر الإسلام الحقيقي، بخصوص المجال الدنيوي، يقوم، في نظرنا، على اعتماد كل ما يطابق العقل ويحرر ويكرم الإنسان ويحقق مصلحة مؤكدة ومقدرة جماعياً ويتماشى مع عالمية الرسالة المحمدية. ومن الأسس التي يمكن أن يقوم عليها الإصلاح الديني : – إعادة الاعتبار إلى فكرة التسامح : ونجد أساسها في قاعدة (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، بمعنى الوعي بأن الله سبحانه وتعالى قد جعل، في هذه الأرض، متسعاً لكي يعيش المتدينون القانتون، وغيرهم من المنتسبين إلى الديانة بدون أداء الفرائض، أو أتباع الديانات الأخرى، أو الذين لا دين لهم. وعليه، فلا يُجبر أحد على تغيير موقفه أو إتيان فريضة أو شعيرة من الشعائر؛ وعلى كل طرف أن يقبل بالتساكن، في سلام وأمن، مع الأطراف الأخرى واحترام قناعاتها وعدم إذايتها؛
– إعمال الاجتهاد : ويجد أساسه في غزارة الآيات التي تحض على التفكر والتدبر واستخدام العقل. ويبدأ الاجتهاد، في نظرنا، بتغيير الضوابط التي سَنَّهَا السابقون والتي تهم الاجتهاد نفسه. وهكذا، يمكن اعتبار قاعدة (لا اجتهاد في مورد النص)، مثلاً، مجرد اجتهاد. ويتعين أن يقوم الاجتهاد على قراءة عقلانية، مقاصدية، تاريخية، وتأويلية للنصوص. والمفروض أننا اعتمدنا على مثل هذه القراءة حين قمنا بتجريم الرق وتجريم ضرب الزوجة، واعتماد نظام جنائي بديل عن الحدود، وحين منعنا أنفسنا، دستورياً، من شن الحرب على البلدان الأخرى باسم الجهاد والتزمنا بالمحافظة على السلم العالمي، ولكننا رفضنا المضي في السبيل نفسه حين تعلق الأمر بقضايا أخرى، ورفضنا اعتماد خطاب يقر بمشروعية تلك القراءة ويؤسس لها وفضلنا الاستمرار في إنتاج الخطاب الذي يقوم على قراءة محافظة، حرفية، ميكانيكية، لاعقلانية، ولا تاريخية، للنصوص، أي أننا رفضنا الاعتراف في الخطاب بما قمنا به في الممارسة. ولا يمكن أن يُوكل أمر الاجتهاد إلى رجال الدين وحدهم، وذلك بسبب تعدد المعارف والعلوم التي تنتمي إليها المواضيع المطلوب الاجتهاد فيها، وبسبب استحالة وجود العالم الموسوعي اليوم. لقد دلت التجربة على أن احتكار علماء الدين لحق تأويل النصوص الدينية قد يدفعهم، كفئة اجتماعية، إلى استعمال هذا الحق في اتجاه الدفاع عن مصالحهم باسم الدفاع عن الدين وإلى المطالبة بوضع امتيازي يتحولون فيه إلى شبه وسطاء بين الله والناس. ولقد أدى انتشار الأمية، في مجتمعاتنا، إلى تزايد الطلب على تدخلهم حتى في المجالات التي لا يفقهون فيها شيئاً؛ – إعادة كتابة التاريخ الإسلامي : على أن يتم ذلك بطريقة علمية متحررة من الخلفية الدفاعية للمساعدة على حسن فهم مجرياته وفصوله، والاعتراف بما ينطوي عليه من أخطاء وتناقضات وبدور المصالح ونقاط الضعف الإنسانية في رسم الكثير من مساراته. التاريخ، أي تاريخ، ليس أسطورة ولا تحركه الدوافع الدينية وحدها؛ والوعي ببشرية التاريخ وبحدود أية تجربة هو أمر ضروري لتمكين الجماعات الإنسانية من المعرفة الجيدة بذاتها وبالآخر، ولجعلها تنجح في تكوين صورة واقعية عن نفسها بعيداً عن المواقف اللاعقلانية؛ – إضفاء الانسجام الضروري بين"العلوم الشرعية" وبقية العلوم داخل المنظومة التربوية : وذلك حتى لا يتلقى التلاميذ والطلبة، في مادة معينة، معطيات متعارضة مع ما يتلقوه في مادة أخرى، وحتى نقيم نوعًا من المصالحة بين العلم والتراث الديني، ونرسخ الفكرة القائمة على أن للعلوم، بصورة عامة، ضوابط كونية لا تختلف باختلاف الانتماء الديني للعلماء. ميدان التعليم يجب أن يكون مجالاً لعرض كل النظريات والأفكار ومناقشتها، بروح أكاديمية، ولمحاربة كل أشكال الإيمان بالخرافة والمعجزات وكل تجليات رفض الحقائق العلمية باسم الدين.