لم يعد الكتّاب المغاربة المقيمون خارج الوطن يشكّلون كلاًّ متجانساً، ولم تعد لغتهم وقضاياهم موحّدة، بل تشعّبت التجربة واغتنت وتنوعت. الآن، أصبح لدينا كتاب مغاربة يقيمون في أوروبا لكنهم لا يتنازلون وقت الكتابة عن اللغة الأم. لقد التحق بكتّاب الفرنسية فيلق من الكتاب، بين شعراء وروائيين وقصاصين، يكتبون بالعربية ويتوجّهون إلى جمهور عربي ومغربي، إلى جانب من حرصوا بفعل تكوينهم، على الاستمرار- كسابقيهم - في الكتابة بلغة أجنبية. هنا نتساءل: ما هي الموضوعات التي يكتُب عنها الكتاب المغاربة الجدد في المهجر؟ هل تختلف قضاياهم عن قضايا السابقين أمثال الطاهر بنجلون وإدريس الشرايبي ومحمد خير الدين أم تسير في الاتجاه نفسه؟ ما هي أساليب الكتابة لديهم وما هي الموضوعات القريبة إلى وجدانهم؟ كيف يتعامل الكاتب العربي الجديد المقيم في بلاد المهجر مع إشكالية الهوية المزدوجة؟ وهل يعتبر نفسه مغربياً أم أوروبياً؟ أيهما أسبق بالنسبة له: اللغة أم المكان؟ هل يتفاعل مع مشكلات المهاجرين المغاربة أم تظلّ الكتابة داخل سياجها الفني؟ حين طرحت «الحياة» هذه الأسئلة، على بعض من الكتّاب الجدد، اختلفتْ إجاباتهم وتنوّعتْ واتخذتْ مسارات مفاجئة. أجاب بعضهم عن الأسئلة مباشرة ودقّق في التفاصيل، بينما تحدّث آخرون عموماً عن تجاربهم، إيماناً منهم بأن معرفة التجربة الذاتية، أنسب طريق نحو تشكيل فكرة عن الصورة العامة للكتابة المهاجِرة الجديدة. قبل أن تبدأ في الحديث عن أي تميّز أو اختلاف يطبع التجربة الجديدة، ترفض الكاتبة والمترجمة المغربية سهام بوهلال أن تضع كلّ الكتّاب المؤسّسين في سلة واحدة، وتضرب صفحاً عن المقارنة بين «كاتب يتقمص الكتابة وتتقمصه، مهووس بها كخير الدين الذي حقق المعنى الفعلي للكاتب، صاحب الكتابة العنيفة الثائرة أو إدريس الشرايبي الذي حقق هذه الصورة في روايته الأولى «الماضي البسيط» وبين آخرين وإن كانوا من جيلهم». وتقول سهام أنها لا تقرأ بطريقة تلقائية لكل مغربي أو مغاربي لأنها تنظر بحذر إلى فكرة الكاتب «الفرنكفوني»، وتكرّس جهودها للإطلاع على كتاب كبار كانوا مغاربيين أم لا. وبصيغة أخرى قيمة الكاتب لدى سهام أهم من أي اعتبار آخر. تتحمّسُ صاحبة كتاب «الأميرة الأمازيغية» للكاتب المغربي الشاب المقيم في فرنسا محمد حمودان وتعتبره صاحب كتابة متينة وأسلوب شبيه بالحمى، إنه وريث محمد خير الدين- تقول-، أما بالنسبة للموضوعات «فهي تظل قريبة بعضها من بعض وتتعلق غالباً بالوطن الأم أو المدينة أو القرية. وتتساءل الكاتبة: «هل هناك هوية مزدوجة؟ أم إن هذه الإزدواجية اختراع المصالح المغلّفة بالانتماء؟» وتعتقد بأن لدى الكاتب رؤيا تعددية بحكم اطلاعه على كتابات أخرى وكتاب من أصول مختلفة. هوية الكاتب - إذا سلّمنا بأن مسألة ما نسميه «الهوية» هي مسألة أساسية بالنسبة له - هي كتاباته وما تحمل من خصوصيات تتعلّق به، وأخرى علقتْ به من خلال قراءاته وأسفاره واختلاطه بالآخرين. وتَخْلُصُ سهام التي اشتغلت لسنوات على ترجمة النصوص العربية القديمة واحتَفتْ بفلاسفة وأدباء عرب وقدّمتهم إلى القارئ الغربي إلى أن «ليست هناك حالة أسبق من الأخرى بل حالات هي مني ولا أستطيع تفكيكها». مساري – تقول سهام - هو الاشتغال على الأدب وفي الوقت نفسه على ترجمة الأدب العربي القديم بفعل تكويني الأكاديمي، لثقتي بأن معرفة الماضي- ماضي الثقافة التي أنتمي إليها- هو الذي يعطي معنى لحاضر نعيشه ومستقبل نترقبه. أما مشاكل المهاجرين فترى أنها تكمن في إشكال سياسي، وهي ككاتبة لا تعتقد أن موضوع الهجرة يعنيها بصفة مطلقة، فالكاتب نفسه قد يعيش ظروفاً أسوأ من الآخرين ولا يمكننا أن نكرّس أجيالاً للكتابة حول هذا الموضوع. للشاعر وللكاتب طبعاً مهمة إدانة الظلم وكل ما يمس بالحرية ويهدد وجود الأشخاص ولكن أيضاً له الحرية في اختيار طرق التعبير والتضامن مع أي واقع ما من عدمه». أجوبة الشاعر المغربي والناشط في المجال الأدبي في بلجيكا طه عدنان كانت شخصية، وقاربت التجربة الذاتية في اتصالها مع محيط انتقل إليه الشاعر بعد أن نما وتشكّل مشروعه الأدبي. يقول طه متحدثاً عن تجربة الكتابة المغربية في بلجيكا إنه «على رغم زهاء نصف قرن من الحضور المغربي بهذا البلد كان يجب انتظار منتصف الثمانينات لاستقبال أول رواية لكاتبة مغربية من الجيل الثاني للهجرة تدعى ليلى الهواري. روايتها الأولى بالفرنسية «زايدة من لا مكان» كانت تشبه في تمزّقها تمزّق جيلٍ من المغاربة يعيشون في المنزلة بين المنزلتين، ما بين الهنا والهناك. وهو ما لم يعشه جيل بن جلون والشرايبي وخير الدين. فأولئك كانوا مطمئنين إلى مغربيتهم مهما أوغلوا في المعارضة والرفض أحياناً. أما الذين التحقوا في ما بعد بالهجرة خلال سنوات التسعينات، فكان من الصعب عليهم استعادة أصوات المغتربين السابقين حيث المنفى مستبدّ بكتابتهم والغربة مهيمنة على موضوعاتهم. فقبل عقدٍ ونصف، كان المنفى قائماً لا يزال. عندما كان على المنفيّ أن ينتظر طويلاً قبل أن تصله جريدة تحمل من أخبار البلد ما سمحت به الرقابة». مع ذلك يستدرك طه ويتساءل: «عن أيّ منفى نتحدث الآن في زمن الهواتف المحمولة والفضائيات والأنترنت؟ كما أنّي لستُ مولعاً بمصطلح الاغتراب». ف«الاغتراب حالة يمكن للمرء أن يعيشها من دون أن يبرح وطنه. الوطن المُبرِّح يمكن أن تعيش فيه اغتراباً مضاعفاً، كالوطن المفلس تماماً. ألم يقل الإمام علي: «الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن»؟ أما الاغتراب، الذي يجعل حامل صفته لدى البعض شخصاً جديراً بالتعاطف، فقد حرّض عليه الأقدمون ونصّبوه صنواً للتجدّد ورديفاً له». يؤمن طه عدنان بحكاية التجدّد، ويقول إن الفترة الوحيدة التي شَعَرَ فيها بما يشبه الغربة كانت خلال سفره الأول عام 1996. «وأنا في الباخرة- يقول طه مستعيداً تفاصيل لحظاته الأولى خارج البلد- صرّفت مئة فرنك فرنسي مقابل حفنة من البيزيتات الإسبانية. حينما وصلنا إلى الخزيرات، تحلّق حولنا حمّالون أنيقون. كانوا يجرّون عربات صغيرة تتربّص بحقائبنا المثقلة. أشرتُ إلى إسباني شاب ليتكفّل بأمر حمولتي. كان وسيماً مثل أبطال السينما. وكنتُ فخوراً وأنا أتبعه كسيّد حديث العهد بالسيادة. حينما أوصلني إلى الحافلة بادرني بقشتالية لم أفهمها... بعد ساعات من السفر، دخلنا إلى فرنسا. هناك على الأقل لم أعد غريباً. أقصد لم أعد غريب اللسان تماماً». ويستدرك طه مرة أخرى مقارباً الموضوع من زاوية الكاتب: «لكن هذا لا يعني أن لا تأثير لعامل البعد الجغرافي على الكتابة. فالمسافة مع الوطن الأصلي تجعل رؤيتك له أصفى من عين الديك. كما أن نظرتك النظيفة إلى عالم جديد تغري بالقبض على التفاصيل والإمساك بها لحظة الكتابة. فلكل داخل دهشة، والكتابة ممارسة للدهشة ورغبة في الإدهاش. مع أنني لم أجد قطّ ميلاً للكتابة تحت تأثير الدهشة الأولى. كنت أخشى أن أتحوّل إلى ما يشبه أحمد فارس الشدياق معاصراً. كما أن الاغتراب كحالة يعيشها الفرد بعيداً عن وطنه الأم قد يمارس سطوته على الكاتب وقد يضفي جماليات على الكتابة يصعب إنكارها. جماليات قد يعيشها المواطن في بلده أيضاً، إذا ما اعتبرنا أن الكتابة هي قبض على لحظة الاغتراب واللاتوافق مع المحيط ومع الذات أحياناً». وبخصوص تجربة بلجيكا والكتابة داخل فضائها يقول صاحب ديوان «أكره الحب»: «بانسحابي إلى بروكسل، ابتعدتُ عن مناخ ثقافي كان يُعلي من شأن الجماعة ويمجّد العام والكلي. فقصائدي الأولى كتبتُها في الجامعة أمام الحشود... أما في بروكسل، فكنتُ أكتب وحيداً أمام حاسوب أخرس. ولهذا كانت نصوصي متخفّفة من كل إيقاع خارجي معلن. مع أنني لم أختر الكاتبة والمترجمة المغربية سهام بوهلال.jpg قطّ قصيدة النثر كشكل فني عن كامل اقتناع نظري مسبق. كما أنني لست معنياً بالدفاع عن هذا الاختيار الجمالي. لأن أمر قصيدة النثر لا يعنيني. فشكل القصيدة ليس دليلاً على شعريتها في كل الأحوال. كما أن التخفف من الصوت الجماعي لا يعني التنصل من القضايا الإنسانية. فالانفتاح الواعي للذات على محيطها وتمثلها العميق للأساسي والجوهري والمشترك يجعلها في قلب اللحظة الإنسانية». ولا ينسى طه الوصول إلى جوهر الموضوع «الهوية»، التي لا يعتبرها – مثل سهام بوهلال- مسألة نهائية بل هي صيرورة قيد التشكل وباستمرار. وعدم نهائيتها يجعلها تغتني بالآخر والمحيط. ويجعل الإحساس بالذات والآخر مسألة غير جامدة ولا متكلسة. وهذا يؤثر بوضوح على جماليات الكتابة. فالكتابة لا تحب اليقين. إنها بنت الشك والقلق والسؤال. وهذا بالضبط ما يضفي عليها طابعها الإنساني. فعندما هاجرتُ كان عمري 26 سنة. أي أنني وصلت إلى بلجيكا كبضاعة مغربية خالصة. أحمل لغة وثقافة وفكراً ووجداناً. ومن الصعب أن تطاوعني لغة كما يمكن للضاد أن تفعل. لذا فقد اعتمدتها ناطقاً رسمياً باسم الوجدان. بل واكتشفتُ أن اللغة العربية لغة طيعة منفتحة. ويمكنها التأقلم بسلاسة مع مفردات البيئة المختلفة. إذ لم تلجمني عن التطرّق إلى موضوعات حديثة معاصرة: من العولمة حتى الأنترنت. وكمواطن بلجيكي في مدينة متعددة الثقافات مثل بروكسل، أدافع عن كتابتي باللغة العربية باعتبارها لغة بروكسلية شأنها في ذلك شأن الفرنسية والهولندية والإيطالية والبرتغالية والأسبانية والإنكليزية واليونانية والبولندية والتركية والأمازيغية وغيرها من اللغات التي توشّي سماء العاصمة الأوروبية. هنا تصبح اللغة جزءاً من معركة المواطنة الثقافية في هذا البلد الذي ارتضيتُه لي وطناً ثانياً. معركة يربح فيها الطرفان، لأن اللغة العربية هي إحدى ثماني لغات يتحدث بها نصف سكان الأرض. لذا فالكتابة بها قد تكون إضافة للمنتج الثقافي داخل هذا الوطن «المهجري» الجديد. أما الإحساس بهذه الهوية- يُلخّص طه- التي يصعب نعتها بالمزدوجة لأنها متعدّدة بشكل لا نهائي، «فهو شأن شخصي. أنا مثلاً أعتبر نفسي مغربياً عربياً أمازيغياً أفريقياً وأندلسياً متوسطياً بلجيكياً أوروبياً... أنا ببساطة مواطن كوني أنتمي إلى قبيلة كبيرة تدعى الإنسانية». الكاتب المغربي المقيم أيضاً في بلجيكا عبد المنعم الشنتوف يقول إنه لا يستطيع ادعاء القدرة على فصل تجربته في الكتابة عن واقع إقامته في هذا البلد: «ثمة بكل تأكيد وعي راسخ بوجود فاصل موضوعي بين مرحلتين؛ ما قبل وما بعد الانتقال من المغرب إلى بلجيكا». ويعتقد أن تجربة اللقاء بالآخر بما هو حضور ثقافي وتاريخي واختلاف وتعدد قد مارست تأثيراً قوياً في رؤيته إلى الأشياء والظواهر وحمَلَتْه على أن ينجز قطيعة مع النظر إلى الآخر عبر استيهام أو تصورات مسبقة متعالية عن التاريخ. وفي هذا السياق، إذن، يقول عبد المنعم، «تغيرت رؤيتي إلى الهوية. لم تعد مُتسمة بثباتها وأُحاديتها وانغلاقها؛ بحكم أنها انفتحت بالضرورة على آفاق التعدد والاختلاف وغدتْ خصبة بتأثير الحوار والاطلاع على الخبرات المعرفية والجمالية المغايرة من حيث لغة الكتابة والمتخيل. تراودني قناعة عميقة باعتباري مغربياً يحمل الجنسية البلجيكية، وبالنظر إلى السمات الخاصة ببلجيكا بما هي بلد يشتمل على تركيبة لغوية وثقافية مفرطة في التعقيد بأنني لست مزدوج الهوية وإنما ذات مرهونة بفعل الاستضافة المطّردة للروافد الحياتية والمعرفية للآخر المغاير سواء أكان منتمياً إلى المجموعات اللغوية والثقافية المشكلة لبلجيكا أو مندرجاً في هذا التنويع الثقافي الهائل الوافد إليها من أركان العالم الأربعة. يمكنني في هذا المعرض، أن أرى إلى انشغالي بترجمة نصوص هذا الآخر إلى اللغة العربية باعتبارها تجسيداً لهذا الولع بالاستضافة ومن ثم تخصيب الهوية. ويمكنني أن أفترض من جهة أخرى أن الاختلاف الكائن بين كتاب المهجر الأوائل من قبيل الطاهر بن جلون وإدريس الشرايبي والكتاب الجدد، لا تكمن في المستوى الموضوعاتي وإنما تتأسس على استلزامات وأسئلة وانتظارات السياق الثقافي والتاريخي والاجتماعي الراهن». ينتهي الشنتوف إلى القول إن ما يميّز الآخر اليوم هو شراسة العولمة والانتشار الكارثي لقيمها ومفاهيمها علاوة على ثورة الشبكة العنكبوتية وما رافقها من خلخلة جذرية لمفاهيم الاتصال بين البشر. ويعتقد أن ثمة استمرارية تتخللها قطائع تهم بالدرجة الأولى الرؤى إلى العالم وأساليب ولغات الكتابة». قبل سنوات كان الكاتب المسرحي والقاص الشاب عبد الجبار خمران قد هاجر إلى فرنسا واستقرّ فيها، لكنه بدل اللجوء إلى لغة أخرى، اختار الاستمرار في الكتابة باللغة العربية، وهو يرى أن إشكالية الهوية وما جاورها وأزمة الاندماج وما يحيط بها، موضوعات مغرية للكتابة لدى الكتاب الجدد، ناهيك عن الهموم الذاتية الخاصة والحميمة التي تولّدها التجربة الشخصية في بلاد المهجر. ويرى صاحب المجموعة القصصية «قوارب بيضاء» أن الكتّاب الجدد يختلفون عن السابقين في الأسلوب والرؤيا. وقد استبدل بعضهم مفهوم «أدب المهجر» ب «أدب الإقامة» ، وما صار يعبّر عنه ب «المهجرية الجديدة» لم يعد يستكين الى ذلك الحنين الكلاسيكي الذي كانت ترسم ملامحه الغربة وانقطاع الأخبار وندرتها وقلة الجرائد العربية أو انعدامها. الثورة الإعلامية جعلت العالم أصغر من قرية، يقول الكاتب، إضافة إلى أن هناك كتّاباً من الجيل الثاني والثالث مولودون في بلد الاستقبال ومجنّسون بجنسيته. ومع ذلك يعتبرهم أهل البلد المستقبل، دوماً، من «هناك». وعندما يعودون إلى الوطن، يعتبرون أهل البلد من «هنا». إنهم أبناء الضفتين معاً، أما ما يشكل ملامح هويتهم فيرى عبد الجبار أننا لا نستطيع أن نكون مواطنين في زمن عولمة ينمّط ويستهلك ويمحو ويكتب على جدار الهوية ما يريد. ويتساءل: «كيف ندافع عن قيم التعايش الحقيقي وقبول الآخر بحق، بعيداً من كليشهات حوار الثقافات وتجسير الهوة الحضارية وغيرها مما ملأوا به آذاننا وعقولنا من كلمات رنانة لم تعد تُقنع عاقلاً؟ من هنا تُستمَد أساليب الكتابة وموضوعاتها لدى الكتاب الجدد، وربما السخرية أسلوب قد يحوي ما يتعرض له المهاجرون في واقع حافل بالمفارقات والمتناقضات، وخير دليل على ذلك هو أن أبرز الكوميديين في فرنسا في مجال الفرجة مثلاً من أصول مغاربية. والكتابة بدورها تحمل من تشريح للمتناقضات وتأمّل في المفارقات ما يمكن اعتباره سمة شاملة وطافحة. أما التميز عن أبناء الجيل والتفرد في الأسلوب فينسجه إصغاؤك العميق إلى صوتك الداخلي والانطلاق من تجربتك الذاتية وامتلاك رؤية تجعل من الكتابة في بلد غريب عنك عُدة لقراءة المجتمع والإصغاء إلى نبضه، وحياكة حساسية قريبة من واقع المهاجرين متمثلة لمختلف مشاكلهم وكذا التفاعل مع مختلف تجلياتها بخاصة أن المشاكل والأسئلة متغيرة وغير ثابتة وتسير بوتيرة سريعة. في النهاية يرى عبد الجبار أن «هناك جيلاً جديداً من الأسئلة والهواجس يتطلب جيلاً جديداً من الكتاب والأساليب». منذ البداية، يتذكّر القاص المترجم المقيم في فرنسا محمد المزديوي أن «الأسلوب هو الرجل»، ولهذا، ومن أجل كتابة نص الهجرة المتعدد، يمكن التعبير بألف طريقة. ويرى الكاتب أن ثمة أساليب متعددة بسبب تغيّر أنماط ولغات التعبير. «ثم لا تنس أن المَهَاجِرَ متعددة –يقول المزديوي- والأساليب مختلفة، فقد أصبحنا أمام كتاب وكاتبات يكتبون بلغات متعددة وبحساسيات متعددة». وبالنسبة له، إشكالية الهوية أمر محسوم من البداية: «أنا مغربي. ليس لديّ أي هاجس تماه مع اللغة الفرنسية. إني أعتبرها عامل إثراء لا مثيل له وليس أكثر! أحب اللغات الأخرى. ثم كم هو جميل ما يقوله الباحث اللساني الفرنسي جورج هجاج من أن أول مهنة في التاريخ ليست هي الدعارة أو البغاء، كما شاع، بل هي الترجمة من لغة إلى أخرى... الطاهر بن جلون في لندن.jpg أي هي اللغة». اللغة أساسية إذن عند الكاتب محمد المزديوي، لكن لا بأس من استخدام اللغة الفرنسية في ميادين الترجمة، وهو ما يقوم به أثناء ترجماته العديدة للقناة الفرنسية الأولى والخامسة! أكتب عن تجربتي الذاتية –يقول الكاتب- بانفرادية، ولعله، ربما، التميز الأساس... «ولأني من الذين يؤمنون بأن التخييل الذاتي هو المعين الذي لا ينضب في الكتابة فأنا أتصوّره الفيصل بيننا معشر الكتاب والكاتبات...». وعن حساسيته لقضايا المجتمع والمهاجرين يقول المزديوي إن درجة الحساسية تختلف بين هذا الكاتب وذاك. «وثمة من الكتاب السابقين المعروفين من يكره من العمال المهاجرين ويسخر منهم. أما في ما يخصني، شخصياً، فأنا أنتمي إلى هؤلاء وأعيش معهم وأحبهم ولا يمكنني إلا أن أكون بين ظهرانيهم. ولا يمكن إلا أن أكتب عنهم بحب...».