(رد على السيدة مايسة سلامة الناجي) محمود بلحاج بعد اندلاع شرارة الثورة وتنامي الاحتجاجات المدنية والديمقراطية العارمة في منطقة شمال أفريقيا عموما، وفي المغرب خصوصا، انفجر نقاش سياسي واجتماعي واسع وعميق حول مسألة العلمانية. ففي ليبيا على سبيل المثال وليس الحصر أكد المجلس الوطني الانتقالي للثوار التزامه ببناء دولة ” ديمقراطية علمانية ” بعد القضاء النهائي على النظام القذافي، كما أن الحديث عن الدولة المدنية في جمهورية حسنى مبارك سابقا، وما يقتضي ذلك من التنصيص الدستوري على مبدأ العلمانية باعتبارها (أي العلمانية) من الشروط والمقومات الأساسية والضرورية لبناء الدولة المدنية الديمقراطية، بدأ في التراجع بفعل التهديدات التي أطلقتها بعض الأطراف الدينية المتطرفة حول ” خطورة ” المساس بالطابع الإسلامي للدولة في الدستور الجديد، وهو الأمر الذي اعتبره الكثير من المراقبين والمهتمين بالشأن المصري إجهاضا للثورة. أما في بلادنا، وعلى ضوء التحولات والمستجدات الطارئة على خريطة المنطقة، وخاصة المستجدات السياسية والاجتماعية التي أفرزتها حركة 20 فبراير أولا. وثانيا ما افرزه الخطاب الملكي الأخير (خطاب 9 مارس 2011) من نقاشات وحوارات سياسية وإعلامية حادة وقوية، وعلى ضوء ما أفرزته أيضا مذكرات الأحزاب السياسية والهيئات المدنية حول التعديل الدستوري المرتقب، ففي ظل هذه المتغيرات برز نقاش وطني واسع حول جملة من القضايا التي اثارتها حركة عشرين فبراير، ومنها على سبيل المثال مسألة التغيير الدستوري شكلا ومضمونا، إمارة المؤمنين وفصل السلط وهي القضايا التي يمكن لنا إدراجها ضمن النقاش الجاري حول العلمانية. ويمكن أن نضيف إلى القضايا، الأنفة الذكر، مسألة الثوابت والمقدسات التي أثارها الخطاب الملكي، المذكور سابقا، وعلى رأسها اعتبار الإسلام دين الدولة، إمارة المؤمنين، النظام الملكي، الخيار الديمقراطي والوحدة الوطنية. ففي سياق هذا النقاش العام الذي أفرزته الأحداث والتطورات، السالفة الذكر، تفضلت السيدة مايسة سلامة الناجي بنشر سلسلة من المقالات ” الفكرية ” في جريدة هسبريس الكترونية حول حركة عشرين فبراير(1). والجدير بالذكر قبل أن نمضي في سرد وقائع ومفردات هذه المقالة التي سنخصصها لموضوع العلمانية، الإشارة إلى نقطتين أساسيتين ومهمتين في موضوع حركة عشرين فبراير، أولهما وهي أن حركة عشرين فبراير هي حركة مغربية شبابية اجتماعية جماهيرية ديمقراطية نابعة من عمق المجتمع المغربي الأمازيغي المتعدد والمتنوع، وهي حركة أفرزتها مجموعة من العوامل والمعطيات الإقليمية (ثورة تونس ومصر..)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أفرزتها أيضا التراكمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة في بلادنا طيلة العقود الماضية من تاريخنا المعاصر. وثانيها هي أن حركة عشرين فبراير استطاعت أن تستوعب كل التناقضات الاجتماعية والسياسية والعرقية السائدة في المجتمع المغربي الأمازيغي، مما جعلها تلامس الأصول الحقيقية للوقائع الاجتماعية والثقافية السائدة في بلادنا، الشيء الذي جعل رؤيتها للواقع الاجتماعي والثقافي السائد في بلادنا تشمل كل الأبعاد القائمة والموجودة في المجتمع دون أي استثناء أو إقصاء مقصود. العلمانية والدولة المدنية: بعد هذه التوطئة نعود الآن إلى موضوع هذه المقالة؛ أي إلي موضوع العلمانية، التي نسعى من خلالها إلى المساهمة قدر الإمكان في النقاش الدائر حاليا في بلادنا حول العديد من القضايا والإشكالات العويصة والشائكة. هذا وسوف نقتصر على مناقشة مسألة العلمانية كديمقراطيين تقدميين في النضال الأمازيغي – وربط هذا الأخير بطموحنا السياسي والفكري الهادف إلى الإسهام قد الإمكان في بناء دولة مدنية علمانية ديمقراطية تتسع لكافة المغاربة بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية وانتماءاتهم العرقية، دولة يكون فيها الملك يسود ولا يحكم، دولة يحترم فيها حقوق الإنسان وكرامة المواطن، دولة تتعايش فيها الثقافات واللغات والديانات دون تميز أو تفضيل. بإيجار شديد؛ نريد دولة مدنية علمانية وديمقراطية تقوم على الأسس والمرتكزات التالية: المواطنة، المساواة والحرية، وليس على الأسس والمرتكزات الدينية والعرقية واللغوية. من خلال هذا المنظور، فإننا نروم إلى بلورة تصور عقلاني وموضوعي حول موضوع العلمانية، وذلك باعتبارها من أبرز الحلول الممكنة للواقع المغربي الراهن، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نحاول أيضا توضيح بعض الافتراءات والمزايدات الفكرية التي تضمنتها مقالات الأستاذة الناجي حول حركة عشرين فبراير عموما وحول العلمانيين خصوصا. عموما، لقد حاولت الكاتبة من خلال من مقالاتها (انظر لائحة الهوامش) مناقشة دواعي وحيثيات ظهور حركة عشرين فبراير على ساحة الأحداث في بلادنا أولا، ومناقشة أيضا مطالب وأهداف هذه الحركة ثانيا، خاصة الأهداف والمطالب المرتبطة بالقضايا الكبرى للشعب المغربي الأمازيغي، ومنها على وجه الخصوص موضوع الدين، العلمانية، الولاء، الوطن والهوية. وبعد الحوار الذي أجرته الكاتبة مع أحد أعضاء حركة عشرين فبراير، قررت الأخيرة (أي الكاتبة) عدم المشاركة في المسيرات الاحتجاجية التي دعت إليها حركة عشرين فبراير، لأسباب واعتبارات متعددة في نظر الكاتبة، بحيث كان أبرزها، بل ، واخترها في نفس الوقت، هو اعتبارها أن حركة عشرين فبراير هي حركة علمانية، وبالتالي لا يجب المشاركة إلى جانبها والتحالف معها، بل وأكثر من ذلك اعتبرت السيدة الناجي بأن حركة عشرين فبراير تسعى إلى الفوضى والفتنة.. هكذا!!. طبعا، نحن لا تهمنا إطلاقا مسألة عدم مشاركة الكاتبة( أو غيرها من المواطنين) في الاحتجاجات التي خاضتها حركة عشرين فبراير مند انطلاقتها إلى الآن، فهذه المسألة تعتبر في نظرنا من الحقوق الأساسية للإنسان، لهذا فمن حق الكاتبة أن ترفض المشاركة في الاحتجاجات التي دعت إليها حركة عشرين فبراير أو أية حركة أخرى، فهي حرة في اختياراتها وقناعاتها الفكرية والسياسية والعقائدية والجنسية، لهذا فإن مسألة النزول إلى الشارع من أجل الاحتجاج المدني والتغيير السلمي والحضاري، وبالتالي المساهمة في التغيير الديمقراطي الحقيقي في بلادنا أو اختيار البقاء في البيت هي مسألة تتعلق في اعتقادنا أولا وأخير بالقناعات وليس بشيء آخر. إن مسألة النزول إلى الشارع يقول المفكر المغربي محمد سبيلا ليست من مهام المثقف بل أن مهمته الرئيسية هي الملاحظة والتحليل وفتح نقاش جدي حول القضايا بروح نقدية واستشرافية، والمساهمة في عقلنة الرؤية والثقافة والسياسة(2). بل أن ما شد انتباهنا واشمئزازنا في كلام الأستاذة الناجي، هي تلك المسوغات والمبررات التي قدمتها حول موضوع عدم مشاركتها إلى جانب حركة عشرين فبراير في الاحتجاجات السلمية التي دعت إليها الحركة. فالسيدة الناجي تتصور أن حركة عشرين فبراير تشن حرب علمانية ضد الإسلام، ليس لشيء، فقط لكونها تنادي بالعلمانية، حيث قالت ما يلي ” أظننا في حرب فكرية ضد العلمانية..”. وطبعا، هذا التصور الخاطئ للكاتبة تجاه الحركة أدى بها إلى الاعتقاد بأن الصراع الذي تخوضه حركة عشرين فبراير ومعها كل القوي الديمقراطية الحية، هو صراع بين العلمانية والإسلام، حيث قالت أيضا ما يلي ” إنما هي حرب فكرية يريدون عبرها ترسيخ فكرة العلمانية ..” . وفي نفس السياق إضافة الكاتبة تقول ” أن كل هذه المسيرات ما هي إلا دعوة مجانية إلى العلمانية..”، بل وتعتقد الكاتبة كذلك بأن العلمانيين يدافعون عن الخمر والمثليين(اللواط) وتقنيين الدعارة !!. في الحقيقة لا ندري، كيف تنفي الكاتبة المحترمة الدور التاريخي الذي لعبه اليسار المغربي العلماني في الدفاع عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية؟(3). علاوة على هذا تقول السيدة الناجي بأن العلمانيين الشيوعيين اليساريين يسعون إلى دس أفكار مناهضة للدين، حيث قالت في هذا الصدد ما يلي ” غايتهم الأولى هي النيل من الدين..”. ربما تعتقد الكاتبة بأن الضحايا والشهداء؛ وخاصة العلمانيين، الذين اعتقلوا وقتلوا في زمن الحسن الثاني أو في زمن خليفته كانت من أجل الدفاع عن الخمر والدعارة والمثليين؟. وربما، تعتقد الكاتبة أيضا بأن الانقضاضات الشعبية التي خاضها الشعب المغربي في مختلف المدن والقرى( انتفاضة الريف 58/59 وانتفاضة 65 بالدار البيضاء وانتفاضة 84 و87 وغيرها..) كانت من أجل تقنيين الدعارة والخمر والمثلين !!. كما أننا لا ندري كيف تجرأت السيدة الناجي وقالت بأن العلمانيين يسبون النبي ولا يؤمنون بالله دون أن تذكر لنا الحجج والأدلة التي تثبت صحة كلامها، وبالتالي فإننا لا ندري أيضا من أين جاءت بهذا الكلام اللامسؤول والخطير؟. يبدو لي أن هذا المنهج في التفكير والتحليل يريد أن يقدم لنا مثالا نموذجيا مكثفا عن النقل الحرفي لخطاب الإسلام السياسي(خاصة خطاب حزب العدالة والتنمية) لتأكيد تفوق عقلية الإسلاميين على غيرها من العقليات الموجودة في المجتمع، وخاصة العقلية العلمانية. الدين والعلمانية: شخصيا، وبدون أية مزايدة أو مبالغة في الكلام، اعرف الكثير من المفكرين والمناضلين العلمانيين المغاربة(وغيرهم) يمارسون شعائرهم الدينية( الصلاة والزكاة والصوم..) بشكل منتظم وفي انسجام تام مع قناعتهم الفكرية والسياسية دون أن يطرح لهم ذلك أي مشكل أو تناقض ما بين قناعتهم الفكرية والسياسية وقناعتهم الدينية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نعتقد أنه من الضروري الفصل بين الإلحاد الذي يعني عدم وجود الله ، أو بصيغة أدق، الإنسان الملحد لا يعترف بوجود الله، وبين العلمانية التي تعني فصل الدين عن السياسة، وبين هذين المفهومين هناك مساحة شاسعة من الاختلاف والفرق. انطلاقا من هذه الخلفية تعتبر العلمانية في نظر هؤلاء المفكرين مجرد فكر وسلوك ومنهج في الحياة أنتجه البشر(أي الفكر العلماني) وليست دين بعينه وذاته. كما أن الإسلام في نظر هؤلاء هو دين/عقيدة وليس دين وسياسة كما يروج تيار الإسلام السياسي. ولتبيان ما أعنيه هنا سأذكر بعض النماذج من التاريخ الإسلامي، وهي نماذج تؤكد لنا أن الإسلام دين/عقيدة فقط وليس دين وسياسية. طبعا، هذا إضافة إلى العديد من الآيات القرآنية التي تؤكد بأن الإسلام عقيدة وليس دين وسياسة ومنها قول الله تعالى ” لا إكراه في الدين” (البقرة 2 الآية 256) وقوله تعالى في سورة الكافرون ” لكم دينكم ولي دين”، وفي سورة الكهف الآية 28 يقول سبحانه وتعالى ” وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”. وهذه الآيات كلها( هناك آيات أخرى) تبرز وتؤكد لنا بأن مسألة الإيمان بالله هي مسألة شخصية وفردية وليست مسألة جماعية، فإذا كان القرآن نفسه يؤكد على أن الأيمان شأن خاص بالفرد، فكيف سنعتبره نحن شأن جماعي ؟. أما الآيات القرآنية التي تتحدث عن الحكم فإنها خاصة بالقضاء والفصل في المنازعات والخصومات ولا تعني السلطة السياسية(4). أما في التاريخ الإسلامي فهناك العديد من النماذج التي تعبر بشكل واضح جدا على أن الإسلام هو دين/ عقيدة وليس دين وسياسية: النموذج الأولى يتعلق بالاجتماع الذي دار بين الأنصار والمهاجرين في منزل سعد بن سقيفة مباشرة بعد وفاة الرسول(ص) حول من سيخلفه في قيادة الأمة، حيث تؤكد مختلف الكتابات الإسلامية أن الاجتماع والمفاوضات التي دارت بين الطرفين؛ أي بين الأنصار والمهاجرين، لم تستند على أية مرجعية دينية ولم تستعمل أية نصوص قرآنية في قضية ” اختيار” أبو بكر كخليفة للمسلمين بعد وفاة الرسول (ص)، مما يعني أن مسألة الحكم والسياسية في الإسلام هي مسألة بشرية وليست دينية(5). والسؤال المطروح هنا هو: إذا كان الإسلام هو دين وسياسية كما يروج تيار الإسلام السياسي وليس مجرد عقيدة فقط ، فلماذا لم يحدد الرسول (ص) من سيخلفه في الحكم قبل وفاته؟. ونشير بهذه المناسبة أن مسألة تأسيس الدولة العربية الإسلامية من قبل الرسول كانت ضرورة اجتماعية واقتصادية بالدرجة الأولى وليست ضرورة دينية، لهذا ينبغي علينا الفصل بين ازدواجية الزعامة الدينية والسياسية التي مارسها الرسول قبل وفاته وبين أن يكون الإسلام دين وسياسية. والنموذج الثاني يتعلق بالاتفاق الذي ابرمه الرسول(ص) نفسه مع اليهود والمعروف بعقد “الصحفية”؛ وهو العقد الذي أسس من خلاله الرسول(ص) الدولة العربية الإسلامية التي ضمت إلى جانب المسلمين اليهود والمسيحيين (النصارى) وغيرهم من الطوائف والقبائل العربية آنذاك (6). وعندما نتحدث عن العقيدة بمفهومها العام المتمثل في العبادات وما ينبغي أن يتجسد عنها من المعاملات والأخلاق التي تأطر سلوك الفرد المسلم تجاه ربه أولا، وتجاه مجتمعه ثانيا ، فإننا نتحدث أساسا وجوهريا على شيء خاص جدا، وليس شيء مشترك بين كافة أبناء الوطن الواحد، وفي القرآن هناك العديد من الآيات التي تؤكد هذا الشيء، بينما عندما نتحدث عن السياسة فإننا نتحدث عن المبادئ والتوجهات التي توجه وتؤطر الإنسان والمجتمع معا، فالضرائب مثلا يدفعها جميع المواطنين بينما الزكاة يدفعها المسلمين فقط (باعتبارها ركن من أركان الإسلام)، أي أننا نتحدث أساسا عن طريفة الحكم أولا، وعن طريقة ضبط علاقة السلطة بالشعب ثانيا، ونتحدث أيضا عن المرجعيات السياسية والقانونية المعتمدة في التسيير/ الحكم ثالثا، وهي المرجعيات التي تتحكم في مصير الشعب بكامله على اختلاف لغاته وثقافاته وأعراقه ودياناته(7). ومن جانب آخر، تسعى العلمانية في نظري المتواضع، وكما عرفها العديد من الباحثين والمفكرين، ومنهم المفكرين الإسلاميين الحداثيين ( الجابري، حسن حنفي، نصر حامد أبو زيد، محمد أركون …) إلى فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية، وليس فصل الدين عن الحياة كما يقول الشيخ الشعراوي الذي صلا ركعتين ابتهاجا وفرحا عندما سمع بهزيمة العرب سنة 1967 أو كما يقول الشيخ محمد قطب أو غيرهم من الشيوخ(8). وفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية لا تعني بالضرورة أن العلمانية تناهض الدين، لهذا فعندما يطالب العلمانيين المغاربة بدولة مدنية علمانية وديمقراطية فلا يعني ذلك إطلاقا انهم يسعون إلى إزالة المساجد أو إلغاء الزكاة أو الصوم أو الأعياد الدينية أو شيء من هذا القبيل، وإنما يسعون فقط إلى الفصل بين المجال الديني والمجال السياسي حتى يتسن لهم تحقيق دولة الحق والقانون(9 ). ففي ظل دولة يحكمها الدين، مهما كان هذا الدين، لا يمكن أطلاقا تحقيق الديمقراطية والحداثة والمساواة، فهذه الأمور تتعارض مع الدولة الدينية(10). ومن جانب آخر، هناك تعارض وتناقض فادح بين التنصيص الدستوري على دين الدولة ( التنصيص على أن الإسلام هو دين الدولة في حالة المغرب)مع الواقع الاجتماعي المعاش، فالمغاربة اليوم ليسوا جميعا مسلمين، كما أنهم ليسوا مسلمين ويهود فقط كما كان شائعا في السابق، بقدر ما هنالك أيضا مغاربة مسيحيين وآخرون اللادينين/ ملحدين. بل، وأكثر من ذلك، حتى المغاربة الذين هم مسلمون ليسوا جميعا على المذهب المالكي وإنما هناك من يعتقد بالمذهب الشيعي وغيره من المذاهب الفقهية. فهذا الواقع المختلف والمتنوع يجعلنا نصطدم بإشكالات كبيرة وعويصة جدا، إشكالات تجعل الحديث عن دولة ” ديمقراطية وحداثية” كما تطرحها الدولة وبعض الجهات الحزبية مجرد حلم ليس إلا. فإذا كانت بعض الأطراف تنادى بالتنصيص الدستوري على الإسلام كدين الدولة، فكيف سنتعامل مع الأطراف الأخرى التي هي جزء منا وتؤدى نفس الضرائب التي نؤديها نحن المسلمين ولكنها لا تؤمن بالإسلام أو المذهب المالكي؟ وكيف سنطبق مثلا حد الزنا وشرب الخمر على مواطن مغربي يهودي المعتقد أو مسيحي أو ملحد وهو لا يؤمن بالإسلام وبالتالي فأنه لا يؤمن بالشريعة الإسلامية؟. وهل سنطرد المسيحيين من وظائف الدولة وفرض إجراءات صارمة في حقهم ( من قبيل حلق الرؤوس وملابس خاصة وارتداء أحزمة من الجلد وركوب الحيوانات بلا سرج بهدف تمييزهم عن المسلمين ومنعهم من بناء الكنائس ورفع أصواتهم أثناء صلاتهم..) كما فعل الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز؟(11). بناءا على ما تقدم ذكره، يشكل الواقع المغربي السائد والمعاش، الذي هو واقع التعدد/ التنوع والاختلاف بامتياز، العنصر الحاسم لاختيارنا للأسلوب العلماني في إدارة شؤون البلد، وعلى هذه الخلفية؛ أي خلفية التعدد والتنوع والاختلاف السائد في مجتمعنا، ندعو جميع الأطراف إلى القطع النهائي مع أسلوب الاحتواء والضم، والقطع الكلي أيضا مع جميع الأفكار البائدة والشوفينية التي تعتبر أن الشعب المغربي شعب واحد وموحد في كل شيء، موحد في الدين والثقافة واللغة والعرق. نضيف إلى هذا أن العلمانية في العمق تدافع عن الدين، سواء من خلال العمل على انتزاعه من رجال السلطة والدين ( نقصد هنا الاستغلال السياسي) أو من خلال حمايته من الاضطهاد الديني والمذهبي أيضا( حالة لبنان والعراق ويران مثلا..)، ولنا في الموضوع مثالين ساطعين، الأول من الهند والثاني من أوربا. المثل الأول: لا يخفى أن التركيبة البشرية/ العرقية والدينية والاجتماعية للهند تتميز بالتنوع والتعدد، وهو الشيء الذي أدى بها إلى حدوث صراعات عرقية/ قبلية ودينية. ففي الهند هناك من يعبد الأعضاء التناسلية للرجل مثلا، وآخرون يعبدون الأعضاء التناسلية للمرأة، ومنهم كذلك من يعبد الحجر والبقر وغيرها من الأشياء والأمور التي تتخذ كالإلهة تعبد، وبالتالي فإنها مفضلة ومقدسة لدى كل من يعتقد بها؛ فالحجر مثلا هو الله والرب بالنسبة لمن يعتقد به. هذا إضافة إلى وجود الديانة التاريخية للهنود وهي الديانة البوذية من جهة، والديانات السماوية الثلاثة من جهة ثانية، ووجود أيضا اللادينين من جهة ثالثة. وفي ظل هذه التركيبة المتعددة والمتنوعة، التي يشكل فيها المسلمون أقلية دينية، يعتبر المسلمين في هذا البلد من أكبر وأقوى التيارات الفكرية والدينية التي تدافع عن العلمانية كنظام سياسي للهند. فالمسلمون في الهند يعرفون جيدا بأن وجودهم الديني( وربما حتى المادي) مهدد بالانقراض في ظل التفوق العددي للديانة البوذية أولا، وفي ظل استمرار الصراع الطائفي والديني ثانيا، لهذا فأن العلمانية في نظر المسلمين بالهند هي الحل الوحيد بالنسبة لهم في الوضع الديني والاجتماعي القائم في البلاد لضمان ممارسة شعائرهم الدينية. المثل الثاني: ما يقال عن الهند ينطبق تماما على المسلمين في الغرب، فهل كان من الممكن أن ينتشر الإسلام في الغرب لو أن الديانة المسيحية هي السائدة في الدساتير الغربية؟. لهذا، فأن انتشار الإسلام والمسلمين في الغرب كان بفضل العلمانية التي وفرت الحماية القانونية للإسلام والمسلمين، وبفضل العلمانية انتشرت المئات من المساجد والمؤسسات والمراكز الإسلامية على امتداد خريطة الغرب وليس بالفتاوى والخطابات الجوفاء لمشايخ الشرق. قلنا في السطور السابقة بأن العلمانية هي فكر وسلوك ومنهج في الحياة، وليس دين يسعى إلى محاربة أو نفي دين آخر، نضيف إلى هذه النقطة نقطتين مهمتين للغاية، أولهما تتعلق بأهمية الوعي بالشروط والعوامل التي أدت إلى بروز الحديث عن العلمانية، حيث يوفر علينا هذا الأمر إمكانية تجنب المعارك المصطنعة والهامشية. ومن هذا المنطلق فأن العلمانية باعتبارها فكر إنساني شامل متجدد ومتغير مع متغيرات العصر والمجتمعات الإنسانية التي حققت مجموعة من التراكمات المعرفية والنظرية، وهي التراكمات التي لا تسمح لنا بممارسة الإقصاء والتهميش في حق الإنسان مهما اختلفنا معه في التصورات والمرجعيات أو اختلفنا معه في التقديرات والمواقف. كما لا تسمح لنا بتاتا بممارسة الاستثناء باسم المقدسات أو الثوابت، فحريتي إذن هي حرية الأخرى في نفس الوقت. وثانيها هي أن الفكر العلماني الديمقراطي يدافع في العمق عن ثلاثة قيم ومبادئ أساسية وجوهرية في حياة الإنسان (الفرد)، وفي حياة تطور وازدهار المجتمع البشري أيضا، وهي: الحرية، المساواة والمواطنة. وعندما نقول أن العلمانية تدافع عن الحرية فهذا يعنى أن الإنسان العلماني يدافع عن حرية التعبير، وحرية الاعتقاد، وحرية الجنس، وحرية الاختيار والانتماء، وحرية التنقل والإقامة كذلك، وهي الحريات التي أصبحت تعرف بالحريات الفردية والجماعية. وعندما نقول أيضا أن العلمانية تدافع عن المساواة فهذا معناه أن الإنسان العلماني يدافع عن المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، والمساواة في الحقوق والواجبات، والمساواة كذلك بين الثقافات واللغات وغيرها من الأمور التي تندرج في أطار المساواة القانونية والمعنوية(والرمزية). وعندما نقول أن العلمانية تدافع عن المواطنة فهذا يعني أن الإنسان العلماني ينتمي أساسا إلى الوطن وليس إلى الدين أو القبيلة، لهذا فان الانتماء إلى الوطن المشترك، وبالتالي الدفاع عن مصالحه (أي مصالح الوطن) هي فوق أي اعتبارات دينية أو لغوية أو عرقية، لهذا فأن المواطنة تشكل احد أعمدة الفكر العلماني الديمقراطي( طبعا هناك أنظمة علمانية غير ديمقراطية كالتي سائدة في الدول العربية) . فعلى سبيل التمثيل فقط من مصلحتنا جمعيا كمغاربة أن تحترم كرامة المواطن المغربي أينما كان وكيفما كان مستواه الفكري والمادي/المالي وانتمائه العرقي والديني، ومن مصلحتنا جمعيا كذلك أن يزول الفساد الإداري والسياسي والأخلاقي من حياتنا السياسية والاجتماعية، ومن مصلحتنا جمعيا أيضا أن يتوفر جميع المغاربة على التعليم والتأمين والشغل والسكن، لكن في المقابل ليس من مصلحتنا ابدأ أن يعتقل مغربي واحد بسبب تعبيره عن الرأي، وليس من مصلحتنا كذلك أن يموت طفل مغربي واحد بسبب البرد أو الجوع أو يرحم من المدرسة والمستشفى، وليس من مصلحتنا أن يموت شبابنا في البحر بسبب الهجرة السرية أو تستغل نسائنا في أسواق الدعارة الدولية، كما أنه ليس من الضروري أن يذهب جميع المغاربة للصلاة أو أداء الزكاة، وهذا ليس فقط لكون أن الدين مسألة شخصية وفردية كما أوضحنا ذلك سابقا، بقدر ما أن المغاربة ليسوا جميعا مسلمين( هناك اليهود والمسيحيين واللادينين..) وبالتالي فان مسألة الصلاة أو أداء احد فرائض الإسلام قد تهم جزء كبير من المغاربة ولكنها لا تهم جميع المغاربة، لكن من مصلحتنا جميعا كمغاربة أن نوفر الحرية والحماية القانونية لكل مغربي يرد ممارسة شعائره الدينية. حريتي هي حريتك: تأسيسا على ما سبق، يمكن القول بأن دفاع العلمانيين عن حرية المعتقد، ومن ضمنها حرية اختيار العقيدة والمذهب، والدفاع أيضا عن الحريات الجنسية (ومنها حرية المثليين في ممارسة قناعتهم الجنسية وغيرها) هو التجسيد الأسمى للفكر العلماني الديمقراطي، الذي عرف مجموعة من التراكمات المعرفية والحقوقية التي عرفتها المجتمعات البشرية عبر صيرورة تطورها، ومنها المجتمع المغربي، فاليوم، هناك أشخاص داخل المجتمع المغربي الأمازيغي المسلم، للإشارة في هذا السياق، نحن نعتبر أن المجتمع المغربي الأمازيغي مجتمع مسلم انطلاقا من القيم والخصائص الثقافية والحضارية والدينية والتاريخية السائدة داخل هذا المجتمع وليس نتيجة تسمية الأخطاء بالمعاصي كما تقول السيدة الناجي في أحد مقالاتها. فعلى سبيل التمثيل، كيف يمكن لي شخصيا أن أطالب السلطات الهولندية باحترام عقيدتي وشعوري وانتمائي الديني بينما ارفض ذلك عندما يتعلق الأمر بحق المواطن الهولندي المقيم في المغرب أو في بلد إسلامي آخر؟. وبصيغة أدق، كيف اطلب من السلطات الهولندية احترام حق المسلمين بهولندا في بناء المساجد وإقامة الحفلات والمناسبات الدينية ( العيد الأضحى مثلا) وارفض في نفس الوقت حق المسيحيين في الاحتفال بأعيادهم الدينية أو بناء الكنائس، تماما كما حدث خلال السنوات القليلة الماضية،عندما رفضت السلطات المغربية طلب بناء كنسية جديدة تقدم بها بعض الأفارقة المسيحيين المقيمين بالرباط؟. وهل من المنطقي الحديث عن التسامح الديني بالمغرب بينما تشن السلطات المغربية في نفس الوقت حملة واسعة ضد الشيعيين المغاربة، بل وتقوم في نفس الوقت بطرد بعض الأوربيين بتهمة نشرهم للديانة المسيحية؟ كيف نتحدث عن الحرية الدينية والقانون الجنائي المغربي يعاقب بالسجن كل من تخل عن دينه أو أكل رمضان؟. وكيف يتم منع الناس من ممارسة حقهم المشروع في ممارسة قناعاتهم الجنسية انطلاقا من قناعات دينية (حرام) خاصة أو انطلاقا من حالات نفسية وأخلاقية ذاتية قد لا يتفق معها من يمارسها؟ (12). فعلى سبيل المثال كيف يمكن لنا الحديث عن الحرية الفردية والجماعية والعديد من المغاربة يحاكمون بقانون الزنا وشرب الخمر؟. لهذا الأسباب جميعا (هناك طبعا أسباب أخرى) يطالب العلمانيين بحياد الدولة تجاه الدين، ولكنهم لا يطالبون بإلغاء الدين من حياة الناس أو المجتمع. الحياد هنا معناه عدم تدخل الدولة في المجال الديني، وهذا ليس فقط لكون أن الإسلام عقيدة وليس دين وسياسة، كما قلنا سابقا، وليس لكون أيضا أن السياسيين ورجال الدين يستغلون الدين (الإسلام) بشكل فظيع ورهيب، وإنما لكون أن الدولة تمثل جميع المواطنين والطوائف الموجودة بها وليس المسلمين فقط، ومن واجبها( أي الدولة) أن تحمي جميع الديانات الموجودة في المجتمع وان تعاملها بالاحترام والمساواة التامة. الدولة هي شيء مشترك للجميع، لهذا يجب أن تكون حيادية في مسألة الدين، فالحياد هو الضمانة الوحيدة للإنصاف، ففي اعتقادنا المتواضع لا توجد الحرية الدينية خارج الدولة المدنية العلمانية الديمقراطية اختلاف الهوية: ذكرت السيدة الناجي في معرض حديثها عن أسباب عدم مشاركتها في احتجاجات حركة عشرين فبراير مسألة اختلاف الهوية بينها وبين الحركة، فبينما ترى الكاتبة أن الهوية تبدأ من الدين حيث قالت ما يلي ” لن أشارك بسبب اختلاف ترتيب تركيبة هويتنا، فهويتي تبدأ تركيبتها بالإسلام، ثم تأتي بعدها “تمغربيت” لكن هويتهم بدأت ” كما يقولون” بالوطن ..”. في واقع الأمر لا ندري، هل تدرك الأخت الناجي حجم الكلام الذي قالته، ولا ندري كذلك هل استوعبت جيدا خطورة الكلام الذي قالته، ومدى حجم انعكاساته على مستقبل البلد في حالة إذا ما أصبحنا نفكر جميعا بهذه الطريقة، فإذا انطلق جميعا من هذا التحليل وهذا التفكير الضيق والمتطرف أيضا، فأين سنصل بهذا الوطن؟. فإذا كنا نرفض المشاركة في المظاهرات أو الانتخابات أو الشغل أو التعليم أو في باقي مناحي الحياة بناءا على الهوية الدينية أو اللغوية أو العرقية لكل فرد أو جماعة منا فأن الحرب الأهلية والصراع الطائفي والمذهبي قادمة لا محالة ( حالة لبنان نموذجا )، ثم أن ازدهار وتطور المجتمع على هذا الأساس وعلى هذا النحو يبدو لي مستحيلا. لهذا نعتقد، إن التناول المختلف لمسألة الهوية هو ما يجعل طرح مستقبل البلد مسألة إستراتيجية (وهذا ما جسدته حركة 20 فبراير في الاحتجاجات التي نظمتها)، ومن ثم فأن هذا الفكر( فكر الاختلاف) ينطلق ويعتبر الإنسان المغربي متعدد الهويات والمرجعيات ، لكن مصلحة البلد فوق هذا الاعتبار أو أية اعتبارات شخصية أخرى، مما يعنى أوتوماتيكيا إن مسألة المشاركة في الحياة العامة للمجتمع ( ولو في أطار التضامن) لا يجب أن تحدد انطلاقا من الهوية المشتركة فقط ، بقدر ما يجب أن تنطلق من القناعات والمصالح المشتركة، فنظافة الشارع مثلا أو احترام توقيت رمي الازبال أو توفير المدرسة والمستشفي في الحي الذي اسكن فيه، هي أمور مشتركة بيني وبين الجار الذي يسكن في الطابق أسفلي أو في نهاية الشارع، هذا بصرف النظر عن هويته وانتمائه ومكانته الاجتماعية، لهذا فان المشاركة في الاحتجاجات التي تدعوا إليها حركة عشرين فبراير يجب أن تكون على أساسا القناعة بأهدافها وليس انطلاقا من هويتها ومرجعيتها وعقيدتها. محمود بلحاج: [email protected] لاهاي/ هولندا بعض الهوامش المعتمدة في كتابة هذه المقالة: 1: يتعلق الأمر هنا بالمقالات التالية : ” الإسلام أو لا شيء”، و” ويلي ويلي .. خليت البزبوز محلول “، و “مخزانية..بصحتي وراحتي” ومقال آخر تحت عنوان ” هام..جدا” ، المقالات نشرت كلها في الركن الخاص ب ” الكلام المرصع”. 2: محمد سبيلا ” في تحولات المجتمع المغربي ” دار توبقال للنشر الطبعة الأولى 2010 3: انظر حول هذا الموضوع كتاب ” منظمة “إلى الأمام” النشأة.. التطور .. الامتداد” إعداد وتقديم حسن الصعيب وعبد المومن شياري منشورات الأفق الديمقراطي – الطبعة الثانية .2003 4: المستشار محمد سعيد العشماوي ” الإسلام السياسي ” عن إصدارات سينا للنشر – الطبعة الثالثة 5: المستشار محمد سعيد العشماوي ” الخلافة الإسلامية” عن مؤسسة الانتشار العربي – الطبعة الخامسة 6: الدكتورة مريم ايت أحمد ” جدلية الحوار: قراءة في الخطاب الإسلامي المعاصر” منشورات مجلة علوم التربية العدد 24 – الطبعة الأولى 2011 7:محمد سبيلا ” للسياسة، بالسياسة في التشريح السياسي” أفريقيا الشرق 8: انظر الشيح محمد قطب ” العلمانية” إصدارات دار الأفق للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى 9: انظر كتاب ” الماركسية والدين من لاهوت التحرير المسيحي إلى لاهوت التحرير الإسلامي” إعداد وتقديم حسن الصعيب ومنشورات الأفق الديمقراطي – الطبعة الأولى 2007 10: انظر ” حوارات في الإسلام: الديمقراطية، الدولة، الغرب” الدكتور حسن الترابي وآخرون، منشورات دار الجديد 11: المرجع السابق مريم ايت أحمد 12:انظر حول هذا الموضوع كتاب الأستاذ التجاني بولعوالي ” المسلمون في العرب: بين تناقضات الواقع وتحديات المستقبل” عن مركز الحضارة العربية – الطبعة الأولى 2006