مع تحيات المبدع عبدالله عدالي الزياني الفصل الخامس آه يا بويا و يا بويا و يابّا! رحيلك أحدث الشروخ و الشقوق في روحي. بعد رحيلك لم يعد لي قرار و لا استقرار! فقدت كل شيء، الأرجل و الأجنحة و الروح و الرغبة في الحياة. فقدانك أفقدني الأصل و الهوية. حتى اسمك انمحى ولم يعد منك إلا تلك الكزمة الهائلة من الأحجار والتراب الضائعة المنسية في مكان ما من الأرض التي شيدت عذابك وآلامك في مسيرتك الطويلة التي تستمر في وأنا حي وتستمر فيك و أنت ميت! حكاية أبي مأساة طويلة، يشهد بذلك الشروق والغروب ونجمة الصبح الساطعة وأيام الصهد والشرڭي والقر والزمهرير. لم يكن أبي ينام ولذلك فهو شاهد على دورة الأيام و الليالي التي تمر ببطء رهيب مساهمة في نسج المحنة والقهر. يقول أبي، إذا نمت تموت.إذا أردت أن تبقى حيا عليك أن تبقى مفتح العينين. لا رحمة في الأرض ولا نجدة من السماء. واش يكفاك ما تستغفر الله يا اللي بايت بلا عشا! حكاية أي مأساة وصبر كأيوب والديدان. عندما يتحدث يتكلم في همس هادئ وابتسام واستسلام واضعا يده العريضة على خده الأيمن وكأنه يقول، اللهم إن تلك مشيئتك فماذا نستطيع أن نفعل لدفع المكتوب. اللهم لا مرد لقضائك. استعيد قدر أبي فتسيل دموعي أمطارا، فأنا وريثه في قدره ومأساته. ما أبشعها أقدارنا أنا و أمي وأبي! حديثه الذي يبدأه بالهمس وينهيه بالاستغفار والتنهد، يصيبني بالإحتراق وأقول في داخلي، لو تجسدت لي آلام أبي لخنقتها حتى الموت. لو كنت هناك أيام قهره لأمرته أن يذبحني قربانا لقدره عله يرحمه! استغرق في وثنيتي ويسافر بهمسه في أيامه الطويلة كالطريق إلى النجوم. سفر في الأشواك الإذلال والمهانة. أسفار أيام الفقر والقحط واليتم والقساوة. بين البقاء والفناء، بين الدنيا والآخرة، بين كل محطة وأخرى، لا يوجد إلا اليأس والبؤس والحلم الميت. في تلك الغرفة الطويلة الشبيهة بدروب مراكش القديمة، يجلس أبي ممدا رجليه على الحصير ويده اليمنى على خده وباليسرى يرسم في الهواء حركات وتعابير يكمل بها لغة حكيه. يكون اخوتي قد تمددوا مصطفين على الحصير المغطى بتلك الزربية الثقيلة التي تضم كل الألوان، تتصاعد روائحهم ويتنفسون بصوت مسموع، وتكون أمي قد تعبت من رحلتها الطويلة من الفجر إلى أواخر الليل فأسندت رأسها إلى الوسادة المحشوة بالقطن، بعد أن توقفت طرقات الزبائن على نافذة الحانوت والكلب بوبي يستلقي على الهيضورة التي افرشتها له قرب باب الدار الكبيرة حارسا البقرتين المستلقيتين في استرخاء في الباحة العريضة والجواد الأدهم، كان أبي يحب الخيل، ينفر بمنخريه كلما علقت بهما قشة من التبن الذي يلوكه ببطء واستمرار وهو واقف دون كلل. جلسة أبي المفضلة هي مواجهة باب الغرفة الذي يمكنه من مراقبة باحة الدار الواسعة. يكون جلوسي في مواجهته وأنا أستند إلى دفة الباب ذات الخشب العتيق الذي يسميه، الڭايزة، وقد جلبه من سيدي مومن أثناء الرحلة التي سماها الرجوع للأهل والبلاد. تكون الجلسة الليلية الشبيهة بالمحاكمة، جلسة العقاب و الحساب، قد انتهت بالشجار وتبادل النعوت بينهما ينهيها بضحكته المسالمة المعتادة ويصيح ضاحكا: - وهذي ڭولو ليها تمشي تبعد مني عند أهلها! تجيب امي مبتسمة مدارية غضبها: - سبعين عام ولا كثر ونمشي عند اهلي؟ هذ لولاد شكون لي ولدهم ليك؟ يجيب بسخرية: - ما ولدت إلا أنت والحمارة!! ونغرق جميعا في ضحكاتنا العميرية المجلجلة التي تهتز لها الجدران. يا ليت ضحك الزمن العميري يعود لتلك الغرفة العميرية المعتمة الشبيهة بدروب المدن القديمة. بعد العشاء، عندما تتوقف طرقات الزبناء على نافذة الحانوت في ليل مقمر و صامت، تتلألأ النجوم و يصمت نباح الكلاب دلالة على خلوّ الدنيا من أهلها. يقول أبي: -وا بنت امباركة أحمد آجي اندوزو على الكناش! كنت أسميه سجل القيامة، ذلك الدفتر المنفوش الأوراق المكتوب بكل اللغات إلا لغتنا و الأرقام الغريبة التي لا تشبه أرقام الهنود أو الرومان أو العرب. سجل الزبناء الذين يستدينون من الدكان يكتب أسماءهم بتلك الحروف الغامضة قد تكون اليونانية أو المسمارية أو الهيروغليفية. قد تكون أية لغة إلا ما نعرف. لم يتعلم أية لغة و لكنه يكتب أسماء زبنائه بأشكال تتفتق عنها عبقريته الفطرية، عندما يكتب اسما مثل صالح أو محمد، تجد مجموعة من الصور لأطباق و مطارق و مناجل و حتى أحذية...أمزح معه و أقول: -و فين هب الصاد ديال صالح أبّا؟ ينتزع الكناش من يدي ضاحكا: -آش من قراية قرايتو؟ ها الصاد! و يضع رأس القلم على شكل يشبه بطيخة. أجيبه ضاحكا: -هذي ماشي الصاد أبّا! يقول محتجا: -علاه مالها آش خاصها؟ و يحسم النقاش بضحكة عالية شبيهة بانهيار جدار: -شوف أسيدي، كُلاّ يقرا في لوحتو! أنت ما تقرا قرايتي و انا ما نقرا قرايتك! و صلى الله عليه و سلم. و تجلجل قهقهاتنا في ليل منير. الغريب أن أبي لم يخطئ قط قراءة رموزه الغريبة. و قد وجدت طريقة أستطيع بها المحافظة على أسماء المديونين بكتابة أسمائهم دون المساس بلغته المقدسة تحسبا للظروف. أرقامه الغريبة كان لها شكلها الخاص. رقم واحد يشبه عمود التليفون و رقم سبعة عمود التليفون في رأسه شكل معكوف كالمنجل و أحياني نصف دائرة بحزام من الوسط. رقم ثلاثة تتجه أنصاف دوائره إلى اليمين بدل اليسار مثلما يكتب رقم أربعة بالأرقام الهندية. و لله في أبي شؤون! يقول لنا أن أمه أخذته إلى الجامع و قالت للفقيه: -قرّي لي ولدي الله ينورك! جلست أمامه و أنا أمدد رجلي. صاح فيّ: -جمع رجليك يا ولد الكلبة و ڭول الليف! أجبته: -لاّ!! كررها عدة مرات و أنا أجيبه؛ لاّ!! زمجر فيّ و دفعني حتى استلقيت على قفاي و صاح: -نوض الكلبة تاعت أمك عطيني التيساع!! و كانت تلك البداية و النهاية. سألتني أمي : -علاش ما ڭلت الليف ورا الفقيه؟ قلت لها: -إذا ڭلت الليف يڭول لي زيد حرف البا! وانا ما باغي نڭول لا الليف لا البا! يبلل قلم الرصاص بريقه و يبدأ في قلب أوراق سجل القيامة ذاكرا الأسماء واحدا بعد الآخر: - حمادي علال. تجيب: - لا زيد. -قدور بن امحمد. تجيب: -نص قالب سكر و رابعة تاي نميلي (مسحوق) بغا زيزوار ( شفرة حلاقة) ڭلت ليه لا، زيزوار حتى هو نحطوه في الكناش. و مشى غضبان. -يغضب!! ينظر إليها في يأس و يحرك رأسه في استسلام و يستمر في استعراض الأسماء. -المعطي بن علال. تجيب: -باكية لابّيك (علبة سجائر أولمبيك) و سيبرو (حبوب أسبرو) لاطا سرديل، قرطاص تاع الشمع، نفاخة حمرا لولدو كان معاه! يتوقف أبي عن كتابة أرقامه الغريبة و يضع قلم الرصاص على الكناش المنفوش الأوراق، ينظر إليها في شزر و يقول في صوت بارد غاضبا: -قدور بن امحمد ولد الدوار ما اعطيته زيزوار. و هذاك من اولاد عياد اعطيتيه نفاخة لولدو ثمنها أقل! و أنتِ راعي شوية! تستعد للهجوم المضاد بأسلوبها المقارن و حججها التي تحتفظ بها سنين لتعاقب بها الذين لا تحبهم. صاحت: -هذاك كيخلص. لاخر كيتلوى بحال الحنش! و هذا الحق! يحرك رأسه في يأس و هو يعرف أنه لم ينتصر عليها أبدا في حروبها الكبرى و الصغرى. يستمر في مناداة الأسماء قارئا إياها من سفره الغريب ذي اللغات المختلفة التي لا يعرفها إلا الله سبحانه. -حمادي بن الجيلالي. تصرخ بأعلى صوتها حتى يتململ إخوتي في الفراش فزعا: -هذاك باقي في الكناش!؟ خذ باكية تاعت الدخان شهر هذا. ما خلص ما بقينا نشوفوه! غدا نمشي ليه حتى لدارو. حنا ما عدّنا شركة! هذاك الغار عدنا فيه سليعة ناكلو منها الخبز. يرفع إليها رأسه في يأس قائلا: -نعلي الشيطان! الراجل مريض أكثر من شهر، منين يخلص؟ اللي غلب يعف! تجيب في حقد: -اجمافو عليه! يخلص و صافي! و من يستطيع إقناع أمي التي تبحث عن العقاب حتى في قاع الأرض؟ يحدق فيها بأسى و يقول بهمس: -الراس اللي ما يدور كدية و سبحان اللي خلق و صور! تنفجر بالضحك و أنا أنظر إليها مبتسما. تلك أمي التي تخوض الحروب في جميع الجبهات العادلة منها و الظالمة في مواجهة أبي المسالم الذي يبحث عن ذرائع يعلن بها تسامحه و تنازله إن اقتضى الأمر. تتكرر جلسات الكناش في كل ليلة في حضوره أو غيابه عن البيت، مع ذلك لم تتوقف حروبها و تدخلاتها في شؤون سجل القيامة و قضايا الحساب و العقاب حتى آخر عمرها. في اليوم التالي تستيقظ كعادتها قبل صلاة الفجر في رحلتها الطويلة التي تستمر حتى آخر الليل. تكون خاتمتها جلسة الحساب و العقاب مع سجل القيامة. تشد وسطها بالشدّ الأصفر و تحضر مقراج الماء للوضوء، تكنس باحة الدار و تحلب البقرتين، تطعم بوبي و تهيئ الخبّاز على مناصب الكانون ريثما ينبلج الصبح ثم تفتح الباب الكبير و تعطي الأمر اليومي لبوبي: -بوبي!! كلتي و شبعتي، رد بالك للدجاج و الدار، تاواحد ما يدخل. يالله اخرج! تعد الدجاج بصوت مسموع بالأسماء و الألقاب، "هذي حجر الواد و الرقطا و العرجا..."و يخرج الجميع إلا الجواد الأدهم الذي كان من اختصاص أبي. المعتاد أمام الدار. يعود أبي من صلاة الفجر و الصبح و معه فقيه الدوار و شخصان آخران. تكون صينية الشاي و المسمن وجبّانية السمن قد أعدت في الغرفة الكبيرة. تعقد أمي حاجبيها و تهمس في غضب: -ديما جايب معاه الصداع. لفقيه واخا و لكن هذوك بجوج لاش. أبي لم يأكل وحده أبدا. يقول: -الڭصعة اللي يتحطو فيها جوج ليدين يتحطو فيها ربعة. و كان ذلك مشكلا آخر بينه و بين أمي التي تفسر وجود الضيوف بالاستغلال و الضحك على الدقون. لم يكن يستشيرها في استضافة من يريد فهي دائما تملك سببا أو آخر للرفض. و لما كان بوبي الحارس الرسمي الذي ينفذ أوامر أمي في الحراسة، فإن أبي الذي يكون قد أشار إلى أحد ما من نافذة الدكان أن يدخل، يخرج بنفسه لملاقاة الضيف و حمايته من هجوم الكلب الذي لا ينج من هجومه أحد. تحتج أمي في همس: -كايخرج راسو من ذاك الحانوت بحال الحنش و يشير لعباد الله! أبي كان عضوا في جماعة الدوار و في جماعة القبيلة و لذلك فإن تصرفه كان بدبلوماسية تاجمّاعت. يناقش بهدوء و يتحدث بهمس و يبتسم و هو يحل النزاعات القائمة بين الأفراد أو الدواوير و بين الأهل و الأزواج، شعاره؛ الله يسامح، إن الله غفور رحيم، اللي صبر يكافيه الله، الخاوة ما عندها ثمن، اللي غلب يعف. حتى الآن ما زلت أومن أن ما كان بيني و بين أبي من اتصال روحي و حب كبير، لم يوجد قط بين أب و ابن، فقد كانت أحاسيسنا تذوب معا و تتلاحم معا و نحن نتحدث أو و هو يحكي عن ماضيه الجريح و ضياعه في عالم لا يرحمه فيه أحد و لم يكن بجانبه أحد. أحيانا، يُخيل إلي أن معاملة أبي لي هي محاولة للتخلص من عقدة الذنب بسبب ما حدث لي من تعذيب الفقيه إلى تعذيبه لي و هو يضربني كما تضرب الكلاب الضالة. في زياراتي للأسرة كان عناقه لي عناقا حارا مرفوقا بالدموع و الشهقات و هو يهمس: -تعطلت علي أبّا! كان يخاطبني، أبّا و أناديه، أبّا. في عينيه شيء دفين يتحدث لي و كأنه يقول: "سامحني يا ولدي، فأنا لم أكن أدري أنه سيحدث لك ما حدث. و لم أكن أدري لماذا كنت أفعل فيك ما فعلت". فسرت لي أمي بذكائها المفرط، يوم ألقاني على الأرض في باحة الدار و حطّ رجله، و هو يرتدي البلغة، على رأسي، يضغط بحقد و يغضب و يصرخ: يتبع