ليس لسلطان العارفين أبي يزيد البسطامي كتاب يمكن الرجوع إليه، لكن أهل السنة اعتبروه خطرا على الدين وسما مدسوسا، وظلوا يخشون أقواله المتداولة بين الناس وفي مؤلفات الصوفية. عكس الجنيد لم يكن البسطامي يضع حدودا لشطحاته ، كما أنه ليس ملغزا كالنفري، كان كلامه جليا ولا لبس فيه ولا يحتمل كثير تأويل. كان من السهل تكفيره واستباحة دمه مثل الحلاج بل أكثر، وكان يقدم لأهل الظاهر دليل اتهام يوجهونه إليه على طبق من ذهب. ربما لهذا السبب لا يوجد مرجع يمكن العودة إليه، باستثناء نصوص وشذرات متفرقة. إنه مثل سقراط يوجد على لسان الآخرين فقط، ويجعله أعداؤه ومحبوه حيا من خلال كتبهم عنه وأحاديثهم التي ينقلونها على لسانه. كان شيخنا البسطامي وبلغة هذه الأيام صوفيا متطرفا، أو كما قال هو عن نفسه مأخوذا، يجب الحذر والاحتياط منه، لأنه ليس في وضع طبيعي، وما يقوله ليس هو، لكنه هو أيضا. ولم يتردد في المطالبة بأخذ مسافة منه وعدم تصديقه، خوفا على العوام من كلامه المريب لئلا يقعوا في مهاويه، حين وضح"إنما الكلام يخرج مني على حسب وقتي، ويأخذه كل إنسان على حسب ما يقوله، ثم ينسبه إلي"، كما قال إنه لا صفة له ومثله مثل البحر المصطلم لا أول له ولا آخر. وقد عانى المهتمون بالتصوف من وجود أقوال تنسب مرة للبسطامي وأخرى للحلاج أو غيره، إلا أن المدافعين عن أبي يزيد ينفون عنه ما لا يحصى من الكلام، ولا يتفقون على إدراجه في كتابه غير المكتمل والمتفرق، ذلك الكتاب الذي لم ينسخ، لخطورته وللبلبلة التي يمكن أن يحدثها في نفوس الناس. أكتب هذا الكلام وأتساءل ماذا لو كان البسطامي في عصرنا هذا، ماذا لو قال أحد الآن وفي هذا الوقت السيئ"خضت بحرا وقف الأنبياء بساحله"؟ ماذا لو كتب أحد"أراد موسى عليه السلام أن يرى الله تعالى، وأنا ما أردت أن أرى الله، هو أراد أن يراني" مثلما كتب أبو يزيد؟ وماذا أيضا لو سمع هؤلاء المجانين"سبحاني ما أعظم شأني، حسبي من نفسي حسبي" أو" المؤمن الجيد هو الذي تأتيه مكة وتطوف حوله وترجع ولا يشعر به، حتى كأنه أخذ". كانوا سيهدرون دمه دون تردد، وكانت ستصدر فتوى تبيح قتله، وكان رأسه سيعلق في قناة الجزيرة وعلى مواقع عديدة في شبكة الأنترنت. وعندما يفعلون ذلك كان سيطلب من الله أن يغفر لهم، لأنه يعلم أن جهنم إذا رأته تخمد رحمة الله للخلق، وسيدعوه"إلهي إن كان في سابق علمك أنك تعذب أحدا من خلقك بالنار، فعظم خلقي فيه حتى لا يسع معي غيري". ويقول البسطامي"خرجت إلى الحج فاستقبلني رجل في بعض المتاهات فقال: يا أبا يزيد إلى أين ؟ فقلت: إلى الحج، فقال: كم معك من الدراهم؟ قلت: معي مئتا درهم، فقال: طف حولي سبع مرات وناولني المئتي درهم فإن لي عيالا، فطفت حوله وناولته المئتي درهم". كثيرون قلت يشككون في أقواله، ويزيد في شكهم أنه لم يترك أثرا بل مجرد أقوال منثورة هناك وهناك، وهناك من يكفره، لكنه يرد عليهم جميعا:"ومن أبو يزيد؟ ومن يعرف أبا يزيد؟ أبو يزيد يطلب أبا يزيد منذ أربعين سنة فما يجده".