حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض        الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون يخص جنازته ومكان دفنه    مقتل 22 شخصا على الأقل في غارة إسرائيلية على غزة وارتفاع حصيلة الضربات على تدمر السورية إلى 68    ترامب ينوي الاعتماد على "يوتيوبرز وبودكاسترز" داخل البيت الأبيض    سعر البيتكوين يصل إلى قيمة قياسية    الحكومة الأمريكية تشتكي ممارسات شركة "غوغل" إلى القضاء    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    كيوسك الخميس | 80 في المائة من الأطفال يعيشون في العالم الافتراضي    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار        الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    الفتيان يواصلون التألق بالفوز على ليبيا    الحكومة تتدارس إجراءات تفعيل قانون العقوبات البديلة للحد من الاكتظاظ بالسجون    بوريطة يستقبل رئيسة برلمان صربيا        مجموعة سويسرية تعزز حضورها في الداخلة بالصحراء المغربية.. استثمار متزايد في الطاقات المتجددة    ولد الشيخ الغزواني يهنئ الملك محمد السادس بمناسبة عيد الاستقلال    'كوب 29': المغرب يرتقي إلى المركز الثامن في تصنيف مؤشر الأداء المناخي 2025    "قمة عرض المغرب" تناقش السياحة    المغرب يستضيف خلوة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يومي 21 و22 نونبر بالرباط    العصبة الوطنية لكرة القدم الاحترافية تقرر تغيير توقيت انطلاق ديربي البيضاء    ارتفاع طفيف في تداولات بورصة الدار البيضاء    صفقات مشهوبة تدفع حماة المال العام للمطالبة بالتحقيق مع الوزير السابق ميراوي    ارتفاع طفيف في أداء بورصة البيضاء    تفاصيل نجاة فنانة مصرية من الموت    توقعات أحوال الطقس لنهار اليوم الأربعاء    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية    منظمة الصحة تصدر ترخيصا لأول لقاح لفيروس جدري القردة للأطفال        نادال مودعا ملاعب التنس: " أريد أن يتذكرني الناس أنني كنت شخصا طيبا قادما من قرية صغيرة قرب مايوركا"    تلاميذ مغاربة يحرزون 4 ميداليات في أولمبياد العربية في الراضيات    الجامعة تُهنئ نادي الجيش الملكي بعد التأهل لنهائي دوري أبطال أفريقيا للسيدات    إلياس المالكي يعود إلى السجن..    المجلس الاقتصادي: متوسط كلفة مريض في القطاع الخاص تفوف نظيره بالقطاع العام خمس مرات    حوادث تخلف 36 قتيلا في مدن المغرب    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    فعاليات الملتقى الإقليمي للمدن المبدعة بالدول العربية    أمزيان تختتم ورشات إلعب المسرح بالأمازيغية    رغم الانتصار على الغابون وليسوتو... المنتخب المغربي يتراجع بمركز في الترتيب العالمي    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    روسيا تبدأ الاختبارات السريرية لدواء مضاد لسرطان الدم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ظلال حقونة أو حين يتجاوز الموظف رئيسه غنى وسلطة ؟؟
نشر في تازة اليوم وغدا يوم 16 - 10 - 2010

في انتربولوجيا المكان ، كيف يواجه الكائن تفاعلات محيطه ويتفاعل مع تقلبات طموحاته ونزواته؟ كيف يولف بين نزعاته وغرائزه وما يحيط به من ثوابت ومعتقدات ،من ضغوط وإكراهات؟ كيف يتصالح مع كذبة الانتخابات وحربائية المنتخبين؟ هل التعايش والتساكن المجتمعي ثابت أم متحول في ثقافة سكان الأرياف ؟ حينما تقسو الطبيعة ما نصيب الإنسان كمعتقد من حرمانها وكيف يستقوي بالأشياء إلى حين مرور العاصفة؟ هل تنجز النخبة الانتليجنسيا المطلوب منها في خريطة بناء التنمية في العالم القروي أم تستكين للذاتها حال مغادرتها تراب القرى على متن رباعيات الدفع ؟ كيف يستكين القروي إلى المختلف دينيا ومجتمعيا ويدمجه ؟ ما ضريبة هذا الاندغام ثقافيا وأخلاقيا؟ قد تساعدنا هذه الأسئلة المتناسلة على معرفة سبل إدراك الكاتب والروائي إدريس اليزمي رسم شخصياته والتماهي مع عوالمها المتخيلة بالمعنى والواقعية بالأساس في فضاء وظلال حقونة شخصيات دالة ورامزة من غير شك أنها أرخت لنفسه كذات متفاعلة ،راغبة، كاشفة، ومندمجة،مع الأشياء من حوله، ولمحيطه كفضاء لتكديس الرغبات المرتعشة والمجهضة،ومراكمة التجارب والآلام وفقا لمنطق إن الإنسان يستعير شكل الأرض التي ولد عليها.
إذا انطلقنا من هذه القاعدة الإيكولوجية، سوف يتضح أن شخصيات وشخوص الرواية ” في ظلال حقونة محكوم عليها بالتفاعل مع محيطها، في تجلياته وتمظهراته وتقلباته المناخية والجيوسياسية ، وضمن حساباته الإيديولوجية والعقائدية. فكل الشخوص هم أبطال في عالم اليزمي ، إشارات فادحة في محيط رجراج بالخيبات وبالأمل ، متزاحم بالرغبات والميول ، مكتنز بالأحلام والهجرة وشقيقتها المضادة من الذات واليها ، الهجرة السرية نموذجا طرد المغاربة من الجزائر ، والأمثلة لا تنتهي .
ذلك أن جسد البطل في رواية ظلالا حقونة كان متخيلا أو واقعيا لا يخلو من خدوش وبصمات وآثار جراء عراكه مع هذا المحيط، كما أن المحيط بشكله الطبيعي أم الاجتماعي لا يسلم كذلك من تأثير الإنسان وتجاذباته أكان الإنسان اليزمي ذاته أم الإنسان في كونيته كطموح وحياة..من خلال هذا الجدل الرائع سنتابع خطوات المدني المعلاوي الطلباوي...الراشدي وآخرون ، كل من زاويته سيكتشف ذاته، ساعيا نحو السلطة، باعتبارها من ثوابت الوجود في مناخ يقسو ولا يرحم إلا بعد التساقطات ، وإن كان كل سعي نحو هذه السلطة وفق نظرة الكاتب لا يخلو من مقالب معاناة صبر وأناة .
تقتضي المنهجية العلمية في مقاربة العمل الأدبي وضع مقدمة أو تمهيد لنتعرف بعد ذلك عن مضمون الرواية ثم رموزها وإشارات تلك الرموز ، وكيف تماهت مع الدين أو العلم ، وكيف تصالحت مع الأضداد أو تساكنت خلفها ، تقتضي المنهجية أيضا التماس مع النظرة الفنية للكاتب وكيف صاغها وما إيقاع تداول العمل الإبداعي بين الأدباء والنقاد؟ لكننا هنا نقحم الذوات مجتمعة ، ونجترح صفيقها المرعب كمدا ، هنا نتعايش مع الظلام نورا ، والتعايش ثقافة ، والقسوة امتحانا إلاهيا ، هنا نتشرب زمهرير الحكاية في شرايين تنبض بالحياة ، حين يغدقنا إدريس اليزمي بمتن روائي منا والينا، يقلقنا ولا يفجع، يدلنا على سبيل الضجر بحكمة ، فنتهجى كيف نبني ذواتنا في ظلال حقونة خارج الحسابات الضيقة لسماسرة الشعب ولوبيات الفساد في دنيا العقار ورباعيات الدفع ولعاب الأرصدة التي تحدد خارطة طريق نحو الخيبة بأبعادها كدمار شامل للقيم للحياة والمجتمع .
عرض وتقديم عزيزباكوش
في البداية لم اندهش والكاتب يرسم الكاتب صورة صادمة لقريته ، فما ظلال حقونة في واقع الأمر سوى ابتسامة حلوة ما تلبث أن تتحول إلى قهقهات هيستيرية مرعبة على وجه مليء بالغضون والبثور ، ليلها هرير كلاب في احتداده ، فضاؤها تصميم بلا روح ، أو في أحسن الأحوال بنايات تنمو بإذن المحلاوي في كل الجنبات بلا تخطيط ، وأعواد نور تبدو جائعة من بعيد ، فيما الحنفيات صدئة ولا تعتصر دموعها إلا في أوقات جد قصيرة ، بينما الأهالي في غفلة ساهون. واعتقد أن إدريس اليزمي روائي قدير يجيد كتابة التنبيهات دون أن يسقط في الصخب ، فيما يبدو رسالة قوية تهز العالم النائم من أذنيه، لكن هذه الصورة ستتلوها صور كثيرة أكثر رعبا ، فحقونة لم تكن سوى أسواق اخترقها سماسرة من عيار ثقيل كالمراوي الذي يشكل نموذجا صارخا للمشهد السياسي الكافي بالبلاد حيث اعتلى أمثاله من الجهلة والأميون سدة الحكم وباتوا أسيادا يخترقون أسواق حقونة ، وينفذون إلى أغوار ذواتهم البئيسة مجرد النظرة إليهم وهو يحومون مثل أعوان الاستعمار على حوانيت القرية المترامية على امتداد السوق تغرق في مستنقع ، لكنها مشاريع خائبة ، لأنها تأسست على قاعدة هشة بفعل شراء الذمم والسمسرة في أصوات الناخبين ،” قال المعلاوي متباهيا :تصور أني لم اترك لأصحابي متسعا من الوقت لينعموا صحبة أنصارهم بلذة نجح ، لقد طرت بهم إلى إقامة ضخمة وسط الثلوج بالغابة ليحلموا في تلك الأجواء البيضاء بما لذوطاب إن الشراب يحلو والطعام يلذ إنها الجنة ” ومن كانت أمه نعجة تأكله الذئاب . لهذه الأسباب وغيرها كثير ينقل الكاتب صورا تعكس الاكتواء بنار لعبة قذرة اسمها الانتخابات ,حيث تبدو معظم المشاريع التنموية يطبعها الغش ، وتشممنها روائح زفرة ، حوانيت لم تخضع لأي تصميم ، بل كانت من وحي الخيال والعبث لكل من الطلباوي والسعداوي والمعلاوي، ويرسم اليزمي سيميائية الوضع الاقتصادي المجتمعي بغير قليل من السخرية السوداء ، في عهد هؤلاء ، كانت السلع الرائجة هي الشاي الصيني وسكر وزبدة هولندية وجبن اسباني ، ناهيك عن زجاجات متباينة الألوان والأشكال من مستخلصات الفواكه والحليب ، لكن أفواه الأهالي تتحلب ولا تجدا بدا من ابتلاع ريقها كمدا. وهم الذين سقوا وغرسوا وزرعوا ورعوا قطع الأغنام واغرقوا أهالي حقونة سمنا أصيلا ومالا وألبانا تنضح بها موالغ الكلاب، مما يدعو الى الأسف ، فما عاد المدود يملا شعيرا، ولا افغمت روائح الماشية الأنوف، وما انبعث ثغاء أو اجترت من الزريبة. من هنا مبعث التحول ، حيث ترتدي حقونة لباسا يشكل نموذجا هجينا لحداثة مقلوبة . إلى أن جاء بنحاص وزريعته ، فانشأوا المتاجر واستحوذوا على كل ماهو جميل ، وربما مثل الكثيرين لم اصدم بهذا المشهد ، حيث يربط الأهالي البسطاء بين نذرة الماء الرقراق النمير وطلعة اليهودي الاجلف ، لقد غار الماء في حقونة وجفت السواقي وصارت حقول الذرة هشيما تذوره الرياح واستحالت غرابيب سوداء لا حركة فيها إلى سكون قاتم قاتل. يلاحظ القارئ أن الكاتب ربط قدوم بنحاص اليهودي إلى القرية بحرمان طبيعي فحقونة التي كانت قبل حلول بنحاص وعشيرته وديانها كريمة طيبة كلما فاض ماؤها بصقت على ضفتيه بسمكات كبيرات طيبات ، أصبحت الآن في ظل انفتاح غير محسوب وسلطة مرتشية إلى بؤس عميق ، النهر الذي كان سخيا جوادا بحيتانه وأسماكه ، ضن وشاح بكرمه ، وصار يقذف من بطنه بأسماك من بشر. هو المحل إذن ، أهو النحس مع بنحاص ؟ لكنها اللعنة قد تداركت أهالي حقونة؟
------------------------------------------------------------------------
عاش الكاتب إدريس اليزمي في فضاءات متنوعة بحكم تنقل الوالد رحمه الله بسبب الوظيفة،لذلك تنوعت تجاربه وتعددت باقتناص المشاهد واستلهام الأحداث و إبداع الشخوص والشخصيات...فحقونة بظلالها الوارفة فضاء متخيل انصهرت فيه تجربة الكاتب بالوقائع والأحداث ، حتى الاستيهامات باتت حقائق ساطعة ، بحيث لا يستطيع عقل القارئ الفكاك من شباك صدقها ، قوة الإبداع لدى إدريس اليزمي ينبض من زخم الخيال الصادق من هنا شحنة الإبداع وحراكه. يتساءل الكاتب في لحظة عتاب ، إذ من باستطاعته أن يرد نور مآقي الأمهات الثكلى ، وآهات الزيجات الحرى ،وتساؤلات الصبية العبرى وطول الانتظار المر ؟؟ وتتعمق مأساته فيضيف،ذوت الزهور رحل الهزار، اضطلمت الآفاق وعطنت البرك ،فهل سيكفي ما تبقى من العمر لإحياء الروض لإعمار الجسد؟
زمن الرواية ممتد ، أحداثها تدور في قرية حقونة وتصف ألوان معاناة أهلها البسطاء وترصد أنماط التعايش في ظل طبيعة لا ترحم إلا عندما تكون قاسية ، في ظل ديانتين وعقائد ثابتة ومتحولة ومصالح متضاربة ، وتقف رواية ظلال حقونة طويلا عن أوضاع المرأة في العالم القروي، كما تشرح بؤس وضيق أفق المبادرة لدى المجالس المنتخبة وغرقها في عالم الجهل والسمسرة ،أشخاصها الراوي الراشدي ... أسرة بنحاص من أصول يهودية التي استوطنت القرية وبسطت نفوذها المالي ،في ظل تعايش مشوب بالحذر.
حقونة ، الآن تنسى كل شيء ، إذن فلينس الجميع أدران وأحزان الماضي، وليقبل على فجر التصالح مع الذات فقد بزغ ، فهبوا جميعا لتسلق القطار ، بل نركبه مادام واقفا في محطتنا قبل أن يغادرها وتدوس أجسادنا عجلاته الفولاذية. هذا العبارات ذات الحمولة الفلسفية العميقة من الرواية البهية للأديب والروائي المغربي إدريس اليزمي تحيل أو بالأحرى تتناص مع مقطع من نفس العيار للمؤرخ المغربي احد ألأربعة الناهضين بالفلسفة في شمال إفريقيا عبد الله العروي حين يقول : السباحة ضد موجة الحداثة مخاطرة بقي أمران الأول أن ننحني رؤوسنا حتى تمر فنصير حثالة ، اونركبها بكل ما نملك من قوة وصمود، فننجو مع أي مرتبة كان”.
حين يكتب إدريس اليزمي عن حقونة وعن ظلالها ، فهو يستحضر ألق الطفولة في قريته الجاثمة في ثنايا الذاكرة المنهكة ، حقا كل شيء كان متواضعا بيوت واطئة وقليلة تجثم في المركز ، خيام من حلفاء والصوف وشعر الماعز متفرق هنا وهناك ، أكواخ من قصب ودفلى تنبت كالفطر كل يوم جراء الهجرات المتتالية ، من تلك الكوة الطفولية الغائرة يرصد واقع المرأة القروية التي قلما تكشف عن وجودها، وفي مقابل لك كله ، دينامو لا يتوقف عن الحركة والحياة ، يترصد تفاصيل الحركة وانشغالات الناس التي تكثر صباحا مساءا ، تتوازى مع قطعان الغنم والماعز وقليل من البقر تغادر زرائبها . كرونولوجية الحكي تبدأ كما لو أن الصباح في القرية معزوفة موسيقية يترنم بها الكاتب لنفسه ، قبل أن يمررها في غلاف سميك من الوجدان الدافق بالشهامة والنبل وصفاء السريرة.إلى قراءه المفترضين.فقط حين تتحد أصوات القرية على تنافرها ضد الصمت فتهتك أسترته الدامية المطوقة للقرية في تجمع سني جد محدود . حيث يبرز السوق الأسبوعي شريان حقونة الأكبر حيث السلال والسكك والمناجل . لكن الرأس يؤلم حين يستوقف الكاتب قراءه على جملة تناقضات في أسواق متباينة وخواضات تفضي بالكثير الى السجن “ أن المخزن هو الذي سمح لأولئك المرشحين فكيف يمنع الناس من التصويت عليهم أو بالتالي يسعى لاعتقالهم فور إعلان ترشيحهم ؟ بتهم تتراوح بين مناهضة المخزن و بث الفوضى في الشعب وزعزعة امن واستقرار البلد ، في بعض المقاطع يستكشف المؤلف مستقبل حقونة بتبصر ، وكأني به يسال عن مستقبلها في ظل ما اختزنته الذاكرة من تحولات رهيبة تجرف الوقائع والأشياء، فنراه يستشرف الآفاق الاجتماعية والوضع الاقتصادي للقرية في ظل نظام يعتمد كليا على ما يأتي من الخارج وخاصة من أعداء الدين اليهود الذين يتربصون بها، فكل ما تملك حقونة بعد فضائها وصمتها هو السلال والسكك والمناجل ، أما ما تبقى من منتوجات الشأن الحياتي العام ، فغالبا ما تأتي من خارج القرية ، هنا سيضع الكاتب أصبعه على الجرح ، فيسرد ويعري الواقع الطبقي لحقونة ، حيت يبرز أن لليهود المغاربة طبعا إسهاما كبيرا في صناعة الكثير منه ، كان يسكن بعضهم وسط القرية تبعا لمركزه الاجتماعي ، أما الأحياء الخلفية فمن نصيب الوافدين الجدد ، ويعود بنفس الحكي الذي لا يكل ، فيروي كيف انه كان لكل دوار أو قرية مجالها الخاص مزارع ومسارح وموارد مائية، فيقف مستوضحا دور المؤسسة الدينية التي يجسدها بقوة فقيه يصلي بالناس ويعلم الأطفال ويختنهم ويداوي المرضى مما يصنعه من مستخلصات الأعشاب وتمائم وتعازي حين يتعلق الأمر بمس أو عين ، لكن قد تختلط عليه الأمور فتكون وصفاته متشابهة في كثير من الحالات ، وحين يعجز الجميع فقيه القرية وحكيم القبيلة ، يطاف بالمريض على الأضرحة ، انه واقع بئيس لقرية بئيسة لمجتمع ينعم في بؤسه حتى النخاع ، لكنه بؤس مرغوب فيه تزكيه السلطة وتحضنه المؤسسة الدينية ، وتغدق عليه الكثير لأسباب ملتبسة.
بطل الظلال الراشدي يحكي روايات مختلفة عن حقونة هو ذاكرتها في نظر الكاتب ، أمينها وحارس أسرارها ،يعرف أناسها أيامها أعرافها وأعراقها ،خاصة الشريف مقدم الزاوية صاحب المقام الجليل والهيبة الذي يتوسط الكثير من الخصومات بين الأهالي وغالبا ما يزيل شوكة من غير أن يسيل دما أو يحدث ألما ، لكن ماحدث لأحد الناس حين قصده في منازعة بعد أن قبل يده وكتفه لا يبعث على الدهشة
“يامولاي الشريف فلان اشترى مني غلالا لآجال محددة ، ولما طالبته غضب ونهرني ،ثم أنكر علي حقي رد مقدم الزاوية” سنزوره ويفتح الله” وفي المساء ،قال الرجل يامولاي الشريف ، لو أتيت دون هذا العدو لأدخلتك ولجعلتك فوق أم رأسي ، أما وان هذا اللجوج معك ، فلن افعل؟ ثم إن قوت عيالي حرام عليه” ثم إن أياما مرت يقول الراشدي فوجد الرجل بيته قد احترق عن آخره بعد عودته من السوق، وصار الناس يرددون ” ها كرامة المقدم قد تحققت “إن بركته عظيمة ، يحدث هذا رغم إن المغضوب عليه كان يردد على مسامع الناس ، أن زوجته تركت مجمرا في وسط الدار، ولما هبت رياح شرقية أججت الجمر وطارت بشرارات إلى تبن الحيوان فانضرمت النيران. لكن معظم الناس لا يقيمون وزنا لما كان يتفوه به فأشاحوا عنه بأسماعهم مخافة أن يصدقوه فيلحقهم مكروه من سماع هذا الكلام. انها صفعة وعي شقي يمررها الكاتب في زخم فوضى المصالح وانعدام الوعي السياسي وضعف التجربة وضحالة الثقافة .
الزائر اليوم لتلك البقاع، يرى آثار الناس على الطبيعة الميتة فلا تقع عينه إلا على الجثث الأشجار السوداء كالجنيات تشهد على العدوان السافر، وقد غادرها الوحش والوحيش ومع مرور الزمن تحولت إلى مزارع بورية ، لكن ماذنب هؤلاء حين لم يجدوا غير الطبيعة ليفرغوا فيها حقدهم للحصول على قوتهم وينتقموا منها لجوعهم؟ هنا يذنب الكاتب عجز السلطات وتراخيها في توفير الضروريات لأبناء المنطقة، لقد تركت المخزن يتعب من اجل ملاحقة الناس وحين تعب فرض غرامات مالية فاسية ومتتالية إلا أن السكان كانوا يمتنعون عن أدائها ، وظلت الصراعات محتدمة بين الناس ،قد يسقط أثرها ضحايا من جرحى وقتلى وتتوج العمليات بسجن هذا وفرارالاخر.
أما المدني احد الأبطال الرئيسيين بدوره فعلها، وخرج من حقونة انه يسكن مدينة جميلة في الأعالي وارتاح من ثعالب حقونة كما يحلو له أن ينعتهم ، ارتاح من مداراة الرؤساء والتآمر ضدهم أو معهم على بعضهم البعض ، ثروته تتسع يوما بعد يوم ، أبناؤه يدرسون في المدارس الخاصة وزوجته تبدل الخادمات كما تبدل سيارتها وأثاث منزلها ، لكن حقونة هوت إلى أسفل سلم التنمية ، و استغلال الرخص وتفويتها للأقارب مثل مقالع الحجر والرمل والملح والسكر والزيت والدقيق، إضافة إلى الصفقات الخيالية في علف المواشي وكراء المحلات والقطع الأرضية،هنا في حقونة الجميع سواسية كأسنان الحمار يقول احد أبطال الرواية ، البارحة فعلها الرايس وبعده المعلاوي وها دور المدني الكل أدلى بدلوه ولوكان ماسح أحذية ففاز وسحق منافسيه ، فالدوار في حقونة لا يتخلى عن ابن جلدته فالدم الذي يجري في عروقه ليس ماء. وحين يشتد الصراع ويتأجج الصراع من اجل حماية المصالح تتأسس ديمقراطية حقونة المتفردة التي هي بالضرورة ديمقراطيتنا ، فما العيب أن يترشح الحياوي حتى وان كان أميا أو قمارا حتى؟؟؟أليس معظم أهالي حقونة أميون لكن ليسوا لصوصا أو قمارين؟ آه لوبقيت بعيدا كالأمس عن هذه المقالب والثعالب يقول المدني” لكان أفضل لي ، ماذا استفدت غير هذا اللقب اللعين ” الرايس” وأي رئيس من لا يعرف حتى كتابة اسمه فيوقع على أي شيء؟؟؟؟؟؟
وينقل إلينا الكاتب وضعية المرأة في حقونة حيث يشهد السوق الأسبوعي حركة نشيطة، إلا أن النساء كن حديثات العهد بالحج إلى السوق حيت تراهن مقتعدات تحت ظلال الأشجار في جحر الصيف وإدبار البيوت في زمهرير الشتاء على بعد أمتار من تجمعات الرجال يرافقن ذويهن لزيارة الحكيم أو لقلع ضرس وقد تسقط إحداها ضحية احد الدجالين فيكسر فكها أو يترك نصف الضرس موغلا فيه فتعظم المصيبة
حكى الراشدي فيما يرويه عن جد جده بسند صحيح متصل أن اليهود عمروا الدواوير في البدء ، لكنهم لم يستمروا ، فهووا صوب حقونة ، أبنيتهم خالفت هندستها أبنية الأهالي في أشكال نوافذها وطلائها وتصاميمها ، في أحياء ضيقة الأزقة ، أما الدكاكين فقد تكون أكثر ضيقا ، لكن سلعها باهضة الثمن ، وكثيرا ما تكون تحت الطلب حلالا اوحراما. لكن الراشدي سيضيف أن اليهود ظلوا يتميزون عن سكن حقونة في أشياء كثيرة جدا بدءا من التجارة إلى المعاملات مرورا بالثقافة وفي الأكل واللبس إلى غير ذلك . وينقل الكاتب على لسان الراشدي قفشات من سيرة يهودي يدعى بنحاص ، حيث دخل سوقا لقرية مجاورة كي يبيع أشياءه ، ولما تجمهر حوله المشترون تغامز الباعة فيما بينهم ، فانهالت عليه حبات البطاطس والطماطم والبصل كطيرالابابيل ترج رأسه الغارق في طربوشه ، فما كان منه إلا أن جمع لوازمه وهرول خارج السوق ، لكن المفاجأة تأتي في كون ماإن يخترق بنحاص الدواوير ليعرض حاجياته البراقة حتى تتراكض خلفه الغلمة وهي تصيح عليه كأنه ذئب وسط قطيع ، كان بنحاص يتضايق كثيرا من هذه المعاملات ، ولطالما اشتكى للمسؤولين عن ما يتعرض له سواء بحقونة أو باقي القرى المجاورة .في حديث بين يهوديين أحدهما بائع الماحية، وهي خمرة تصنع من التين والعنب والسكر عن أسباب كره ساكنة حقونه لهم ” أن الكل يزدرينا ، البارحة تعقبني صبيان الحي بالحجارة والسب والبصق وهم يصيحون ابنحاص الصالو ابنحاص البالي ...”
أن هؤلاء الشياطين الصغار يسمعون من الكبار يضيف بنحاص” ترى ماذا ارتكبنا في حقهم ؟إننا نخدمهم ونحرص على سعادتهم نخيط ملابسهم ، نرمم بيوتهم وأثاثهم ، نصنع لوازمهم الفلاحية ، نجود ما يجب الفرحة إلى قلوبهم من وصفات المحبة الساحرة والحلي للنساء والماحية للأحداث هل في هذا ما يسئ لهم؟؟؟؟
لكن” لا هو” بائع الماحية سيدعو بنحاص إلى الترفع عن كل تلك المناوشات ، وسيلقنه الوصايا العشر للتعايش كما يصيغه اليهود في أدبياتهم” واغرس عينيك في الأرض ، وادر ظهرك للجميع بكل إذلال ، واحرص على جمع المال بكل وسيلة غير مكترث بأي شيء ، إذ ذاك، ستتمتع بالارفه الألذ طويلا وفي كل أنحاء المعمور ، الفندق الفخم ، المطعم الممتاز، السيارة الفارهة ، المرأة الجميلة لك ، ستصبح السيد وغيرك العبد الخادم ، لكن لا تنس فالمال مصدر قوتك”وفي سبيل المال كل شيء يهون “قال لاهو .
كل ذلك كوم ، وما فعله أشقاؤنا في الجزائر مع والد” فرحة” وغيرهم ممن طردوا من المغاربة في منتصف السبعينيات ” كوم ثاني على حد تعبير الأشقاء في مصر ” قالت الصغيرة “فرحة”في نبرة حزينة وهي تحكي للطفل تحت الزيتونة على ضفة الوادي اليسرى ” كان لنا بيت جميل تتوسطه نافورة ماء صغيرة تعطره أزهار الليمون والنارنج وأزهار الياسمين ، الطيور بزقزقتها اللذيذة كانت تضفي على هذه الخضرة جمالا خلابا يأسر بشركه العيون، كنا نحن الصغار نقضي فيه كل الوقت حين العودة من الكتاب والمدرسة ، كل شيء في بيتنا المغربي في الجزائر كان جميلا تحرسه العناية الإلهية ، لم ندر كيف حلت بنا الكارثة ، كلما اذكر، هواننا استيقظنا ذات صباح صغير حزين على الشرطة وهم يقتحمون البيت ويتوعدون ، رحلوانا صوب المحطة بعد أن جردوا أمي من حليها وأختي من حافظة نقودها ، بكينا كثيرا حين الحقوا والدي بنا ، وقد انتزعوا منه مفاتيح محله التجاري ، وتمضي فرحة بنفس متقطع ” قال أبي وهو ينفث كلمات متقطعة حزينة ، أحسست منذ شهور أن ثمة شيء يحدث ، كانت دورياتهم تحوم حول أملاك المغاربة ومنازلهم، وها إخوتنا قد فعلوها كأننا لم نذب معهم على ما يملكه الإنسان في شبابه .جئت شابا يافعا يجمع الدينار على الدينار، يقضي بياض نهاره وسواد ليله أحيانا في العمل المتواصل إلى أن كلل الله تعبنا بهذه الثمرة ، وإذا بهم الجزائريون يسلبونها منا وأخرجونا في ذل وهوان ، كأننا لسنا منهم “ هنا يضع الكاتب الأصبع على الجرح ثانية ، ليعيد الى الواجهة مسالة المغاربة المطرودين من الجزائر سنة 75 على خلفية استرجاع المغرب لصحرائه والتي ما تزال قضيتهم تتفاعل الان في اروقة المحاكم الدولية في ظل الشرعية والقانون الدولي .
حين جاءت” فرحة”وعائلتها حقونة ، سكنت بيتا طينيا أيلا للانهيار تنقصه أشياء كثيرة من مرافق وأواني ، كان سكنا غير لائق للعيش الكريم ، عزيز على الصغيرة فرحة أن تقارن وضعها الجديد في الوطن والقديم في المهجر ، بين الإخوة أخوها الأوحد ، لم يقبل بدوره عيشه الجديد في حقونة الأعمام فأصبح الملل خبزه اليومي، هجر الإعدادية كما فعلت فرحة وأختها الكبرى ، أما السيدة الوالدة فما كانت العين ترمقها، كانت فرحة تقول “ أن الهم والكدر قد حبسها في زنزانتها الجديدة وأبعدها عن العالم الخارجي. وتمر الشهور ويحاول الإخوة العودة إلى الجزائر باقتحام اوعار الحدود ، فنجح اثنان بينما مكث الأخ الأكبر ، كان الفرح كبيرا حين تتسلم الأسرة رسالة من احدهم لكن الفرحة لن تدم طويلا ،ماتت الوالدة وهي تحلم بعودة أبنائها ، كان الأخ الأكبر يتسلى حين تسرح به الذاكرة في الأيام الخوالي ” سير ياوهران ، بالسلامة ، والكلب اللي يبغيك أنا نكويه” إنها أجواء جزائر الحلم والقسوة بلا حدود وبلد المليون شهيد؟؟؟؟
حقونة الحلم المدينة المستقبل الأمل ، حقونة النموذج الجارح الناتئ في خصر المدنية ، فيها يتحول البراني إلى تاجر كبير يملك اكبر متجر ، تتزود منه كل دكاكينها ، حقونة التي تتسع أرجاؤها يوما بعد يوم عاما بعد عام بعد أن هاجر أبناؤها إلى الجزائر وفرنسا وهولندا وضخوا فيها أموالا لا باس بها واختلط الحابل بالنابل ،حيث تحول ملعب الكرة إلى سوق الخضر حيث يقذف الشاب الكرة فتقذف أصنافا من الخضر والفواكه معها ، حقونة حيث يثور البعض على ولي نعمته ، حقونة يتصرف فيها السذج كأنهم في زريبة اومزرعة بحركة لسان أو جرة قلم يقطعون أرزاق وأعناق الناس وكان الموظف راع في حظيرة جدهم فلتة لسان كافية للقذف بهم في زنازن مغراوة أو غياهب حقونة ،؟؟؟
في الاعتراف الأخير وتحت سقف واحد يجتمع الطفل والكهل والشاب في هذا الحيز ، ويعلنون أمام الله التاريخ ” نحن الأربعة واحد، وأنت صورة لنا ، وظل لأجسادنا ، قد تطول وتقصر حسب تموقع الشمس في السماء ، أو الضوء في الظلام ، أنت نحن، ونحن أنت ، والشيخ أستاذنا وحقونة للجميع والشهادة لله والتاريخ .
تبقى الاشارة الى ان رواية في ظلال حقونة تعتبر ثالث إصدار روائي للكاتب و الباحث المغربي إدريس اليزامي بعد جنة الطوارق و رياح العودة.و قد صدر عن أنفو-برانت للطباعة و النشر بالعاصمة العلمية فاس. و الكتاب من الحجم المتوسط، في حوالي ثمانين صفحة. أما لوحة الغلاف فمن إنجاز الفنان و الشاعر محمد شهيد.و الرواية عبارة عن سفر في ذاكرة حقونة ، تِؤرخ لأحداث أبطالها هامشيون يعيشون في قاع المجتمع. لكنهم يسهمون في صناعة أحداث لها قيمتها. فالراشدي ذاكرة حقونة : يروي عن فضاء و أشخاص بمثابة زرع ظل، و آخرين استمدوا كل شيء منه.. و رحلوا في ليل.حقونة فضاء متخيل، منسي، يحاول الكاتب التأريخ له تأريخا أدبيا عميقا..ليظل شاهدا على راهن غائم، لا تلوح فيه الشمس إلا نادرا ، في حين لا يبارحه القمر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.