بعد سنتين ونصف من تنصيب الحكومة الحالية، يعتزم رئيس الحكومة -طبقا لأحكام الفقرة الأولى من الفصل 101 من الدستور- تقديم الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة، والتي تميزت بأحداث استثنائية وغير مسبوقة على المستويين الوطني والدولي. وتتزامن فترة منتصف الولاية التشريعية الحالية مع استمرار آثار الاضطرابات الاقتصادية الكبرى التي أعقبت جائحة كوفيد 19، وتفاقمت بشكل خطير مع التوترات العسكرية شرق أوربا منذ مارس 2022، لتنضاف إليها الآثار الاجتماعية والاقتصادية للزلزال المدمر الذي ضرب عدة أقاليم وسط المملكة شهر شتنبر الماضي. وبغض النظر عن الاختلاف الإيديولوجي أو اختلاف المواقع السياسية، يمكن القول بأن التحديات المطروحة على هاته الحكومة تختلف بشكل جذري عن التحديا السابقة التي عاشها المغرب منذ أزيد من عشرين سنة، على الرغم من أن هذا الأمر لا يمنع من الوقوف على الإشكالات الكبرى التي تسبب فيها التدبير الحكومي الحالي والذي لا تعود أسبابه بالضرورة لهاته الظرفية. ويمكن القول بأن السرعة والفعالية التي تغاعلت معها الدولة للتخفيف من آثار الزلزال خلال الأسابيع الأولى كان حاسما في تمكين المملكة من التعافي السريع نسبيا من آثاره الاقتصادية والمالية، في حين أعطى تعاون الشعب المغربي -تحت قيادة جلالة الملك- وتكاثفه وتضمانه زخما استثنائيا لا زال مستمرا لحد الآن. ومن جهة ثانية، وبعيدا عن الاصطفافات السياسية والتناقضات الحزبية، وفي ظل الإشكالات العميقة التي لا يزال يعرفها المغرب على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية، يمكن استعراض عشر تحديات كبرى أمام الحكومة الحالية في منتصف ولايتها الدستورية. وإذا كان جزء من هاته الإشكالات يعود بالأساس للظرفية الدولية الاستثنائية التي عانى منها المغرب بسبب الظفية الاستثنائية، فإن الكثير منها يعود لاختلالات بنيوية تعاني منها المجالات الاجتماعية والاقتصادية والمالية، والتي تتطلب بالمقابل تجدبيرا استثنائيا وحلولا مبتكرة لتجاوزها ومعالجتها. كما تفترض تجاوز العقليات القديمة في التفكير والتسيير والتدبير، والتي لن تساهم إلا في إعادة تكرار التجارب المحدودة التي عانى منها المغرب منذ عدة عقود. فالتحديات التي أصبحت تواجهها المكالمة داخليا وخارجيا لم تعد ذات طابع مؤقت أو ظرفي، وإنما أصبحت الإكراهات التي تواجهها بلادنا ذات طابع مستمر، وتتطلب مواجهتها إجراءات مبتكرة وأكثر نجاعة وفعالية على مختلف المستويات. أولا: تحدي التواصل الحكومي وإحياء النقاش المؤسساتي: إن المتتبع للمزاج السياسي العام قد يُصدم من هول الإشكالات السياسية التي يحاول البعض إلصاقها في الحكومة وجعلها مسؤولة عنها، على الرغم من أن الاختصاصات والمهام الدستورية واضحة على هذا المستوى. وفي ظل هذه الصورة الانطباعية، لا يلتفت الرأي العام في العادة للإنجازات الحكومية مهما بلغت درجة أهميتها، بل لا أحد سيلتفت للأهمية المفترضة لهذه الإنجازات حتى لو كانت آثارها الإيجابية المباشرة على المواطنين بادية بشكل ملموس. وفي ظل هذا الوضع، يبقى هذا الانطباع العام مهيمنا على اهتمام الرأي العام ووسائل الإعلام التي عادة ما تستهويها الصراعات السياسية على حساب تتبعها للتدبير الحكومي، وتميل لجلد القائمين على تدبير الشأن العام عوض مناقشة مضامين الإجراءات والتدابير مهما كانت أهميتها. وهو ما يزيد من ترسيخ ذلك الانطباع العام السلبي على المشهد السياسي برمته ولدى جزء كبير من الرأي العام الوطني. وفي مثل هذا السياق تواجه أية حكومة تحديا رئيسيا يكمن في مواجهة هذا الانطباع السلبي ومواجهته، وهي مهمة ذات صعوبة بالغة، ولم تسلم منها حتى الحكومات ذات العمق الشعبي الواضح في التاريخ السياسي الحديث. وهو ما يتطلب من جهة إعادة ترتيب الملفات الكبرى الاقتصادية والاجتماعية والتنموية داخل أية حكومة، بشكل يسمح بمعالجة أكثر فعالية للإشكالات، وببروز إجراءاتها للمواطنين بشكل جلي، ثم التواصل بشكل أكثر وضوحا مع الرأي العام لتمكينه من استيعاب التهديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها المملكة. وهو ما يدفعنا لانتقاد طريقة تواصل الحكومات المتعاقبة مع الرأي العام الوطني، لأن ما كانت تقوم به جل مكوناتها لا يعتبر تواصلا وإنما يدخل مجمله في إطار إخبار الرأي العام (Informaer et non pas communiquer)، في حين أن التواصل عملية مركبة ومعقدة، تروم بالأساس التفاعل مع الرأي العام وتحسيسه وإقناعه بمضامين أو بأهمية الإجراءات، وكذا تحذيره من المخاطر المترتبة عن التعاطي السلبي مع الملفات. ثانيا: تحدي إعادة الإعمار ومعالجة آثار الزلزال: إن الفترة الراهنة تعتبر ذات طابع خاص واستثنائي بكل المقاييس، خاصة في ظل انتظارات المواطنين والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، وبعد الزلزال الذي ضرب عدة أقاليم بوسط المملكة، والذي يعتبر لوحده مبررا معقولا لإعادة التركيز على عدد من الأولويات التنموية ذات الطابعين الاقتصادي والاجتماعي. وبقدر ما كانت آثار هذا الزلزال مؤلمة لنا جميعا، فقد أثلج صدورنا ما ظهر جليا من تلاحم غير مسبوق بين المؤسسات الدستورية وعلى رأسها جلالة الملك، وهيآت المجتمع المدني، وعموم المواطنين. وهو ما شكل استثناءً على المستوى العالمي في تعاطي الدول مع الكوارث والزلازل التي تعرفها، بحيث أظهر المجتمع المغربي استجابة غير مسبوقة على مستوى التضامن والتعبئة الشاملة لمواجهة آثار الزلزال. وبقدر ما كانت آثار هذا الزلزال مؤلمة لنا جميعا، فقد أثلج صدورنا ما ظهر جليا من تلاحم غير مسبوق بين المؤسسات الدستورية وعلى رأسها جلالة الملك، وهيآت المجتمع المدني، وعموم المواطنين. وهو ما شكل استثناءً على المستوى العالمي في تعاطي الدول مع الكوارث والزلازل التي تعرفها، بحيث أظهر المجتمع المغربي استجابة غير مسبوقة على مستوى التضامن والتعبئة الشاملة لمواجهة آثار الزلزال. ففي ظل هذا السياق المعقد، ينتظر المغاربة من الحكومة الحالية، في النصف الثاني من ولايتها، جوابا اقتصاديا واجتماعيا على حاجيات إعادة إعمار المناطق المتضررة وإطلاق دينامية إنتاجية كفيلة بتحقيق حد أدنى من شروط العيش الكريم. وإذا كانت المبادرة الملكية السامية قد خصصت ميزانية توقعية تصل إلى 120 مليار درهم على خمس سنوات، وذلك من أجل إنجاز برامج إعادة الإعمار وفك العزلة وتشجيع الأنشطة الاقتصادية ودعم برامج التشغيل، فإن التحدي الحقيقي أمام الحكومة الحالية يكمن من جهة بضرورة حسن تنزيل التوجيهات الملكية السامية، ومن جهة ثانية بالسرعة المطلوبة والفعالية اللازمة التي يتطلبها هذا الورش الاستعجالي. ثالثا: تحدي معالجة آثار التضخم على القدرة الشرائية: ارتفاع المستوى العام للأسعار يرتبط في العادة بعوامل داخلية وخارجية، تتسبب من جهة في ارتفاع تكلفة الاستيراد، ومن جهة ثانية بضعف أو محدودية إنتاجية بعض القطاعات الاقتصادية، وهي مجالات ذات حساسية بالغة. كما قد تتسبب فيه ممارسات لفاعلين اقتصاديين، عبر مسارعة عدد من الفئات أو المهن المنتِجة للسلع للاستفادة من المسار التضخمي لرفع أسعار منتجاتها بشكل غير مبرر وغير متناسب مع ارتفاع تكلفة الإنتاج. ويطرح هذا الوضع تحديات حقيقية وآنية أمام الحكومة في منتصف ولايتها، خاصة وأن التجارب التاريخية تؤكد لنا على أن المستوى العام للأسعار لا يمكن أن يعود لسابقه بعد مثل هاته الموجات التضخمية، لذا لا يمكننا أن ننتظر عودة القدرة الشرائية للمواطنين لسابق عهدها قبل سنة 2020 بنفس المستوى المعيشي وبذات الدخل الفردي أو دخل الأسر الذي ظل جامدا منذ عدة سنوات. وهو ما يعيد النقاش حول طبيعة وأبعاد السياسات العمومية -الاقتصادية والمالية والنقدية- التي يتعين اعتمادها وتنزيلها لمعالجة الإشكال العويص الذي يمثله التضخم، ليس فقط تأثيره الآني والمباشر على القدرة الشرائية وعلى الاستقرار الاجتماعي للمملكة، وإنما أيضا ما يمثله من مخاطر استراتيجية على القطاعات الإنتاجية نفسها على المدى المتوسط والبعيد. كما تتحمل الحكومة الحالية مسؤولية أكبر على مستوى ضمان استمرار الدينامية الاقتصادية التي تتأثر على المدى المتوسط من تراجع القدرة الشرائية للمواطنين، على اعتبار أن مستوى التضخم الحالي لم يعد في وضعية طبيعية يمكن معالجته بالانتظارية التي ستؤثر على الفئات الاجتماعية وعلى القدرة الشرائية للمواطنين على المدى المتوسط، وإنما أصبح هذا المسار التضخمي يهدد قدرة المغرب على الحفاظ على هامش الادخار العمومي اللازم لتمويل القطاع الخاص، كما يؤثر سلبا على القدرة الاستهلاكية مما يعني تعرض الإنتاج لمخاطر لاحقة أكثر حدة. لذا فإن مواجهة آثار التضخم لا يمكن أن تكون ناجعة بأدوات تقليدية وبالطرق الحالية لتدبير السياستين المالية والنقدية، وإنما باعتماد تدابير وإجراءات مبتكرة تؤدي بالضرورة لزيادة الدخل الحقيقي والصافي للأسر، ولزيادة حجم الناتج الداخلي الخام، وإعادة النظر جذريا في طرق الإنفاق العمومي وتمويل عدد من الاستراتيجيات القطاعية التي تعتبر جزءا من هاته المنظومة المتكاملة. رابعا: تحدي مواجهة مخاطر التوترات الاجتماعية: يعيش المغرب منذ أزيد من سنتين توترات سياسية واجتماعية غير مسبوقة، تعود في مجملها للصعوبات المتزايدة التي تعاني منها الأسر في مواجهة الموجات التضخمية والتآكل التدريجي والسريع للقدرة الشرائية، وذلك بسبب التضخم المستورد في جزء منه منذ منتصف 2022، واستغلال العديد من الفاعلين الاقتصاديين لهاته الظرفية لرفع الأسعار بشكل غير مبرر خلال السنتين الأخيرتين. وتسارعت هذه الموجة التضخمية مباشرة بعد انحسار آثار جائحة كوفيد وبداية الحرب الروسية على أوكرانيا منتصف سنة 2022، مما أدى لارتفاع غير مسبوق لنسب التضخم لتصل لمستويات قياسية على المستوى الدولى ، كما فاقت على المستوى الوطني نسبة 10 بالمائة أول الأمر، قبل أن تتراجع بشكل طفيف لمستوى يفوق 7 بالمائة ثم 6 بالمائة على التوالي. وهو ما يعني حسابيا بأن المستوى العام للأسعار يفوق حاليا في متوسطه 140 بالمائة المستوى الذي كان قبل جائحة كوفيد (والذي كانت فيه 2019 آخر سنة عادية)، وهو ما تسبب في فقدان ثقة المواطنين بشكل متزايد في قدرة الحكومية على التعامل مع هاته الإكراهات، مما خلق ديناميته سلبية مؤثرة على المزاج السياسي العام للمواطنين. وتعتبر هذه النسبة بمثابة المعدل العام للأسعار، في حين أن نسبة ارتفاع أسعار المواد الغذائية والأساسية والمحروقات تفوق بشكل كبير هذا المعدل، بحيث تصل إلى أزيد من 170 بالمائة بالنسبة للمواد الأساسية، وبنسبة أقل بالنسبة لمصادر الطاقة والمحروقات (باستثناء غاز البوتان لحد الآن). وقد حاولت الحكومة الحالية مواجهة ارتفاع أسعار المحروقات (والتي تؤثر بشكل مباشر في أسعار معظم السلع)، إضافة إلى إقرار الدعم المباشر لفئات من المواطنين، إلا أن هاته الإجراءات لم تكن ذات أثر فعلي ومباشر على الطبقة المتوسطة بشكل عام. وإذا كان يتعين الاعتراف بأهمية عدد من الإجراءات الحكومية التي خففت بشكل نسبي من هاته الآثار، إلا أن التحدي الأساسي في النصف الثاني للولاية يكمن في تنزيل تدابير أكثر جرأة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والمالية لرفع القدرة الشرائية للمواطنين، وإطلاق دينامية اقتصادية جديدة ومبتكرة لمواجهة حاجيات سوق الشغل. وبمقابل ذلك، تبدو الحاجة ملحة في الوقت الراهن لتسريع مسار تخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد، وقد أبانت الإجراءات الأخيرة استحسانا كبيرا وتتبعا حثيثا من قبل الرأي العام لمسار قضايا الفساد التي فتحتها بعض محاكم المملكة. كما فتحت التقارير الأخيرة للمجلس الأعلى للحسابات نقاشا عموميا موازيا بخصوص فضائح التدبير المالي لبعض الأحزاب السياسية، مما يعكس الحاجة لمأسسة هذا النقاش العمومي وتوسيعه ليشمل المجالات الموضوعية الكبرى لتدبير الشأن العام، ومنح انطباع حقيقي للمواطنين بخصوص جدية المؤسسات (وضمنها الحكومة) لتخليق الحياة العامة بغض النظر عن انتماء بعض المتابعين أو الهيآت المعنية، مما سيؤدي لزيادة منسوب الثقة بشكل كبير في المؤسسات، ويسمح بتقليص مساحة الانطباع السلبي العام الذي ذكرناه آنفا. كما يتطلب الأمر انفتاح أكبر للبرلمان المغربي على المؤسسات الدستورية الأخرى، وخاصة المجلس الأعلى للحسابات ومؤسسات الحكامة والوقاية من الرشوة، ووجعل تقاريرها أساس النقاش البرلماني وموضوع مراقبة العمل الحكومي وتقييم السياسات العمومية. فأمام تآكل القدرة الشرائية للمواطنين وفي ظل الانطباع العام بتفشي الفساد، فإن هذه التوترات الاجتماعية قد تتصاعد بشكل أكبر خلال الفترة المقبلة، ولن تتمكن عندها إجراءات الزيادة العامة في أجور القطاع العام كافية لمواجهة الاحتقان المجتمعي. خامسا: تحدي إطلاق دينامية جديدة للاقتصاد الوطني: إن استمرار المستوى العام للأسعار فوق المستويات المتحملة من قبل الاستهلاك الداخلي سيؤدي لا محالة لتزايد مخاطره أيضا على الاقتصاد الوطني وعلى المالية العمومية خلال السنوات المقبلة (وليس فقط على القدرة الشرائية للمواطنين). فاستمرار المستويات العليا من التضخم عادة ما يؤدي خلال السنوات اللاحقة لتراجع حاد في القدرة الاستهلاكية، ونحن نعلم أن الطلب الداخلي يشكل أزيد من ثلثي دينامية النمو الاقتصادي للمملكة. فتراجع الاستهلاك تدريجيا وبشكل مستمر سيؤدي لتزايد مخاطر الانكماش الاقتصادي، مما يؤدي بشكل مباشر لتراجع الطاقة الإنتاجية للقطاعات الاقتصادية الرئيسية، خاصة مع تزامنه مع تراجع مقلق للطلب الخارجي، مقابل استمرار الارتفاع الكبير لأسعار النفط وعدد من المواد الأساسية على المستوى العالمي. وهذه الوضعية قد تجعل الاقتصاد المغربي على حافة الاستنزاف الكلي للطاقات وللإمكانات المتاحة Potentialités، بما ينذر بدخوله في دورة انكماش قد تستمر لعدة سنوات وتستنزف أيضا القدرات المالية والاقتصادية والاجتماعية للمغرب. وهو ما يطرح تحديات استثنائية كبرى على الحكومة الحالية، خاصة في أفق مساهمة المغرب في الإعداد للتنظيم المشترك لمونديال 2030. وإذا كان إطلاق ورش دعم اقتناء السكن أحد الآليات الفعالة للمساهمة في إطلاق دينامية إنتاجية جديدة، خاصة وأن ما ستصرفه الدولة على الدعم المباشر لاقتناء السكن الرئيسي للأسر سيمكّن من إنعاش غير مسبوق لقطاع البناء والأشغال المرتبطة به؛ إلا أن هذا المنحى لن يكون لوحده كافيا لمواجهة تحدي إطلاق دينامية اقتصادية متكاملة. لذا فإن تحديات أكثر خطورة تبدو جليا، سواء تعلق الأمر بارتفاع تكلفة مصادر الطاقة، أو تأهيل القطاعات الإنتاجية الرئيسية لمواجهة الصعوبات المتنامية على مستوى التجارة الدولية. إضافة إلى تحديات إعادة التركيز على آليات إدماج القطاع غير المهيكل، وتوسيع قاعدة التحول الصناعي، وتمكين الفاعلين من الولوج للمحتوى الرقمي بشكل أسرع من الوتيرة الحالية. سادسا: تحدي ملاءمة المنظومة التعليمية لحاجيات سوق الشغل: إذا كانت الدينامية الاستثنائية التي أصبح يشهدها القطاع الصناعي منذ عدة سنوات قد بدا أثرها بشكل واضح، وهو المجال الذي يسمح بشكل فعال ببناء قطاعات اقتصادية قادرة على خلق قيمة مضافة عالية داخليا وعند التصدير، إلا أن الإشكال الأساسي الذي يواجه القطاعات الاقتصادية الرئيسية لا يزال يكمن في ضعف قدرتها على خلق مناصب الشغل الكافية لامتصاص الحاجيات المتزايدة. إذا كان دعم القطاع الفلاحي يضمن الأمن الغذائي نسبيا ويحافظ على سوق الشغل بالعالم القروي يبقى ذا طابع استراتيجي وحيوي، فإن رفع دينامية القطاع الصناعي تعتبر بداية فعلية لإعادة صياغة نموذج نمو جديد ومستدام، وأن تساهم بشكل أكبر في نمو الاقتصاد الوطني. إن معضلة التشغيل تعتبر تحديا ذا طابع أولوي واستراتيجي أمام الحكومة الحالية في منتصف ولايتها، ولا يمكن حصر هذا الإشكال في قطاع وزاري بعينه ولا في في مسؤولية جهة محددة، لأن التشغيل ذا طابع أفقي يتقاطع مع جميع القطاعات الإنتاجية، ويرتهن للسياسة التعليمية من أساسها، ويرتبط أيضا بالسياسات الاقتصادية المعتمدة. فالقطاع الفلاحي لا زال مهيمنا على مستوى مناصب الشغل المحدثة بالعالم القروي، والقطاع الخدماتي لا يستطيع بشكله الحالي مواجهة الحاجيات الكمية لسوق الشغل. في حين أن القطاع الصناعي له حاجيات نوعية وذات طبيعة خاصة ترتبط عمليا بمنظومة التكوين المهني بمستوياته المختلفة. وفي هذا الإطار تبرز الاهمية البالغة للتعليم وللتكوين المهني باعتباره أساس ضمان التشغيل المتخصص والمستدام، وخاصة في المجال الصناعي الذي يعتبر رهانا استراتيجيا للمملكة. فلا يمكن السير بعيدا في التصنيع وفي تطوير الاقتصاد الرقمي بمنظومة تعليمية تخرج فئات غير مناسبة لحاجيات هذه المجالات. ويبقى على عاتق الحكومة تحدي كبير يتمثل في وضع برامج العمل وترجمة هذه الحاجيات لتدابير عملية وإجراءات آنية تعالج تدريجيا اختلالات منظومتنا التعليمية. فتطوير الصناعة والاقتصاد الرقمي يتطلب بالضرورة تأهيل الشباب لولوج سوق لاشغل بتخصصات صناعية وخدماتية عصرية، عوض الاستمرار في ظل المنظومة الحالية التي تساهم في تعميق أزمة البطالة مقابل الخصاص المسجل في اليد العاملة المتخصصة. سابعا: تحدي إنجاح استرتيجية التماسك الاجتماعي: يعتبر التقليص من الفوارق الاجتماعية ومعالجة اختلالات القطاعات الاجتماعية هدفا استراتيجيا للحكومة في الوقت الراهن، وهو المجال الذي أصبح يصنف ضمن التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة. ويعتبر الاستمرار في دعم القطاعات الاجتماعية وترسيخ البعد الاجتماعي للعمل الحكومي أحد النجاحات المرحلية للتدبير الحكومي، بحيث تم اعتماد تمويل دائم لصندوق التماسك الاجتماعي، وتوسيع قاعدة المستفيدين من برامج الدعم والحماية الاجتماعية، وهي إجراءات استراتيجية لم تعط حقها من التسويق الإعلامي. لكن بالمقابل يبقى التحدي الأساسي متمثلا في معالجة الاختلالات التي تشوب عددا من البرامج الاجتماعية في حين يعتبر السجل الاجتماعي الموحد أحد الأوراش الكبرى التي تشتغل عليها الحكومة على المستويين القانوني والميداني، خاصة وان خطورة ضبط الإحصائيات وتدقيق قاعدة البيانات ستصبح تحديا أكثر أهمية من التحدي القانوني والتنظيمي في حد ذاته. ومن شأن إنجاح هذا الورش الاستراتيجي أن يعالج الإشكالات التي تعاني منها مختلف البرامج والسياسات العمومية الاجتماعية الأخرى (برنامج راميد، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، دعم الأرامل، برنامج تيسير، الاشخاص في وضعية إعاقة...)، كما يفترض أن يضع منظومة ذات وثوقية لتنزيل سياسات اجتماعية جديدة تستوعب إكراهات الدعم المباشر للفئات الهشة من الأسر، ووه الورش الذي بدأ تنزيله فعليا رغم الصعوبات التي تحيط به. وهذا هو التحدي الاساسي أمام الحكومة فيما تبقى من سنوات تدبيرها للشأن العام، خاصة وأن الإشكالات الأساسية التي تواجه برامج الدعم المباشر والحماية الاجتماعية قد تجعل تأثيرها جد محدود على الفئات المستهدفة إذا لم يتم الانتباه للتدابير الكفيلة بإنجاحها، مقابل تنامي الإكراهات المرتبطة بتمويلها أو بتنزيلها على أرض الواقع. ثامنا: تحدي معالجة اختلالات المالية العمومية: إن التحديات التي تواجهها المملكة لم تعد مقتصرة على فترات محدودة أو مؤقتة، وإنما أصبحت التحديات متتالية وذات طابع دائم. وحجم التحديات والإكراهات لا يمكن مواجهته بالتدبير التقليدي للشأن الاقتصادي والمالية العمومية. وتبر في هذا السياق مخاطر استنزاف وعلى الرغم من محاولات الحكومة ضبط عجز الميزانية في نسب مقبولة أو التخفيف من تأثير الظرفية الحالية عليها، إلا أن استمرار هذا العجز بنسبه الحالية يشكل خطورة على المدى المتوسط والطويل، لان العجز يعني اللجوء للموارد الاستثنائية وخاصة الاستدانة، مما يؤدي لتراكم تصاعدي لحجم ونسبة الدين العمومي. فعجز الميزانية كان منذ سنوات في حدود 3,6 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، ليرتفع في جائحة كوفيد لأزيد من 7,8 بالمائة سنة 2020 ثم 5,5 سنة 2021، ليتراجع بعدها نسبيا في حدود 5,2 ثم 4,5 بالمائة خلال سنتي 2022 و2023 على التوالي. غير أن هذه النسب تعكس أرقاما مهولة لعجز الميزانية بقيمة تتجاوز 73 مليار درهم خلال السنتين الأخيرتين، وهو ما يفاقم صعوبة التحكم في التوازنات المالية بالمملكة. ورغم التراجع النسبي لحدة عجز الميزانية إلا أن استمرار هاته المستويات المرتفعة يطرح تحديا حقيقيا يتمثل في مخاطر استنزاف المالية العمومية على المدى المتوسط. وهذا الوضع عادة ما يضغط بشكل سلبي على السياسات الاقتصادية والقدرة على تمويل الاستراتيجيات القطاعية لأية حكومة. فتدابير وإجراءات وقف نزيف المالية العمومية، وتقليص العجز الميزانياتي، قد تصطدم مع مسار إعطاء دينامية جديدة للاقتصاد الوطني عبر دعم المقاولات وتحفيز الاستثمار. ولمواجهة عجز الميزانية فإن الحكومة قد توجد في موقف حساس، إذ ستكون مضطرة إما للجوء لزيادة الموارد العمومية من خلال رفع الضرائب (وهو ما يمثل ضررا مباشرا بالمقاولات وباستهلاك الأسر) أو لتخفيض الإنفاق العمومي (بما يعني نوعا من التقشف). في حين أن تحفيز وتأهيل الاقتصاد ودعم الاستثمار يقتضي خفض التكاليف الضريبية والاجتماعية عن المقاولات (بما يفيد تقليص الموارد العمومية) وضخ موارد مالية إضافية لدعمها ماديا (بما يعني بالمقابل وزيادة الإنفاق العمومي). ووجود الحكومة الحالية أمام هذين المسارين المتناقضين يجعلها أما تحدي حقيقي يتمثل في تحقيق أقصى حد من التوازنات المالية الداخلية، مقابل الاستمرار في تحفيز الاستثمار ودعم المقاولات وتعزيز النمو الاقتصادي للمملكة. تاسعا: تحدي التحكم في مخاطر التوازنات المالية الخارجية: تعتبر التوازنات المالية الخارجية من أهم المؤشرات التي تؤثر سلبا في الاقتصاد الوطني، ووضعيتها السلبية لا تقل خطورة عن تأثير نزيف المالية الداخلية، بل إنها تعتبر في الكثير من الحالات أشد خطورة من باقي المؤشرات. فاختلال التوازنات الخارجية تعني بشكل مباشر استنزاف الاحتياطي من العملة الصعبة (وهو ما تم تسجيله عمليا منذ أزيد من سنة)، وبالتالي إضعاف قدرة الدولة على الاستيراد وعلى أداء الديون الخارجية، مما يعني انعكاسا سلبيا مباشرا على الاقتصاد الوطني. وعادة ما تلجأ الحكومات في هذه الحالة للاقتراض من السوق الدولية التي عرفت أسعار فوائدها تراجعا كبيرا خلال السنوات الأخيرة، لكن خطورتها الاستراتيجية تبقى مطروحة بشكل جدي، مما يطرح تحديا آخر على الحكومة مواجهته وعدم التغافل عنه كما كان يتم في السابق. وهنا تكمن صوبة التحديات التي تواجهها الحكومة الحالية على هذا المستوى، إذ أن استمرار الارتهان للاستدانة من الخارج تتسبب في مخاطر حقيقية على المدى المتوسط، في حين أن مجهودات تقليص نسبة العجز التجاري -رغم أهميتها الكبرى- لا تكفي لوحدها لمعالجة هذه الإشكالات، ولابد بالتالي من مراجعة طرق تدبير المحفظة المالية للدولة من أساسه لتفادي مخاطر الاخطاء الماضية على هذا المستوى. كما يتعين الاهتمام أكثر بالمغاربة المقيمين بالخارج وتشجيعهم على الاستثمار في المغرب عبر إجراءات تنظيمية وضريبية تحفيزية، عوض الاقتصار على استقبال تحويلاتهم من العملة الصعبة ،وإن كانت هاته التحويلات ذات الأهمية البالغة قد مكنت المغرب من معالجة جزء كبير من الإشكال المرتبط باستنزاف الواردات للاحتياطي الوطني من العملة الصعبة. وبالتالي فإن الحكومة مطالبة في النصف الثاني لولايتها بتسريع التحول الرقمي وجعله أساس دعم وتحفيز المهن والقطاعات الإنتاجية، ورفع منسوب التحول الطاقي الذي يعتبر أحد التوجهات الاستراتيجية التي تشتغل عليها أعلى سلطة في البلاد. عاشرا: تحدي مخاطر حجم وتكلفة الدين العمومي: إن المستوى الذي بلغته موارد الدين العمومي أضحت تطرح تحديات حقيقية أمام الحكومة في منتصف ولايتها، إذ بلغت موارد الدين العمومي ما يعادل %40 من الموارد العادية للدولة، في حين أن نفقات الدين العمومي (خدمة الدين وأقساط استهلاك أصل الدين) بدأت في الارتفاع بشكل مقلق منذ عدة سنوات، بحيث أصبحت تستنزف جزءا كبيرا من الموارد العمومية. فقد وصل المعدل السنوي لنفقات الدين العمومي لأزيد من 70 مليار درهم قبل عدة سنوات، لتصبح في حدود 100 مليار درهم سنويا منذ 2020، وهو ما يمثل قرابة %10 من الناتج الداخلي الخام، ويستهلك قرابة %40 من الموارد العادية لميزانية الدولة. وعلى الرغم من أن السنوات الأخيرة عرفت انخفاضا ملموسا في تكلفة الاستدانة نتيجة تراجع معدلات الفائدة، إلا أن هذا التراجع يبقى ذا طبيعة هامشية وليست حدية، بمعنى أن التراجع الجزئي في تكلفة الدين العمومي (على مستوى خدمة الدين) يقابله ارتفاع أعلى قيمة في مجموع نفقات الدين العمومي بإدراج استهلاك أقساطه. يعتبر الدين العمومي من أخطر الإشكالات المالية والتدبيرية التي تواجهها الحكومة، ويعتبر في عمومه نتيجة تراكم عجز الميزانية على المستوى الداخلي، والعجز المزدوج للميزان التجاري وميزان الأداءات على المستوى الخارجي. وكلما ارتفع حجم الدين العمومي إلا وزادت صعوبة الوضعية المالية والاقتصادية إضافة إلى الحاجة المتزايدة أيضا للتمويل، نظرا لارتفاع التكلفة المالية لخدمة الدين العمومي من جهة، واضطرار الدولة المستدينة لإتخاذ إجراءات قاسية بهدف رفع الضرائب أو تخفيض الإنفاق العمومي، وكلاهما مضر بالقطاعات الاقتصادية والاجتماعية. وإذا كان هدف التقليص من حجم الاستدانة يعد بمثابة هدف استراتيجي لأية حكومة، فإنه يستوجب الوضوح في تحديد الآليات المعتمدة لتحقيق ذلك، خاصة ضمن قانون المالية السنوي الذي يعد الإطار القانون الوحيد الذي يسمح بذلك. وهذه المخاطر الحقيقية تطرح تحديا أمام الحكومة، مما يستوجب معه اعتماد إجراءات استراتيجية لتقليص حجم الدين العمومي الخارجي والداخلي، وذلك عبر سياسات اقتصادية ومالية ناجعة، ومراجعة مركبات النمو الاقتصادي، والبحث عن بدائل حقيقية على مستوى التجارة الدولية.