هذا النص أتى في سياق تاريخي، خلال سنوات الدراسة في المعهد العالي للإعلام والاتصال، لما كان النقاش مشتعلا حول أفضلية الدراسة باللغة الفرنسية، وتراجع مستوى الطلبة الذين قرروا الدراسة باللغة العربية، كثيرة هي التعاليق التي أصابت ظهري، من دون أن أرد عليها، أحسست في لحظات كثيرة أن هناك عبارات فيها استصغار، وفيها هجوم على لغة هي لهذا الوطن ومنه، وهذه الأسطر هي دفاع عن العربية كلغة وحضارة، ولغة تكنولوجيا في الألفية الثالثة.
فكفى تعلقا بأوهام فرانكفونية، فالعيب ليس في حواسيبكم، ولكن العيب فيكم، آسف على هذا التعبير، لكنها الحقيقة، لننظر من حولنا، كل الأقليات اللغوية تحافظ على لغتها، فبالأحرى نحن في المغرب حيث العربية تعود إلى قرون خلت مع دخول الإسلام، الذي قد لا يعني للبعض شيئا، إلى ما كان يسمى موريتانية القديمة أو المغرب الأقصى، فمهما اختلفت التسميات، فالوطن واحد.
أتحدث دفاعا عن اللغة العربية، وأنا الأمازيغي الأصل والمولد واللغة، ولأعلن عن استغرابي لهذا النفور من اللغة العربية، مع العلم أن إحصائيات شركات البرمجيات المعلوماتية العالمية، تشير إلى أن اللغة العربية، تحتل مكانة متقدمة في لائحة ترتيب لغات البرمجيات، مباشرة بعد اللغة الإنجليزية، بينما الفرنسية تأتي متأخرة جدا، آسف على هذه الحقيقة، التي لن تعجب عاشقي فرنسا، أما المراتب الأولى فتحتلها لغات لا توجد في نواحي جغرافيتنا في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب المتوسطي.
كما أن العربية اليوم نجدها في جميع المنتجات القادمة من الدول الصناعية العظمى، وتسوق في البلدان التي تحترم لغتها، أما عندنا فمن يجيء من فرنسا لا يجد إلا وطنا ثانيا له، فيه كل شيء يتكلم فرنسية، ما عليه إلا أن يطلب تحويل عمله إلى الدارالبيضاء أو مراكش أو الرباط، ليكون مرحبا به، فلا أجد سببا لهذه اليافطات المضاءة باللغة الفرنسية للمقاهي والمحال التجارية في حي الرياض وأكدال مثلا في العاصمة الرباط.
أما نحن في المغرب، فلازلنا في حاجة إلى استقلال لغوي جديد، يحرر عقولنا وكياناتنا من عقدة اللغة الأجنبية، وهنا أقصد الفرنسية بالتحديد، فالمغرب وهو يخلد هذا العام 2004 نصف قرن من الاستقلال، لا زال في حاجة إلى استقلال آخر، يمنحه شخصيته الثقافية واللغوية على وجه التحديد، فأتحسر كثيرا عندما أنظر إلى أحياء في مدن مغربية، وقد كتب كل شيء فيها باللغة الفرنسية، رغم أن فرنسا لن ترحب بنا، وهذه مسألة يعيبها علينا الكثير من المثقفين المتحررين، ومنهم فرنسيون.
فاللغة الفرنسية في المغرب، بسدنتها من حماة الفرانكفونية، وهم أقلية صغيرة، إلا أنهم يمسكون بزمام كل شيء، إلا أنهم يدفعون بلدنا إلى الهاوية، فما أحوجنا إلى اعتزاز جديد بلغتنا، فالعيب كل العيب فينا نحن، في شخصيتنا، في لغتنا، والدارجة ليست العربية، وأتمنى أن تشرق فيه شمس يوم، لا تمنح فيه بطاقة التعريف الوطنية في المغرب، لكل مواطن لا يتحدث اللغة العربية بطلاقة، رغم كل جهود القائمين الراغبة في جعل الدارجة مكان العربية من أنصار التيار الفرانكفوني المغربي وعلى قلتهم العددية ولكن لقوة تأثيرهم في دوائر القرار.
فالفرنسية في بلدي الحبيب، لم تعد مجرد لغة نتحدث بها، بل صارت ثقافة ومعيشا يوميا، وعقيدة حياتية تنطلق من أن المغرب لم يعد فيه شيء صالح، رغم أن هؤلاء الذين استبدلوا صباح الخير والسلام عليكم، ب bonjour مثلا، وأنا شخصيا لا أجد أي ضير في الحديث بالعربية والكتابة بها، فلست متخلفا، ولي إيمان كبير بعقيدتي اللغوية، ومعتز بها، ومدافع عنها.
فإذا كانت لغتي العربية، ما يزعج، فأنا أنسحب بهدوء، ويشرفني أن يكون لي طلاسيمي من اللغة العربية، وأعلن أني لست ضد اللغة الفرنسية، بل أتموقع ضد الفكر الفرانكفوني، الذي حول حتى وصل الماء والكهرباء والهاتف إلى اللغة الفرنسية في المغرب، ورغم ذلك، لن ترضى بنا لا نيس ولا باريس، فلنستيقظ من 50 سنة من الرطن بفرنسة باريس، أما علمتم أن لغتكم أجمل وأحلى، أم أن المغرب لا يزال مستعمرة لغوية وثقافية فرنسية؟ وأتذكر لما ولجت معهد الصحافة في الرباط، قادما من فضاء جغرافي تهيمن عليه الإسبانية، عانيت من نظرات التقليل من الشأن لضعف مستواي اللغوي في الفرنسية، إلا أني تعاملت بصبر أمام من يرون أن تملك الفرنسية من علامات التفوق، إلا أني ما غادرت المعهد إلا ومتسواي في اللغة الفرنسية أفضل من يوم دخولي لمعهد الصحافة في العرفان.