صخب الشعبوية الجديد احتلّ ولا يزال يزحف لاحتلال مساحات شاسعة في الساحة الإعلامية في المغرب، يدعمه في ذلك خطاب حربائي بكلمات متقاطعة وهمز ولمز، ودروس في علم السياسة والتواصل وفقه النكاح، حيث تلقى مجاناً على قارعة الطريق.. فهل من مُتلق؟ في نهاية الأسبوع المنصرم، جادت قريحة زميلين في مهنة المتاعب، واحد في الدارالبيضاء والآخر في القنيطرة، بعبارات وكلام لم يسبق لي أن قرأته لا في أمّهات المصادر الإعلامية في أمريكا أو في بلاد مطلع الشمس، مروراً بأرض الكنانة إلى حدود مضيق البوسفور. ومجمل القول: الأول مدير جريدة "غراء" تُقيم الدنيا ولا تقعدها وكتب كلاما "غريبا" في افتتاحية على صدر يوميته التي يسهر على نشرها بانتظام صيفا وشتاءً.. وأحييه بالمناسبة على مواظبته الكتابة اليومية، والثاني عضو "قيادي" في النقابة الوطنية للصّحافة.. وبالمناسبة فالزميلان شابان، والشباب رمز الطموح و"التموقع" والبحث عن الجاه والمال وأشياء أخرى.. وهذا أصبح اليوم طبيعيا ولا مؤاخذة من هذا الجانب. وبيت القصيد هو أن زميلنا صاحب الافتتاحية كتب عتاباً يقول فيه بالحرف: "كلاب الحراسة لم تعدّ تنبح"، موضحا أن "الصحافة المعاصرة في الأنظمة الديمقراطية مثل كلاب الحراسة.. تنبح وقد تهاجم الغرباء"... إلخ. وبطبيعة الحال، تكلم عن دور الصحافي المغربي دون أن يوضح من هي الجهة التي أوحت له بهذا "العتاب".. وهي في الواقع ودون دراسة لغوية معمّقة لتعابير الافتتاحية العجيبة، نكتشف أنها تشبه في مضمونها شتم "محاربي التماسيحّ.. فبعد سنين من الممارسة الصّحافية، توصل صاحبنا إلى هذه "الخلاصة الكلبية".. وهنا أفتح أقواسا وأقول علنا إنني شخصيا أحبّ الكلاب الأليفة، وليس لدي أدنى تحفظ على "كلاب الحراسة" التي تساعد حرّاس الليل والأمن والدرك والجمارك وغيرهم حتى يتمكنوا من أداء مهامّهم على أحسن وجه في إطار القانون، بطيعة الحال.. ومن جهة أخرى، حتى لا يفهم من كلامي شيء آخر وتجد السيدة برجيت باردو، الفرنسية التي تدافع عن "الرّفق بالحيوان"، لا قدر الله، هذا الكلام مطية لتشنّ "حملة إعلامية" ضد المغاربة وتتهمنا بأننا "صُوفاجْ"، وحتى لا نسقط في فخ دُعاة "حرب الحضارات".. وأذكّر هنا بآية الكهف "سيقولون ثلاثة ورابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم"، أي أن ذكر الكلب في القرآن لم يكن من قبيل الصّدفة.. وأصحاب الصحف والأقلام التي يسيل مدادها بغزارة كلما "صْعابت الوقت.. بحال أيام كلب الرّوسي بافلوفْ" يعلمون علم اليقين أن حتى الأمريكيون لا تخلو فترة رئاسية من ظهور كلب -أبيض أو أسود حسب الظروف- إلى جانب صاحب البيت الأبيض لالتقاط صورة تذكارية.. وهو في الواقع ليس "كلب حراسة" بالمعنى المتعارَف عليها دوليا، وإنما "للاستئناس"، كما يستأنس بعض رجال الأعمال والشخصيات في المغرب بكلاب خاصة "تنبح وتعضّ" كلما أُمِرت بذلك! نعود إلى الموضوع.. "وذكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين"، ونعود بصاحبنا إلى الماضي لنذكره بغضب السيدة الأمريكية العجوز مادلين أولبرايت بعد لقائها مع المسؤولين السعوديين خلال حرب الخليج الثانية.. حيث طلبت الإذن بانتشار الوحدات الأمريكية على التراب السّعودي لمواجهة "أطماع" الرئيس صدام حسين.. فرفض المسؤول السعودي بحكمة ولباقة بدو شبه الجزيرة العربية، حيث حكى لها "قصة الرّاعي والذئب وكلب الحراسة"، وكيف أن الراعي فضّل أن يتأقلم مع الظروف لدرء خطر الذئب بدل اللجوء إلى كلب حراسة يكلفه غاليا.. فخرجت أولبرايت "زَعلانة أوي"، وقالت لمساعديها "نحن إذن كلاب حراسة!؟".. واحتراما لمصدر هذه القصة، نهمس في أذن كاتب الافتتاحية أنها نشِرت في إحدى افتتاحيات الزميل عبد الباري عطوان إبان تدبيره شأن جريدة "القدس العربي".. ومهما يكن من أمر، فإنّ غضب الصحافيين وارد ولا غبار عليه، والسكوت هو "جبن ونكران" لأبسط قواعد أخلاق المهنة التي "يتغنى" بالدفاع عنها الجميع ليل نهار.. وحتى ولو افترضنا أن صاحبنا قد خانته الترجمة لنقل المفهوم الأنجلوساكسوني "واتش دوك" (Watchdog) إلى العربية استنادا إلى دور تلكم المؤسسات التي تحرس قواعد اللعبة وتسهر على شفافية المعاملات المالية والبنكية والمضاربات في سوق الأسهم، أو تلكم التي تعمل ليل نهار على احترام الدساتير والنصوص القانونية والتشريعات التي تتعلق بحرية الرأي والصحافة والتعبير والأقليات، وهلم جرا.. فلهذا السبب لا ثم لا.. لا يمكن أن تتم المقارنة، في لغة الضاد على الخصوص، بين الكلب والصّحافي، اللهم إذا أراد صاحبنا تمرير رسالة للدفاع عن "أصحاب المعبد وسرّه"، وفي هذه الحالة نذكره بمقولة ذلك الأعرابي "ما هكذا تورَّد الإبل". أما صاحب عبارة "كلنا عبيد مْشرّطين لحناك.. للمهنة والمهنية وحرية الصحافة"، فلا حاجة للتعليق ولا للخوض في تاريخ العبيد والعبودية ولو بمفهومها ومعناها المجازي في هذا الزمن البئيس.. سامحك الله! وبالمناسبة نهمس في أذن بعضهم (لمحاربة الأمية المتفشية بيننا) بأن الأستاذ والباحث المغربي محمد الناجي نشر سنة 2007 مؤلفا شيقا بالفرنسية عن "العبودية والسلطة في العالم العربي".. ملحوظة لا علاقة لها بالموضوع الكلام عن الزمن البئيس ذكرني بمؤلَّف "البؤساء" للأديب والشاعر الفرنسي فيكتور هيغو.. وشخصيات "البؤساء" في هذه القصة الرّومانسية، مثل جون فالجون وكوزيت، هم بؤساء يتميزون "بكرامة حقيقية وجرأة، ونبل وتواضع"، رغم أن زمنهم كان رديئاً فعلا.. أما الآن فعندنا "بؤساء" من درجة ممتازة (VIP) يُفتون في كل صغيرة وكبيرة.. ويحبّ معظمهم الأضواء الكاشفة، خاصة على شاشة "الجزيرة"، رغم فقدانها "بريق" ما قبل الربيع العربي.. وقديما قيل "إن لم تستحي فافعل ما شئت.."