ما يقع في مصر، اليوم، يتعين أن يحمل المعتدلين في الصف الإسلامي والمعتدلين في الصف العلماني، في مختلف بلدان المنطقة المغاربية والعربية، على إدراك أولوية وضع أساس بناء الانتقال بصورة مشتركة، وبدون إقصاء لأحد الطرفين، وبالطريقة التي تضمن قيام توافق تاريخي على التطبيق المحلي للديمقراطية، حتى لا يتحول الصراع، يومًا ما، إلى حرب أهلية أو مواجهة دموية. إن الأنظمة التي سقطت رؤوسها تحاول أن تتسلل من جديد إلى مواقع القرار وإجهاض الثورة تحت ستار حماية حقوق أحد الطرفين والنزول عند رغبة الشعب، ولذلك فلا مناص للإسلاميين وللعلمانيين من تقديم تنازلات متبادلة من أجل إنجاح المسلسل الانتقالي وصولاً إلى مرحلة"تصليب الديمقراطية" وتأمين شرط التمسك بالطابع السلمي والحضاري للصراع. إن استعمال اصطلاحي "الإسلاميين" و"العلمانيين" للدلالة على الثنائية التي تقوم عليها معادلة الانتقال في بلداننا، لا يخلو من عيوب، فقد يوحي بأن العلمانيين هم ضد الإسلام؛ وإذا لجأنا إلى التقابل بين (إسلاميين) و(ديمقراطيين) فقد يوحي الأمر بأن الإسلاميين هم ضد الديمقراطية وسيظلون كذلك. ومع ذلك، يمكن أن نعتمد على تصنيف الساحة السياسية إلى إسلاميين وعلمانيين انطلاقا من أن أهم خلاف ظاهر في النقاش بين هذين المكونين يدور حول المكانة التي يجب أن يحتلها الدين في صياغة الفضاء السياسي العام؛ وتتراوح المواقف، بهذا الصدد، بين من يعتبر الانتماء الإسلامي مبررا للإغارة على ما يُعتبر، كونيًا، جوهر الاختيار الديمقراطي وبين من يعتبر الانتماء الديمقراطي مبررًا لمنع البروز العام لأي عنصر من عناصر الهوية الإسلامية.
يجب على فريق الإسلاميين وفريق العلمانيين أن يتوصلا إلى اتفاقات عامة حول ثلاث قضايا :
- قضية التعامل بينهما وتحديد السقف الذي يتعين عدم اختراقه والأسلوب، في المواجهة، الذي يُحَرِّمُ كل طرف سياسي على نفسه اللجوء إليه مهما احتد الصراع، وخلق قنوات اتصال وهياكل تحكيم والسماح لجهات مدنية محايدة بأن تلعب بعض أدوار الوساطة والسهر على احترام سلمية الصراع وتعهد وتجذير قيم الانتقال؛
- قضية الوثيقة الدستورية والنصوص الأساسية المهيكلة للدولة ولعمل المؤسسات؛
- قضية رسم مسار الانتقال وتصور الطريق إلى التغيير والخطوات الكبرى المطلوبة للربط بين نقطة بدء الانتقال ونقطة اكتمال مقوماته الأساسية.
وكلما تخلفت الاتفاقات حول هذه القضايا، فإن ذلك يعني تعطيل مسار الانتقال واحتمال الانحراف عن خطه العام؛ ولذلك يتعين بدء الحوار بدون تباطؤ، والاعتراف بأخطاء الماضي، والقيام بالمراجعات الضرورية، والسعي إلى تقريب المواقف بدون هدر للقواعد الكبرى للديمقراطية. وإذا كان العلمانيون لا يستطيعون فرض اعتماد النظام العلماني الخالص في بناء الدولة، وكان الإسلاميون لا يستطيعون فرض اعتماد نظام الدولة الدينية أو شبه الدينية، فإن هناك إمكانات حقيقية لاعتماد نوع من العلمانية المعتدلة التي يُصطلح عليها اليوم ب"الدولة المدنية".
العلمانية، في الأصل، تقوم على نوع من الفصل التام بين الدين والدولة، وتلزم الدولة باتخاذ موقف الحياد إزاء جميع الأديان، وجعل الدين شأنًا خاصًا بالأفراد. والمعروف أن الإنسانية جنت، من خلال هذا الفصل، الكثير من المكاسب على مستوى نشر الحرية والتقدم والعقلانية.
والعلمانيون المعتدلون، في المنطقة المغاربية والعربية، ومعهم عدد من الإسلاميين المعتدلين، أصبحوا يعتبرون أن وصفة الدولة المدنية قادرة على أن تمثل قاعدة مشتركة بين عموم الإسلاميين والعلمانيين لبناء دولة ما بعد التغيير.
الدولة المدنية ليست مجرد نقيض للدولة العسكرية، بل هي أيضًا نقيض للدولة الدينية، فالدولة الدينية يحكمها رجال الدين، أما الدولة المدنية فيحكمها ممثلون منتخبون ديمقراطيًا بغض الطرف عن ديانتهم و"أهليتهم" الدينية، فهي دولة تقوم على نوع من العلمانية المعتدلة التي تروم الإبقاء على مظاهر "العلمنة" القائمة فعلاً وتعميقها، ولكنها تقر، في ذات الوقت، الإبقاء على عدد من "الامتيازات" المكفولة للدين الإسلامي في إطار صارم من الاحترازات والقيود؛ فالدساتير العلمانية، عبر العالم، التي تشير، مثلاً عند الحديث عن الحرية الدينية، إلى الكنيسة المسيحية و"الديانات الأخرى"، تقر بذلك منح نوع من "الامتياز النصي" لديانة بعينها.
وفكرة (الدولة المدنية) تسعى إلى استخدام القدر من العلمانية الذي يكفي فقط لحل بعض المشاكل ذات الأسبقية في بلداننا، وهي، أساسًا، أربعة مشاكل :
- مشكلة استخدام الدين لتسويغ الاستبداد ومنح الحاكمين نوعًا من القداسة وجعلهم فوق المحاسبة وفوق القانون. لقد سبق للملك الراحل أن خاطب معارضيه قائلا ما معناه : لا أستطيع معاقبتكم بفصول القانون؛ ولكنني، كأمير للمؤمنين، أستطيع ذلك حتى ولو لم يوجد نص، بل حتى ولو كان القانون صريحًا في أخذه بقاعدة (لا جريمة ولا عقاب إلا بنص)، وبذلك يصبح الحكم خاضعًا لأهواء الحاكم. وفي عز الحملة الاستفتائية الخاصة بدستور 2011، استعملت السلطة الحاكمة المساجد كفضاء للدعاية السياسية لصالح التصويت بنعم على الدستور، وتَمَّ، بذلك، الإخلال بشروط الاستفتاء الحر والنزيه؛
- مشكلة استعمال الدين للانتقاص من الحقوق والحريات الأساسية واعتبار الخصوصية الدينية مبررًا للمس بالحق في التعبير والتنظيم، كإجبار الناس على أداء شعائر الدين أو إتباع مذهب من المذاهب أو حرمانهم من حق الدعاية لديانة مخالفة لديانة الأغلبية؛
- مشكلة السعي، من طرف البعض، إلى التراجع عن بعض مظاهر العلمنة التي فرضها تطور التنظيم الإداري والاقتصادي والسياسي الحديث على جميع البلدان. المحافظون يسعون إلى فرض التراجع عن تلك المظاهر، والتقدميون يسعون إلى تكريسها وتعميقها دون أن تثوي وراء ذلك نية الوصول إلى علمانية كاملة. الدولة المدنية، بهذا المعنى، تعني تكريس الشرعية الوضعية، ووأد فكرة التفويض الإلهي، وضمان المساواة أمام القانون وأمام الإدارة، ومنع التمييز على أساس ديني، وتثمين رابطة المواطنة؛
- مشكلة إيراد صيغ دستورية قد تؤدي، في نهاية المطاف، إلى "دسترة" البرنامج الخاص بفصيل معين، مثل تعبير (الدولة الإسلامية) الذي يُخشى أن يُقَدَّمَ، أحيانا، كسند للمطالبة باستنساخ نموذج دولة طالبان أو السودان أو إيران، أو صيغة (اعتبار الشريعة مصدرًا للقانون) التي يُخشى أن تدفع طرفًا معينًا إلى المطالبة بالاعتماد الفوري والمباشر لبعض نقاط برنامجه باعتبارها ملزمة دستوريًا وواجبة النفاذ بشكل أتوماتيكي ومعفاة من الخضوع لأي نقاش.
إن عددًا من القوى التي ترفع شعار الدولة المدنية لا تمانع في استمرار الاحتفاظ للدين الإسلامي بأربعة "امتيازات" :
أولاً – التنصيص على رسمية الدين الإسلامي وعلى الإسلام كمكون أساسي للهوية الوطنية؛
ثانيًا - الاحتفاظ بمواد التربية الدينية للنشئ في المدرسة العمومية؛
ثالثًا- بث برامج دينية في الإعلام العمومي ومتابعة خطب الجمعة والأنشطة الدينية؛
رابعًا - مواصلة تكليف وزارة خاصة بتدبير الشؤون الدينية والأوقاف.
لكن استمرار وجود هذه الامتيازات رهين، أولاً وقبل كل شيء، بإعادة فتح باب الاجتهاد وتدشين مشروع شامل للتنوير والتجديد الديني يقوم على قراءة مقاصدية وتاريخية وتأويلية وعقلانية للنص الديني، تتجاوز القراءة الحرفية والظاهرية المكرسة للجمود والانغلاق والماضوية. لا مناص، في نظرنا، من تطوير نظرية المقاصد والانفتاح على مختلف المذاهب واقتباس الأجود منها جميعًا، واستشراف الغايات السامية الكبرى من الدين عوض التقيد بعدد من القواعد التفصيلية التي جاءت للجواب عن أوضاع تاريخية محددة والتي يُفترض أن تتغير بتغير تلك الأوضاع، وانتحاء الوجهة التي تساير العقل، وإعادة الاعتبار إلى المدارس العقلانية في تراثنا الفقهي، واعتماد مبدأ (حيثما كانت المصلحة فثمة شرع الله) كأساس مركزي في استنباط الأحكام والقواعد المتجددة، على أن يحسم في تقدير المصلحة عن طرف المؤسسات المنبثقة عن الاقتراع.
كما يتعين ربط رسمية الدين الإسلامي واعتباره المكون الأساسي للهوية بالتنصيص على حرية المعتقد وحق اختيار الانتماء إلى دين أو مذهب أو عدم الانتماء إلى أي دين، والاعتراف بكامل حقوق الأقليات الدينية وحق الدعاية الدينية، ومنع أي شكل من أشكال الإجبار على إتيان شعيرة من الشعائر الدينية، وإلغاء القيود التي تحد من المساواة بين الرجل والمرأة، ومنع تحقير أي دين من الديانات، ومنع من يباشر وظيفة دينية رسمية من الانتماء إلى حزب سياسي، وتحويل إمارة المؤمنين (القائمة في المغرب) إلى مجرد لقب تشريفي يخول الملك حق الإشراف على أداء شعائر المغاربة المسلمين بدون ممارسة أي تدخل في سير المؤسسات الرسمية للدولة باسم هذا اللقب.
ويتعين، أيضًا، إرفاق التربية الإسلامية العمومية بتدريس الديانات الأخرى في المستويات المتوسطة والعليا للتعليم، وتغيير الصورة المقدمة عن تلك الديانات، وإبراز القواسم المشتركة بين الأديان عوض التركيز على الاختلافات.
ويتعين إرفاق وجود برامج التوجيه الإسلامي في الإعلام العمومي بإنجاز تغطيات إخبارية دورية عن أنشطة أتباع الديانات الأخرى واحتفالاتهم، وتحرير خطاب الإعلام الديني العمومي من هاجس المزايدة الداخلية ومخلفات الصراع السياسوي. ويجب الانتباه إلى ما تخلفه الإنتاجات الدرامية والتاريخية والمسلسلات الدينية المذاعة من انطباع -لدى الأجيال الجديدة- بأننا كمسلمين في حرب دائمة مع الآخر، وأننا موضوع استهداف دائم من طرف هذا الآخر، وأننا مظلومون في الماضي والحاضر وسنكون كذلك في المستقبل، وأننا لم نخطئ أبدًا في حق الآخرين أو في حق أنفسنا، وأن تاريخنا هو فصول من البطولات المتوالية والأمجاد الباهرة والخدمات الجمة المُسداة إلى الآخرين الذين أنكروا الجميل وقلبوا ظهر المجن، وأن التناقضات الدينية التي عاشها البشر، في الماضي، لازالت قائمة، بنفس الحدة، في الحاضر.
ويتعين إرفاق استمرار وجود وزارة للشؤون الإسلامية بإخضاع عمل الوزارة لتوجيه الحكومة ومراقبة البرلمان ومساطر الحكامة والشفافية في التدبير ولقاعدة المساءلة السياسية.