إلى احمد بوزفور والطاهر حمزاوي أحمد شاب داكن السمرة، متيم بقريته الوديعة كتتيم روميو بجولييت.. وفي أوقات كثيرة يبوح بأنه لا يسكن فيها، بل تسكنه، ويتمنى لو أن كبار مسؤولينا يسكنهم الوطن، لا أن يسكنوا فيه.. يعرفه الصغار والكبار في القرية.. وللشباب نديم محبوب يفجر أنهار الضحك في أعماقهم ويجددهم كما يجدد المطر الطبيعة.. وكم يثير الآخرين عندما يكون راكبا حمارا رماديا مسدلا عليه رجليه، أو راكبا دراجة فقدت أكسسواراتها (حردافة) يستعمل قدمه لكبحها.. يحب من يرسمون على وجوههم ابتسامات صادقة لا صفراء. وحين يحدق في سحنة استبد بها العبوس، ينحني مخرجا من جوربه "السبسي" ، وحالما يجذب نفسا من الغليون يقول "حكلو مايكعا نسيبتو صكعا" في رمضان يطاوعه حماره في السير دون أن يلكزه بعصا خوفا من أن يلقى مصير بغلة كان يركبها في رمضان السالف، تلكأت في السير وكانت الحرارة تحرق الأجساد، نزل من فوقها، لوى عنقها حانقا ثم ذبحها بمنجل، وواصل السير إلى البيت حاملا على ظهره (شواري ديال الفصة). ما الذي حدث ؟ قال الأب، فأجابه أحمد وهو يلهث "كبر ليها الشان أو مبقاتش كتصنت، راه صفيتها لبوها آلوليد" لما يرخي الليل سدوله، يخطو نحو تنور من التنانير كانت النساء البدويات يبنينها أمام المنازل.. في غفلة من أهل البيت يفتح تنورا ويخرج منه خبزة تفوح منها رائحة القمح، يقبل الخبزة ويتجه إلى فضائه الأثير المحاذي لساقية.. يحشو نصف الخبزة بسردين المادريغال ويشرع في الأكل ويشرب كوكاكولا التي يسميها "كويكا". في الفضاء ذاته حكى لأصدقائه ذات ليلة مقمرة عن تجربة عاشها في مدينة شاطئية، فقال "في القنيطرة تعلمت كيف ألمع حذائي، وأطارد مومسات بدينات في الشوارع، كيف أحترس من النشالين في أماكن معلومة، كيف أفتح الباب وأغلقه دون انصفاق.. تعلمت أن أصب الماء في المرحاض والذي كان جحيما لي عند دخوله، غير أنني فقدت الكثير الكثير، فقدت طعم قهوة أمي صباحا، فقدت رائحة التراب بعد هطول قطرات المطر الأولى، حرمت من مشهد جز الغنم وطقوسه واحتفاليته، حرمت من رؤية عودة قطعان الأغنام إلى حظائرها مساء بوتيرة مذهلة فيها احتجاج على ايقاع حياة الناس السريع.. ومساء كل أربعاء أحن إلى رائحة مرق "الكاميلة" التي تطهى على المجمر.. في المدينة طنجرة الضغط تصفر والقطار يصفر ورجل الأمن يصفر وجمهور الكرة يصفر... هناك لا يتبادل الناس لا السلام ولا التحية لأن القلوب جليد والعروق يسري فيها سم العقارب. كمن ينتظر قديسته، ينتظر احمد مساء الثلاثاء.. يخرج صحبة كلبه إلى مقبرة الدوار بعد حلول الظلام ليصطاد الأرانب (قنية) دون وجل، بل يقبض على بعضها داخل القبور، وفي منتصف الليل يعود غانما وينام جذلان .. في صباح يوم الأربعاء يذهب إلى السوق الأسبوعي ليبيع الأرانب التي اصطادها فيفطر بالإسفنج والشاي، ويشوي اللحم منتصف النهار ثم يمضي إلى حي معلوم بالمدينة ليضاجع مومسا.. في قناة عصرية للري يستحم ويعود إلى قريته في حالة انتشاء.. يحيي أصدقاءه ويشتري لهم من حانوت كوكا وفانتا وكروش وسيم ويقول "شربو بالصحة والراحة واعطيو فاتحة مزيانة لقنية" ...شكلت المقبرة لأحمد موردا قارا دون أن يسمع كلاما مهينا من "باطرون".. لقد اشتغل في جني الزيتون والقطن وحفر الشمندر، إلا أن مشغليه يجبرونه على ألا يعود غدا لكونه يضحك العمال والعاملات ويلهيهم عن العمل. في بداية ثمانينات القرن الماضي، ساد القرية خوف من حيوان يهاجم القرية بعد أن تهجع، قال رجل " لون الحيوان غريب ولا شبيه له" وقال غيره "كلبي أصبح يتبول ويتغوط خوفا من هذا الحيوان" وقال رجل ذو لحية كثة "مثل هذا الحيوان يظهر مرة في القرن، واعلموا أن اسمه ورد في كتاب "بدائع الزهور".. صار السكان يدلفون إلى بيوتهم بعيد مغرب الشمس ويحكمون إغلاق الأبواب ويعززونها بأكياس التراب، وقرب وساداتهم يضع الآباء مناجل كبيرة (لافو) ومعاول وبوحبة (لمكحلة). قالت عجوز شمطاء ذات وشم في كفيها وأسفل فمها "ما حل بنا غضب من الله ، لاشك أن جرما ارتكب في القرية، يلزمنا إهداء ذبيحة لولي صالح" .. وهم يفورون غضبا اجتمع أصحاب الحوانيت وتحركت ألسنتهم داخل أفواههم للتداول في الأمر، قال احدهم "كانت حوانيتنا تمتلئ بلاعبي الورق، ها هي الآن أضحت مقفرة ترتع فيها الفئران، لعنة الله على هذا الحيوان "تفو" ، وقال آخر بعد أن بصق "لتعود الروح إلى حوانيتنا، لابد أن نشتري فيلا كي يدك الحيوان دكا ويخرج له '' مصارنو". صحيح أن حيوانا غريب اللون روع أهل القرية وشغل تفكيرهم وقتئذ، هذا الحيوان ليس سوى كلب "قنجوري" ضخم جلبه احمد يوما من محيط جزارة الفقيه بن صالح "بطوار" وصبغه باللون الأخضر حتى لا تنتبه إليه الطرائد في الحقول الخضراء، يخرجه مختبئا في "شواري" وفي الليل يدخله إلى الدوار انتقاما من عائلات هدمت تنانيرها وبنتها داخل البيوت ذ.