اشتريت كتابا بخمسة دراهم، كتاب يتناول مواضيع تافهة ووقحة ولا تليق بقارئ محترم، لكنني أحببته، لأني كما يبدو أفضل هذا النوع من الكتابة وأجد نفسي مشدودا إليها. في الغلاف صورة شاب ببنطلون جينز مقطع من الركبة، يمعن في إظهار صلافته ويشهرها منذ الصفحة الأولى. إلا أني، في الحقيقة، أحببت الكتاب لسبب آخر، تمثل في ثمنه الرخيص، أما قيمته الأدبية فلم تكن تعنيني بالمرة، ومع ذلك أعجبني كثيرا. أقدمت في البداية على اقتناءه لأني ظننت أن الأمر يتعلق بأحد المغنين الجدد، الذين فاتني الوقت لأتعرف عليهم في أحد الكليبات، إلا أن تخميني جانب الصواب.
اكتشفت نصوصا مدهشة وغريبة لكاتب يتحدث عن كل شيء غير ذي قيمة، وباهتمام مبالغ فيه بهذه الأشياء، حد جعلها وحدها تستحق أن يكتب عنها، أما غيرها، الرصينة وذات النفع، فلا وجود لها تماما، غائبة بحكم سطوة العابر والمثير للاشمئزاز.
لن أخبر أحدا عن عنوان الكتاب، لأنه ضاع مني، ولم أحزن لفقدانه كثيرا، ربما بسبب قيمته وثمنه البخس، في حين لا يمكنني أن أنسى أنه كان مكتوبا بالفرنسية ويتحدث من ضمن ما يتحدث عنه الكلاب.
هل يستحق نص يتحدث عن الكلاب خمسة دراهم، وهل يستحق أن أكتب عنه أنا الآخر. المسألة نسبية، وتتعلق بميولاتي ووذوقي، أو بعدم قدرتي على الاهتمام بما ينفع الناس، إلا أنني دفعت الثمن، وكل ما سيصيبني من ندم بعد ذلك لن يجدي نفعا.
لقد غامر هذا الكاتب الكلبي وقارن بين هذا الحيوان والأطفال الصغار من خلال سؤال هو : هل الأفضل أن يربي الإنسان كلبا أم طفلا صغيرا كما يفعل الأزواج عادة ؟
وبطريقة أخرى تساءل عن السبب الكامن وراء إصرار كل رجل وامرأة يتقاسمان العيش تحت سقف واحد على أن يدخلا طرفا ثالثا في لعبتهما. تبدأ العملية بأن يناما معا في السرير، ويضاجعا بعضهما البعض، ليخرج عليهما بعد أشهر كائن اسمه ابنهما، ينادي المرأة بماما والرجل بابا. إذا كانت الحاجة مقتصرة على كائن ثالث، لماذا يكون رضيعا بالضرورة، وحتى لا يتدخل أحد ويفحم الكاتب بأن الإنجاب مسألة طبيعية ومن صميم الإنسان، وأن البطة لا يتبعها ولد شقي، بل بطة صغيرة خرجت من بيضة وضعتها بنفسها بعد طول عناء، وأن الدجاجة لا تربي قردا، بل تحضن صيصانها فتدفئهم تحت جناحيها في حنان منقطع النظير، وأن الخروف لا ينجب قطة بل حملا من رحم نعجته، وهي بمثابة الزوجة عندنا نحن الإنسان... إلى غيرها من الأمثلة الكثيرة.
تحسبا، إذا، لمثل هذه المرافعات، فإن الكاتب المجهول، على الأقل بالنسبة لي، يعدد ما لا يستهان به من إيجابيات تربية الكلاب والجراء الصغيرة مقابل سلبيات الأطفال، إذ لا يرى ضرورة في أن نضع طفلا يكون نصيبه البطالة، ويكون عرضة للأمراض القاتلة ولمقدمي النشرات الجوية المسائية.
فأن نقوم من وجهة نظره بجولة مع كلب في الغابة، يسمح ذلك بقدر لا بأس به من اللقاءات مع فتيات يعشقن الكلاب، وهذا جيد لاستدراجهن لأشياء أخرى.
مداعبة كلب وتمرير الأصابع على فروته مع مشاهدة التلفزيون في نفس الوقت، وخاصة برنامج ثلاثون مليون صديق مسألة جيدة للأكف.
هبوط السلام مع كلب كل مساء كي يقضي حاجته مسألة جيدة للقلب.
مقارنة مع المرأة، الكلب أفضل بكل المقاييس، أهمها أنه لا يخونك مع مدير العمل، والإنفاق عليه أقل كلفة في كل الحالات من الإنفاق على امرأة، كما أن الكلب لا يحتاج كل مرة لزيارة والدته الكلبة، ولا يحتاج إلى فساتين وعطور وهدايا.
رائحة كلب مبلل رهيبة بكل المقاييس، لكنها لا شيء إذا ما قورنت برضيع مبلل بدوره.
بالنسبة لمشكلة الضجيج، الكلب ينبح حتى في الأوقات التي لا تمر فيها القافلة، وينبح أيضا لما يجوع أو يتعرض لألم، أو عندما يرى كلبا آخر من بني جلدته، أما الرضيع فهو ينبح عندما يتعرض لألم أو حينما يكون جائعا، لكنه نادرا ما يقوم بذلك عندما يرى رضيعا من بني جلدته كما يفعل الكلب.
تنحصر حاجيات الكلب في مسكن صغير من الخشب وإلى عظم بالقرب منه وإلى صحن ومشط وطوق ضد البراغيث وتزيين مرة أو مرتين في السنة إذا لزم الأمر، في حين حاجيات الرضيع مرعبة، وتبدأ من سرير وطبق صغير وكوب وكرسي وغرفة وعربة صغيرة تدفع باليد وأطباء وأدوية وحفاضات وملابس وألعاب وصولا إلى بنطلونات جينز وبدلات وكتب مدرسية ودراجات وعوازل طبية وأقراص منع الحمل....
ليس الكلب إيجابيا بالمطلق، فهو لا يتحمل عناء إنزال القمامة عبر السلالم ولا يعد القهوة ولا ينظف البساط، إن لم يكن يساهم في اتساخه بإدخال رأسه في القمامة والتنقيب فيها للعثور على مصفاة قهوة وقلبها على نفس البساط.
هكذا لم تضع مني الخمسة دراهم، وتمكنت عبر ذلك الكتاب من تدبيج هذا النص التافه الذي يتحدث عن مزايا الكلاب.
لننس هذا الأمر وذلك المؤلف الذي لا أذكر اسمه، أما الكلاب فستبقى معي إلى آخر سطر، إذ لم يكن الفيلسوف الروماني إميل سيوران يفكر في تربية الكلاب حين كتب أن أفظع الجرائم هي أن تصير أبا . الأغلب أنه كان يخشى اقتراف خطأ قذف طفل في كماشة الحياة، يخشى أن يلتهمه وحش مفترس اسمه الوجود. موقف سيوران جاء ربما من موقف "أخلاقي" أملاه هلعه من المصير السيئ الذي ينتظر الصغار، لذلك حذر من مغبة إخراجهم إلى الوجود، حتى لا يصيبهم ما أصاب الذين قبلهم. ومع ذلك لم ينصح هذا الفيلسوف بتربية كلب بدل هؤلاء الأشقياء الصغار، كما لم ينصح بسقي شجرة أو تأمل النجوم في السماء، ولم يقترح، على عادته، بديلا أو حلا، مادام، حسبه، لا أمل يرجى من الحياة وعدمها الانتحار، مادام الإنسان قد ولد، وصار يبكي ويضحك ويأكل البطاطا ويشاهد مسلسلات نور الشريف وأغاني تامر حسني على هذه الأرض، حيث كل فعل يمكن القيام به في نظره هو متأخر وبلا جدوى. لو قرر سيوران أن يربي كلبا لما كتب تلك الكتب المليئة بالسوداوية والتشاؤم ، فقد حرمه هؤلاء الصغار الطيبون الذين يخرجون إلى الدنيا مباشرة بعد كل عملية عناق من تأليف روايات وردية وأشعار تشبه تلك التي كان يكتبها نزار قباني، ولكان قد غناه في ما بعد كاظم الساهر، ولعادت عليه كلماته بالخير العميم، بدل تلك الكتب التي تسببت في تنغيص حياة عدد من الشباب. ليس لسيوران موقف من الأطفال، وليس له موقف من الكلاب أيضا، وكل ما فعله هو محاذير من خطر الوجود والتنفس حتى بلوغ الأجل. لكن ماذا كان سيحصل لو تأثر كل الرجال والنساء بهذا الفيلسوف الذي كان في صباه يلعب كرة القدم بجماجم الموتى في مقبرة قرب بيت الوالدين ؟! ماذا لو جاروا هذا المتشائم وامتنعوا عن صنع هذه الكائنات الغريبة والصغيرة الحجم التي تسمى أطفالا ؟ من سيصبح وزيرا أو لصا أو شاعرا يكتب ترهات كهذه ؟ ثم من سيربي الكلاب، تلك الحيوانات التي لا يمكنها أن تعوض فلذات أكبادنا كما تقول اللغة العربية ؟ من سيلقم الحنطة للحمام في النافورة سوى هؤلاء الأطفال الأشرار، الأطفال الذين نناغيهم كي يقتلوننا عندما يكبرون. بيني وبين نفسي أحاول أن أنصح أصدقائي الكلاب، أقول لها لا تحرسي الإنسان.
لا تقعي مربوطة أمام بابه لا تكوني ذليلة لا تنبحي من أجل سلامته اتركي اللصوص يسرقونه لأنه لا يستحق عضيه ما استطعت أو اهربي إلى البرية واتركيه يتدبر أمره إن البشر كائنات لا تستحق كل هذا العناء. أما الأطفال فأقول لهم : أعلنوا العصيان في أرحام أمهاتكم لا تخرجوا إلى الدنيا لتزاحمونا
ابقوا حيث أنتم، كي لا يضطر كتاب اشتريته بخمسة دراهم ولا أتذكر اسمه، أن يفاضل بينكم وبين ذلك الحيوان.