لم تمض على حادثة الاعتداء الجسدي على الكاتب والروائي عزيز بن حدوش بمنطقة تازناخت جنوب المغرب بسبب روايته "جزيرة الذكور" سوى بضعة أشهر، لنتفاجأ هذه الأيام باعتداء جديد على رمز من رموز الثقافة المغربية الحديثة،يتعلق الأمر بمحاولة قتل الكاتب عبد اللطيف اللعبي في بيته وتعنيف زوجته أمام ناظريه، وكان الروائي المغربي شعيب حليفي قد صرح في لقاء ثقافي له بمدينة سطات في أوائل شهر شتنبر بتعرضه لمحاولتي فاشلتين. تجعلنا هذه الاعتداءات الغريبة والمريبة،نطرح أكثر من سؤال حول وضع المثقف المغربي ومكانته الاعتبارية والرمزية، في ظل سياسة حكومية تضع الثقافة والتربية والتعليم ضمن آخر اهتماماتها وبرامجها . والحقيقة أن هذه الاعتداءات ليست الأولى من نوعها،فهي تنضاف إلى سلسلة من الانتهاكات والسلوكيات التي تبدو في الظاهر متفرقة ومعزولة، وتصير في الباطن مترابطة ومتصلة جوهريا، بل موجّهة في ما يبدو بأياد ترفض أن يكون للثقافة والحرية دور في قيادة هذا الوطن وانتشاله من وضعية التخلف والأمية و الجهل. فقد طالعنا، قبل أيام، بيان منع نشاط ثقافي كان من المزمع تنظيمه بمدينة بنسليمان من طرف نادي القلم المغربي حول الشهيد المهدي بن بركة ومساره النضالي والثقافي والتحرري، دون أن تكلف السلطة المحلية نفسها عناء تبرير أسباب المنع وحيثياته،بل اكتفت في رفضها الشفوي بتعليل مفاده أن وزارة الداخلية هي صاحبة القرار في ترخيص للقاءٍ من هذا القبيل، وهو ما يعتبر مسّا سافرا بحق من الحقوق المقدسة للشعب المغربي في التعبير عن الرأي بكل حرية. في خضم القمع والرقابة التي صارت تستعر حدتها هذه الأيام، يستمر منع الباحث المعطي منجب-المضرب حاليا عن الطعام- من السفر للمشاركة في لقاء ثقافي دولي لأسباب واهية؟ ألا تجسد هذه الممارسات نكوصا وعودة إلى زمن ظن الجميع أنه مضى ولم يعد له وجود؟. يضاف إلى محنة المثقف ومنعه ،محن أخرى تتصل بالنشر والتوزيع والإعلام، فبماذا نفسر سلوك مؤسسة ثقافية مثل سابريس التي غدت ترفض توزيع الكتاب المغربي دون أن يتكفل الكاتب بالمصاريف المادية للنشر؟ وكيف نفسر التصريحات الممنهجة والمتتالية لوزير التعليم العالي (لحسن الداودي) التي تهاجم"الأدب والأدبيين" في لقاءاته الصحفية والرسمية؛ ألا تشكل تحريضا على الأدب وأهله؟ أم أنها مجرد أٌقوال تعبر عن جهل مطلق بدور الأدب في البناء الاجتماعي والثقافي والنفسي للمجتمع؟. وفي سياق العبث المستشري في المجال، نتساءل حول خلفيات دعم وزارة الثقافة لعدد من الجمعيات والأصوات الفنية التي تروج للرداءة الفنية والأخلاقية بملايين الدراهم،في الوقت الذي تقمع وتسجن وتمنع الأصوات الهادفة والملتزمة بقضايا الوطن والمجتمع وحريته( السنوسي /الحاقد/ مستر كريزي ...) وآخرون ؟. أمام هذا الوضع البئيس والغريب، أليس الزمن مناسبا لإعادة النظر في السياسة الثقافية لمعالجة الاختلالات الخطيرة التي صارت تنخر البنية الاجتماعية والثقافية للمغرب؟ ألا يفترض الإنصات لصوت المثقف التنويري قبل الغرق في مستنقع لا يرحم؟، ألا تحمل التصريحات التي قدمها الكاتب عبد اللطيف اللعبي بعد الاعتداء دلالات كثيرة؟ الظاهر أن الحنق والكره الذي تحاول أن تزرعه بعض الأقلام والأفواه المأجورة تجاه المثقف وصوته داخل المجتمع، بدأت تفقس بيوضه في ظل المناخ الإقليمي والمحلي. مما لاشك فيه أن تنامي الرقابة السلطوية، المادية والنفسية،تقتضي لحظة تأمل وتفكير ومساءلة؟.فمن الواضح أن جسد المثقف والثقافة أصبح مستباحا،تعبث به الأيادي الهوجاء، من كل صوب، (السلطة و الجهل والتزمت،وضيق الأفق، والانتهازية،...) إنها أمراض العصر التي ينبغي مواجهتها بشجاعة، لإنقاذ الذات المجتمعية من الانحراف والضياع، وتخليصها من اليأس الذي يريد بعض من يهمهم الأمر زرعه في قلوبنا. فهذا السعي الممنهج والساذج لإقبار صوت المثقف وتهميش حضوره وتأثيره في الساحة الثقافية والسياسية وبناء جدار فصل عنصري بينه وبين المجتمع، من طرف بعض من توهموا أنهم يمسكون بزمام السلطة،يشكل تهديدا للمستقبل الثقافي الحداثي والديمقراطي للمغرب، فالمجتمع لا يحيا بالخبز وحده، والبطالة لا يصنعها سوى الجهل،والتقدم والرقي الحضاري لا يشيّده المجتمع دون ثقافة وأدب وفلسفة وعلم، فلماذا يصر البعض على إلغاء عقل المجتمع ووجدانه وروحه وتاريخه الحي عبر العصور، أهي الرغبة في تحويل المغاربة إلى قطيع خاضع لا يفكر ولا يعارض ولا يطالب بالحرية؟ ألا تشكل الدعوة إلى إلغاء الأدب ودوره، والاعتداء الجسدي والرمزي على الثقافة وأهلها، ممارسة تنم عن رغبة بعض الجهات في تزييف الوعي الاجتماعي،ألا يعتبر منع نشاط (المهدي بن بركة) تكريسا للرأي الواحد المطلق وللحقيقة الواحدة حول قضيته، وطمسا للذاكرة والتاريخ الأصيل،لشعب ظل يحارب منذ قرون طويلة كافة أشكال الاحتواء والظلم والاستبداد؟. إننا نقف اليوم في منعرج تاريخي يفترض منا جميعا،أن نحدد اختياراتنا ومواقفنا حول السائد،لبناء مستقبل ثقافي يحقق آمال البسطاء وطموحاتهم، وهذا لا يتم دون وعي بحقيقة الواقع الثقافي الذي نحياه ونتابع تعثراته المزمنة، لأسباب واختيارات صار أغلب المنشغلين بهموم الثقافة مدركين لمراميها وانعكاساتها السلبية على مستقبل الأجيال القادمة.