اتضح الأن أنهم كانوا "غير مقصرين بينا". عندما نسمع الكلام السيء الذي يدور بين عباس الفاسي الوزير الأول السابق وبين وزيره في المالية في الحكومة السالفة صلاح الدين مزوار نفهم فعلا أن السياسة في المغرب لا أخلاق لها, وأن شعبنا عندما نفض منها يديه تماما لم يكن مخطئا تماما, لأن من يمارسونها عليه يختارون فعلا أسوء السبل لهذه الممارسة, بل ويبدون كما لو كانوا يقومون بالأمر عنوة وعن سبق الإصرار والترصد مثل المجرم الذي يرتب بعناية تامة جريمته قبل أن يقدم على ارتكابها. المتتبع العادي للنقاش الرديء الدائر عن بعد بين الوزيرين السابقين سيتساءل ولاشك عن علاقتهما سابقا حين كانا في نفس الحكومة, مثلما سيتساءل عن الطريقة التي يمكن بها أن تنجز هذه الحكومة برنامجا حكوميا موحدا وتنج فيه وتطبقه, وتصل إلى نتائج إيجابية فيه تسعد بها هذا الشعب, والحالة بين وزرائها بهذاالشكل, ودرجة الاحترام بين الوزير الأول الذي يفترض أنه يرأس الحكومة, وبين وزير قوي من وزرائه يشغل حقيبة المالية, هي درجة تلامس الصفر بل ربما لاترقى إليه في بعض الأحايين؟
ليسد لدينا جواب, لكن لدينا شبه اطمئنان أن ما كان يجمع مزوار بالفاسي لن يتكرر في الحكومة الحالية بنفس القدر من الحدة على الأقل, إذ هي الأخرى تتضمن "اشتباكات" لا معنى لها, بين الوزراء "الطبيعيين" القادمين من الحزب الذي حاز الرتبة الأولى في تشريعات 25 نونبر, وبين وزراء غير طبيعيين نهائيا قادمين من الحركة الشعبية ومن التقدم والاشتراكية, وهو ما قد ينتج لنا في المستقبل بعض انفراط عقد هذه الحكومة إثر انتهائ ولايتها _ لا لشيء آخر _ نقاشا من نوفس النوع الذي نتابعه بين مزوار والفاسي هذه الأيام.
هي لعنة السياسة في المغرب أن أصبحت مرادفة في أذهان الناس للعبة غامضة حقا بين أشخاص يتدارسون كل التفاصيل الغامضة فيها, ولا يعلنون للشعب إلا الخطوط العريضة التي لانرى منها في الختام إلا الضباب طالما أن الأيام تفضح هؤلاء وتظهر تهافتهم الكبير. لذلك هل نستغر فعلا أن يرمي المغاربة كتلة النار هاته بين أيدي الإسلاميين مثلما فعلوا في الانتخابات الأخيرة؟
ليس مستغربا نهائيا هذا الأمر, وليس بدعا نهائيا من الفعل, لكنه خطير للغاية, لأنه يدل على وصول خيبة أمل الناس في هؤلاء السياسيين إلى حد يجعل شعبا متسامحا ومتفتحا مثل الشعب المغربي يعلن في استطلاع الرأي الأخير الذي نشرته إحدى المجلات أن اختياراته أصبحت بشكل نهائي اختيارات تسير في اتجاه التطرف لئلا نقول متطرفة ونقفل كل هذا النقاش وإن بشكل معيب ومختزل للغاية. بل وأكثر من استطلاع الرأي هذا, تبدو الانتخابات الأخيرة التي أعطت العدالة والتنمية الرتبة الأولى _ وبغض النظر عن استحقاق هذا الحزب لهذه النتيجة من عدمه, وهو ماستؤكده الأيام وحدها _ أوضح مؤشر على أن من خططوا لسياستنا المحلية منحدراتها الكبرى منذ سنوات عديدة, لم يدرسوا السيناريو جيدا, ولم يتوقعوا أن يوصلوه إلى مفترق طرقه الحقيقي الذي نوجد فيه جميعا الآن.
غدا أو بعد غد وبعد أن "تستنفذ بطارية البيجيدي" مثلما كتب الباحث الأمازيغي أحمد عصيد, هل سيكون بمقدور هذه الطبقة السياسية المكونة من الأحزاب الأخرى أن تمثل بديلا للناس, أو أن تفتح لهم أي أفق انتظار كيفما كان نوعه؟ من الصعب الإجابة الحاسمة من الآن, إذ قد تبو ظالمة, لكن من الصعب أيضا عدم التعبير عن الشك الكامل في المسألة, وتوقع أن يكون أفق انتظار الناس من نوع آخر مخالف تماما.
لكي نقولها بصراحة, سيكون أفق انتظار أكثر تطرفا. فلعبة الانزلاق نحو تبني الرؤية الدينية للسياسة ابتدأت في كل الدول التي جربتها بفكرة المعتدلين في الحكم لتفادي الوصول إلى ما هو أسوء, وانتهت نهايات مختلفة التطبيق, لكنها في الفكرة تتفق كلها على أن فتح الباب للمرة الأولى, يجعل من المستحيل تماما لعملية الإقفال أن تتم بعده. بلغة مباشرة وأكثر صراحة, لن يقبل المغربي في الانتخابات المقبلة معارضة تشكل له بديلا مقبولا للعداللة والتنمية من بين هاته الأحزاب الموجودة حاليا, وسيختار هذا الأفق البديل بين "العدل والإحسان" إذا ماكانت باقية حينها, أو بين تيارات أخرى أكثر تطرفا تنتمي لنفس السياق الذي يبدو أنه الموضة الآن, والصرعة اللابد من اتباعها إذا ما أراد المرء ألا يبدو خارج السياق تماما.
لهذه النقطة بالتحديد, تبدو مهمة بنكيران ومن معه في الحكومة الحالية خطيرة للغاية, وأساسية, ويجب أن يتمنى لها المغاربة كلهم _ بمن فيهم من يعارضون التيار المحافظ الذي يقودها _ النجاح, لأن بدائلنا ضاقت إلى حد كبير بفعل لعبة قتل السياسة والسياسيين التي استمرت لسنوات عديدة إلى أن أنتجت لنا انقراض هذه الفئة نهائيا, وتوفر نوع واحد في السوق قد لايكون النموذجي في نهاية المطاف, لكنه فعلا "هو اللي عطاه الله والسوق, ومول المليح باع وراح".
من نلوم في خلاصتنا الحالية التي وصلنا إليها اليوم؟ لن نلوم أحدا. علينا فعلا لوم أنفسنا جميعا. فمن لايمارس السياسة, تمارس عليه. هذه الحكاية معروفة منذ الزمت القديم.
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق بعد حضوره لمهرجان مراكش هذه السنة كتب الكاتب الساخر نيكولا بودوس, إبن الساخر الكبير والمشهور, على حائطه في الفيسبوك "عاش المغرب, عاش المغاربة". نيكولا الذي أًصبح نجما فعليا في المشهد الثقافي والإعلامي الفرنسي خلال السنتين الأخيرتين عاش في مراكش أجواء مهرجان مراكش السينمائي, لكنه عاش أساسا أجواء الالتقاء بالمغاربة بالبسطاء في أزقة وحواري المدينة, وقد تمكن المراكشيون من أسر الرجل بطيبوبتهم وإقبالهم على الحياة رغم الفقر ورغم المشاكل ورغم كل شيء. تلك العبارة التي كتبها نيكولا بكل صدق الكون على موقعه في الفيس تقول الشيء الكثير عن قدرة ناسنا على نيل الإعجاب بحياتهم, وعن قدرة هذا البلد على البقاء نموذجا فريدا إلى آخر الأيام.