ضمْنَ فعّاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب لهذه السنة، استضاف الصديق الأستاذ شرف الدين ماجدولين الشاعر والروائي عبد اللطيف اللعبي في إطار برنامج «ساعة مع كاتب». وخلال هذه الجلسة أجاب اللعبي على أسئلة شرف الدين معبّرا غير ما مرّة عن الوضع المأساوي الذي تعيشه الثقافة في المغرب، حتى لا نقول الثقافة المغربية، الذي يعرف العديد من السلبيات أبرزها «فقدان المثقفين المغاربة للحسّ الجماعي في العمل من أجل التغيير حيث صار كل مثقف منكمشا على نفسه غارقا في وحدانية قاتلة»، فضْلا عن تجاهل المسؤولين في البلاد للثقافة والمثقفين والأدوار التي يلعبونها، وكذا الأموال الباهضة التي تُصرف على مهرجانات لا طائل من ورائها من قبيِل مهرجان موازين الخ. إلى هنا والأمْرُ عادٍ، خصوصاً وأنه خطابٌ مكرور مُعادٌ من طرف الأستاذ اللعبي، وبخاصة من خلال مختلف البيانات النارية التي يصدرها بين الفينة والأخرى، وهي بيانات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، حيث أنه دائما يعيد أنّ الثقافة في بلادنا فقدتْ تلك الروح الجماعية الوهاجة التي ميزتها في أزمنة الرصاص، وقت كان المثقفون يلتئمون بصدق حول أفكار التغيير ويقودون حركة ثقافية تنطلق من صلب المجتمع وتستهدف بناه العتيقة وأشكال السلطوية الباسطة نفوذها عليه. لكن ما ليس عاديا في كلام اللّعبي هو حديثه، هو بالضبط، عن عبث ما أسماه «سوسة الفلوس» بروح الثقافة وغدت معها قيم المنفعة هي الغالبة في مجال يعادي في عمقه وبطبيعته قيم البراغماتية. يرتبط اسم عبد اللطيف اللعبي، بذلك المثقف والشاعر والروائي الذي لا يتردّد في التعبير عن آرائه ومواقفه، أدبيا وشعريا وبصورة مباشرة، كما يرتبط بمجلة »أنفاس« الشهيرة. ثمّ إن كتاباته تمثّل جزءا أساسيا من الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية، بفضل ما تتضمّنه من إضافات على المتخيّل الأدبي المغربي. لكن ما أثار استغرابي شخصيّا هو أنْ نسمع كلاما من اللعبي عن «سُوسة الفْلوس»، والأحرى أنْ يكون هو آخر من يتحدّث عنها، هو الذي قبل تعويضا محتَرما عن سنوات الاعتقال، كاملا غير منقوصٍ، بينما رفضه آخرون، أمثال الشاعر عبد الله ازريقة، كما احتسبتْ له وزارة التربية الوطنية سنوات الاعتقال بأثَر رجعيّ، خلال ولاية عبد الله ساعف. أمّا ثالثة الأثافي فهي أّنّ اتحاد كتّاب المغرب، في عهد الشاعر حسن نجمي، كان قدْ طلب من وزير التربية الوطنية تمتيع شاعرنا اللعبي، بمعيّة الرّاحل محمد زفزاف، بتفرّغ يليق بالمقام حتى يلعب اللعبي دور السفير الثقافي للاتحاد ورعاية مصالح الاتحاد من خلال الإشعاع الثقافي، وهو الأمر الذي لمْ يتحقّق، حيث انصرف اللعبي إلى إعداد «أنطولوجيا شعرية» أثارت ما أثارته من ردّات أفعال من طرف عدد كبير من الشعراء أغلبهم أحياء يُرزقون. ونأتي الآن إلى السّوسة الحقيقيّة التي اقترفها صاحب «تجاعيد الأسد»، والتي لا أظنّ أن هناك مثقفا شديد الحرص على »الانتماء إلى الوطن«، يمكن أنْ يقوم بها. وهي حين قرّر اللعبي، في سابقة خطيرة، تسليم العديد من الوثائق إلى معهد »ذاكرة النشر المعاصر« بمدينة »كين« شمال غرب فرنسا، سنة 2013 بالضبط. يتعلّق الأمْر، بطبيعة الحال، بالأرْشيف الكامل لعبد اللطيف اللعبي، والذي يتضمّن مخطوطات لمُختلف أعماله الرّوائية والشعرية والمسرحية ومذكراته، ومراسلاته العديدة، سواء تلك المتعلقة برفاقه في النضال وأصدقائه في التجربة الأدبية وأفراد عائلته، أو بزوجته جوسلين اللعبي التي تبادلها معها خلال فترة اعتقاله من 1972 إلى 1980. من حقّ كاتبنا »المغربي« أنْ يختار تسليم أرشيفه إلى أيّ جهة شاء، لكن أنْ يصدر هذا على مدافع صلب عن الثقافة المغربية، كاتب أقام الدنيا ولمْ يقعدها في الدفاع المستميت عن الوضع الاعتباري للكاتب المغربي وحفْظ التراث الفكري والأدبي، فهذا ما لا أستسيغه شخصيّا، ومن يعود إلى البيانات النارية والحماسية للعبي حول الشأن الثقافي سيصاب بالدّوار دون شكّ، هذا إذا لمْ يكفُر بمثقفي هذا البلد، اللهمّ إلا إذا كانت تلك الجعجعة ذات أهداف أخرى لا نعلمها، أو ربّما نعلمها. والأدْهى من كلّ هذا والأمرّ، هو أنّ الذين وضعوا أرشيفهم الأدبي والفكري بهذا المركز هم: جون جونيه ولويس فيرناند سيلين ورولان بارط وميشيل فوكو ومارغريت دوراس وجورج شهادي، وإيريك ساتي في مجال الموسيقى. والنتيجة لا وجود لأيّ كاتب من قارّة أخرى. لقد اختار اللعبي أنْ يدفن تراثه خارج المغرب، وهذا اختيار أقلّ ما يقال عنه أنه غير مقبول وغير مقنع. فليس من حقّنا كمغاربة أنْ نرثَ اللعبي ولا أرشيفه الذي يضمّ أيضا كل الأعمال التي أصدرها سواء باللغة الفرنسية أو اللغات التي تُرجمت إليها، وعددا من الدراسات النقدية والمواد التي كُتبت حول تجربته بشكل عام، والترجمات التي قام بها من العربية إلى الفرنسية لمحمود درويش وعبد الوهاب البياتي وعبد الله زريقة وحنا مينة وأسماء أخرى، إضافة إلى مجموعة من الملفات المتعلقة بمجلة أنفاس التي كان قد أصدرها رفقة مصطفى النيسابوري ومحمد خير الدين خلال الستينيات، وملفات أخرى عن محاكمة 1973، علاوة على وثائق ترتبط بمشروعات ثقافية وسياسية أسهم فيها اللعبي. التفسير الذي يقدّمه العقد الذي أبرمه مع معهد ذاكرة النشر المعاصر، كما يذكر الخبر، والتي يبرّر عدم اختيار اللعبي للمغرب من أجل إيداع أرشيفه، حيثُ ينصّ أحد بنود العقد على نقل الأرشيف الكامل للشاعر من فرنسا إلى المغرب في حال «تمّ خلقُ مؤسسة شبيهة في المغرب تعنى برعاية الذاكرة الثقافية المعاصرة وتمنح نفس الضمانات المتعلقة بصيانة الوثائق والمحافظة عليها». غيْر أنّ الذي لا يُفهم هو لماذا وضع كاتب مثل إدمون عمران المليح ثقته في »المكتبة الوطنية للمملكة المغربية« من أجل الحفاظ على ذاكرته الأدبية؟ هلْ أخطأ إدْمون في مغربيته؟ ألا يعرف أنّ هناك معهدا في فرنسا الحبيبة اسمه »معهد ذاكرة النشر المعاصر«، وأنه تأسّس سنة 1988، من طرف مجموعة من الباحثين والمتخصّصين في قضايا النشر، بدعم من وزارة الثقافة والتواصل، وأنّ رئيسه الأوّل هو كلود دورون، ورئيسه الحالي هو بيير لوروي. حقّا إنّه لا حقّ لنا أنْ نحتفظ بذاكرتنا هنا في مؤسسات كثيرة موضوعة لهذا الغَرض وذات مصداقيّة. أَبَعْدَ كلّ هذا يليقُ بالشاعر عبد اللطيف اللعبي الحديث عنْ البعد الثقافي الوطنيّ، وعنْ «سوسة الفلوس» التي لا تتعدّى عند كتّابنا تعويضاً عن مشاركة في ندوة أو قراءة لا يتعدّى تعويضها ألفيْ درهم في أحسن الأحوال، بينما نجهل تماما ما تقاضاه اللعبي من أموال؟