عمق الصداقة يجمع أخنوش وسانشيز    كأس العرب .. المنتخب الفلسطيني يتعادل مع تونس    تاريخ تسريح اللاعبين ل "كان 2025" يتغير.. فيفا يصدر قرارا جديدا يخدم الأندية    "مازاغان" يحتفي ب"البوناني" بإيقاعات إفريقية وذوق فريد    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها بأداء إيجابي    إيطاليا ماريتيما تطلق خطا بحريا مباشرا بين المغرب وإسبانيا    عام 2024 هو الأشد حرارة على الإطلاق في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا    مجلس المستشارين يصادق على مشروع قانون المالية لسنة 2026    التامني: غلاء أسعار السكن و"النوار" يفرغان الدعم المباشر من أهدافه وعلى الوزارة التدخل    أشادت إسبانيا بالإصلاحات التي قام بها المغرب بقيادة صاحب الجلالة الملك محمد السادس، وكذا بالمبادرات الملكية من أجل إفريقيا    المجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج يجدد التأكيد على مغربية الصحراء ويرحب بقرار مجلس الأمن 2797    أخنوش وسانشيز يشيدان بالدينامية الإيجابية في التعاون المغربي-الإسباني    العنف النفسي يتصدر حالات العنف المسجلة ضد النساء    "المستشارين" يقر مشروع قانون المالية    شهادة في حق الفنانة خلود البطيوي بمناسبة تكريمها في الدورة 14 للجامعة السينمائية بمكناس    شهادة في حق الأستاذ حفيظ العيساوي الرئيس الأسبق للجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب    حميد بناني: شاعر الصورة وفيلسوف الوجود    المغرب وإسبانيا يطلقان حقبة جديدة من الشراكة الاقتصادية بدعم المشاريع ذات الأولوية    مفاجآت في ملف "إسكوبار الصحراء"    المحكمة الإدارية بطنجة تؤجّل النظر في ملف عزل رئيس جماعة تزروت بسبب "اختلالات تدبيرية"    مبادرة "Be Proactive" تعزّز الوقاية من حساسية الأسنان في عيادات المغرب        اعتقال المعارض التونسي أحمد نجيب الشابي    وزير الخارجية الإسباني يستقبل بوريطة ويؤكد: العلاقات مع المغرب تعيش لحظة تاريخية    مونديال 2026 .. أنظار العالم تتجه صوب واشنطن لمتابعة سحب قرعة مرتقب بشدة    حملة إنسانية لسلطات العرائش لإيواء أشخاص في وضعية الشارع    بين الراي والراب الميلودي... Wrapped 2025 يرصد التحولات الموسيقية بالمغرب    المغرب وإسبانيا يُعززان تعاونهما القضائي عبر مذكرة تفاهم جديدة        مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    تعزيز التعاون المائي محور مباحثات مغربية–صينية في المؤتمر العالمي التاسع عشر للمياه بمراكش        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    البنك الإفريقي للتنمية يمنح ضمانة 450 مليون أورو لدعم "الاستثمار الأخضر" ل"أو سي بي"    ماكرون قلق بعد سجن صحافي بالجزائر    تقرير يكشف ضغط ترامب على نتنياهو بشأن غزة وسوريا    كورتوا: محظوظ لأن مبابي يلعب معي وليس ضدي    "فيفا" يعلن عن منع الزمالك من التعاقدات لثلاث فترات    قرار قضائي يهزّ جامعة الكراطي... والصباري يعيد الاعتبار لجهات الجنوب    "حبيبتي الدولة".. من تكون؟!: في زمن التشظي وغياب اليقين    قضية بشرى كربوبي تتفجر.. الحكمة الدولية تقاضي مسؤولا بعصبة سوس ماسة بالتشهير    وقفة احتجاجية في المحمدية للتنديد بانتهاك إسرائيل لاتفاق وقف النار بغزة    الشيخي القيادي ب"العدالة والتنمية" يوجّه رسالة شديدة اللهجة لوهبي ويتهمه ب"الإساءة للبرلمان وانحدار الخطاب السياسي"    "قمة دول الخليج" تشيد بجهود الملك    مشاهير عالميون يطالبون إسرائيل بإطلاق سراح القيادي الفلسطيني البارز مروان البرغوثي    إصابتان في معسكر "المنتخب الوطني" بقطر..    الصين: مدينة ايوو تسجل رقما قياسيا في حجم التجارة يتجاوز 99 مليار دولار    دراسة: الرياضة تخفف أعراض اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه    من الكروج إلى داحا.. أربعة عمال تعاقبوا ومحطة الطرقية الجديدة ما تزال مغلقة    الشرفي يلقي خطاب عضوية "أكاديمية المملكة" ويرصد "غزو علمنة المجتمع"    نصائح صحية: هذه الأغذية تهددك ب"النقرس"!    "الصحة العالمية" توصي بأدوية "جي إل بي-1" لمكافحة السمنة    التهراوي : انخفاض حالات الإصابة الجديدة بالسيدا خلال السنوات العشر الأخيرة    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    الأوقاف تكشف عن آجال التسجيل الإلكتروني لموسم الحج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    موسم حج 1448ه... تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    إصدار جديد من سلسلة تراث فجيج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكتاب المغاربة في المهجر يعانون انفصام الهوية
نشر في مغارب كم يوم 08 - 11 - 2010

لم يعد الكتّاب المغاربة المقيمون خارج الوطن يشكّلون كلاًّ متجانساً، ولم تعد لغتهم وقضاياهم موحّدة، بل تشعّبت التجربة واغتنت وتنوعت. الآن، أصبح لدينا كتاب مغاربة يقيمون في أوروبا لكنهم لا يتنازلون وقت الكتابة عن اللغة الأم. لقد التحق بكتّاب الفرنسية فيلق من الكتاب، بين شعراء وروائيين وقصاصين، يكتبون بالعربية ويتوجّهون إلى جمهور عربي ومغربي، إلى جانب من حرصوا بفعل تكوينهم، على الاستمرار- كسابقيهم - في الكتابة بلغة أجنبية.
هنا نتساءل: ما هي الموضوعات التي يكتُب عنها الكتاب المغاربة الجدد في المهجر؟ هل تختلف قضاياهم عن قضايا السابقين أمثال الطاهر بنجلون وإدريس الشرايبي ومحمد خير الدين أم تسير في الاتجاه نفسه؟ ما هي أساليب الكتابة لديهم وما هي الموضوعات القريبة إلى وجدانهم؟ كيف يتعامل الكاتب العربي الجديد المقيم في بلاد المهجر مع إشكالية الهوية المزدوجة؟ وهل يعتبر نفسه مغربياً أم أوروبياً؟ أيهما أسبق بالنسبة له: اللغة أم المكان؟ هل يتفاعل مع مشكلات المهاجرين المغاربة أم تظلّ الكتابة داخل سياجها الفني؟
حين طرحت «الحياة» هذه الأسئلة، على بعض من الكتّاب الجدد، اختلفتْ إجاباتهم وتنوّعتْ واتخذتْ مسارات مفاجئة. أجاب بعضهم عن الأسئلة مباشرة ودقّق في التفاصيل، بينما تحدّث آخرون عموماً عن تجاربهم، إيماناً منهم بأن معرفة التجربة الذاتية، أنسب طريق نحو تشكيل فكرة عن الصورة العامة للكتابة المهاجِرة الجديدة.
قبل أن تبدأ في الحديث عن أي تميّز أو اختلاف يطبع التجربة الجديدة، ترفض الكاتبة والمترجمة المغربية سهام بوهلال أن تضع كلّ الكتّاب المؤسّسين في سلة واحدة، وتضرب صفحاً عن المقارنة بين «كاتب يتقمص الكتابة وتتقمصه، مهووس بها كخير الدين الذي حقق المعنى الفعلي للكاتب، صاحب الكتابة العنيفة الثائرة أو إدريس الشرايبي الذي حقق هذه الصورة في روايته الأولى «الماضي البسيط» وبين آخرين وإن كانوا من جيلهم». وتقول سهام أنها لا تقرأ بطريقة تلقائية لكل مغربي أو مغاربي لأنها تنظر بحذر إلى فكرة الكاتب «الفرنكفوني»، وتكرّس جهودها للإطلاع على كتاب كبار كانوا مغاربيين أم لا. وبصيغة أخرى قيمة الكاتب لدى سهام أهم من أي اعتبار آخر. تتحمّسُ صاحبة كتاب «الأميرة الأمازيغية» للكاتب المغربي الشاب المقيم في فرنسا محمد حمودان وتعتبره صاحب كتابة متينة وأسلوب شبيه بالحمى، إنه وريث محمد خير الدين- تقول-، أما بالنسبة للموضوعات «فهي تظل قريبة بعضها من بعض وتتعلق غالباً بالوطن الأم أو المدينة أو القرية. وتتساءل الكاتبة: «هل هناك هوية مزدوجة؟ أم إن هذه الإزدواجية اختراع المصالح المغلّفة بالانتماء؟» وتعتقد بأن لدى الكاتب رؤيا تعددية بحكم اطلاعه على كتابات أخرى وكتاب من أصول مختلفة. هوية الكاتب - إذا سلّمنا بأن مسألة ما نسميه «الهوية» هي مسألة أساسية بالنسبة له - هي كتاباته وما تحمل من خصوصيات تتعلّق به، وأخرى علقتْ به من خلال قراءاته وأسفاره واختلاطه بالآخرين.
وتَخْلُصُ سهام التي اشتغلت لسنوات على ترجمة النصوص العربية القديمة واحتَفتْ بفلاسفة وأدباء عرب وقدّمتهم إلى القارئ الغربي إلى أن «ليست هناك حالة أسبق من الأخرى بل حالات هي مني ولا أستطيع تفكيكها». مساري – تقول سهام - هو الاشتغال على الأدب وفي الوقت نفسه على ترجمة الأدب العربي القديم بفعل تكويني الأكاديمي، لثقتي بأن معرفة الماضي- ماضي الثقافة التي أنتمي إليها- هو الذي يعطي معنى لحاضر نعيشه ومستقبل نترقبه. أما مشاكل المهاجرين فترى أنها تكمن في إشكال سياسي، وهي ككاتبة لا تعتقد أن موضوع الهجرة يعنيها بصفة مطلقة، فالكاتب نفسه قد يعيش ظروفاً أسوأ من الآخرين ولا يمكننا أن نكرّس أجيالاً للكتابة حول هذا الموضوع. للشاعر وللكاتب طبعاً مهمة إدانة الظلم وكل ما يمس بالحرية ويهدد وجود الأشخاص ولكن أيضاً له الحرية في اختيار طرق التعبير والتضامن مع أي واقع ما من عدمه».
أجوبة الشاعر المغربي والناشط في المجال الأدبي في بلجيكا طه عدنان كانت شخصية، وقاربت التجربة الذاتية في اتصالها مع محيط انتقل إليه الشاعر بعد أن نما وتشكّل مشروعه الأدبي. يقول طه متحدثاً عن تجربة الكتابة المغربية في بلجيكا إنه «على رغم زهاء نصف قرن من الحضور المغربي بهذا البلد كان يجب انتظار منتصف الثمانينات لاستقبال أول رواية لكاتبة مغربية من الجيل الثاني للهجرة تدعى ليلى الهواري. روايتها الأولى بالفرنسية «زايدة من لا مكان» كانت تشبه في تمزّقها تمزّق جيلٍ من المغاربة يعيشون في المنزلة بين المنزلتين، ما بين الهنا والهناك. وهو ما لم يعشه جيل بن جلون والشرايبي وخير الدين. فأولئك كانوا مطمئنين إلى مغربيتهم مهما أوغلوا في المعارضة والرفض أحياناً. أما الذين التحقوا في ما بعد بالهجرة خلال سنوات التسعينات، فكان من الصعب عليهم استعادة أصوات المغتربين السابقين حيث المنفى مستبدّ بكتابتهم والغربة مهيمنة على موضوعاتهم. فقبل عقدٍ ونصف، كان المنفى قائماً لا يزال. عندما كان على المنفيّ أن ينتظر طويلاً قبل أن تصله جريدة تحمل من أخبار البلد ما سمحت به الرقابة». مع ذلك يستدرك طه ويتساءل: «عن أيّ منفى نتحدث الآن في زمن الهواتف المحمولة والفضائيات والأنترنت؟ كما أنّي لستُ مولعاً بمصطلح الاغتراب». ف«الاغتراب حالة يمكن للمرء أن يعيشها من دون أن يبرح وطنه. الوطن المُبرِّح يمكن أن تعيش فيه اغتراباً مضاعفاً، كالوطن المفلس تماماً. ألم يقل الإمام علي: «الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن»؟ أما الاغتراب، الذي يجعل حامل صفته لدى البعض شخصاً جديراً بالتعاطف، فقد حرّض عليه الأقدمون ونصّبوه صنواً للتجدّد ورديفاً له».
يؤمن طه عدنان بحكاية التجدّد، ويقول إن الفترة الوحيدة التي شَعَرَ فيها بما يشبه الغربة كانت خلال سفره الأول عام 1996. «وأنا في الباخرة- يقول طه مستعيداً تفاصيل لحظاته الأولى خارج البلد- صرّفت مئة فرنك فرنسي مقابل حفنة من البيزيتات الإسبانية. حينما وصلنا إلى الخزيرات، تحلّق حولنا حمّالون أنيقون. كانوا يجرّون عربات صغيرة تتربّص بحقائبنا المثقلة. أشرتُ إلى إسباني شاب ليتكفّل بأمر حمولتي. كان وسيماً مثل أبطال السينما. وكنتُ فخوراً وأنا أتبعه كسيّد حديث العهد بالسيادة. حينما أوصلني إلى الحافلة بادرني بقشتالية لم أفهمها... بعد ساعات من السفر، دخلنا إلى فرنسا. هناك على الأقل لم أعد غريباً. أقصد لم أعد غريب اللسان تماماً».
ويستدرك طه مرة أخرى مقارباً الموضوع من زاوية الكاتب: «لكن هذا لا يعني أن لا تأثير لعامل البعد الجغرافي على الكتابة. فالمسافة مع الوطن الأصلي تجعل رؤيتك له أصفى من عين الديك. كما أن نظرتك النظيفة إلى عالم جديد تغري بالقبض على التفاصيل والإمساك بها لحظة الكتابة. فلكل داخل دهشة، والكتابة ممارسة للدهشة ورغبة في الإدهاش. مع أنني لم أجد قطّ ميلاً للكتابة تحت تأثير الدهشة الأولى. كنت أخشى أن أتحوّل إلى ما يشبه أحمد فارس الشدياق معاصراً. كما أن الاغتراب كحالة يعيشها الفرد بعيداً عن وطنه الأم قد يمارس سطوته على الكاتب وقد يضفي جماليات على الكتابة يصعب إنكارها. جماليات قد يعيشها المواطن في بلده أيضاً، إذا ما اعتبرنا أن الكتابة هي قبض على لحظة الاغتراب واللاتوافق مع المحيط ومع الذات أحياناً».
وبخصوص تجربة بلجيكا والكتابة داخل فضائها يقول صاحب ديوان «أكره الحب»: «بانسحابي إلى بروكسل، ابتعدتُ عن مناخ ثقافي كان يُعلي من شأن الجماعة ويمجّد العام والكلي. فقصائدي الأولى كتبتُها في الجامعة أمام الحشود... أما في بروكسل، فكنتُ أكتب وحيداً أمام حاسوب أخرس. ولهذا كانت نصوصي متخفّفة من كل إيقاع خارجي معلن. مع أنني لم أختر الكاتبة والمترجمة المغربية سهام بوهلال.jpg قطّ قصيدة النثر كشكل فني عن كامل اقتناع نظري مسبق. كما أنني لست معنياً بالدفاع عن هذا الاختيار الجمالي. لأن أمر قصيدة النثر لا يعنيني. فشكل القصيدة ليس دليلاً على شعريتها في كل الأحوال. كما أن التخفف من الصوت الجماعي لا يعني التنصل من القضايا الإنسانية. فالانفتاح الواعي للذات على محيطها وتمثلها العميق للأساسي والجوهري والمشترك يجعلها في قلب اللحظة الإنسانية».
ولا ينسى طه الوصول إلى جوهر الموضوع «الهوية»، التي لا يعتبرها – مثل سهام بوهلال- مسألة نهائية بل هي صيرورة قيد التشكل وباستمرار. وعدم نهائيتها يجعلها تغتني بالآخر والمحيط. ويجعل الإحساس بالذات والآخر مسألة غير جامدة ولا متكلسة.
وهذا يؤثر بوضوح على جماليات الكتابة. فالكتابة لا تحب اليقين. إنها بنت الشك والقلق والسؤال. وهذا بالضبط ما يضفي عليها طابعها الإنساني. فعندما هاجرتُ كان عمري 26 سنة. أي أنني وصلت إلى بلجيكا كبضاعة مغربية خالصة. أحمل لغة وثقافة وفكراً ووجداناً. ومن الصعب أن تطاوعني لغة كما يمكن للضاد أن تفعل. لذا فقد اعتمدتها ناطقاً رسمياً باسم الوجدان. بل واكتشفتُ أن اللغة العربية لغة طيعة منفتحة. ويمكنها التأقلم بسلاسة مع مفردات البيئة المختلفة. إذ لم تلجمني عن التطرّق إلى موضوعات حديثة معاصرة: من العولمة حتى الأنترنت. وكمواطن بلجيكي في مدينة متعددة الثقافات مثل بروكسل، أدافع عن كتابتي باللغة العربية باعتبارها لغة بروكسلية شأنها في ذلك شأن الفرنسية والهولندية والإيطالية والبرتغالية والأسبانية والإنكليزية واليونانية والبولندية والتركية والأمازيغية وغيرها من اللغات التي توشّي سماء العاصمة الأوروبية. هنا تصبح اللغة جزءاً من معركة المواطنة الثقافية في هذا البلد الذي ارتضيتُه لي وطناً ثانياً. معركة يربح فيها الطرفان، لأن اللغة العربية هي إحدى ثماني لغات يتحدث بها نصف سكان الأرض. لذا فالكتابة بها قد تكون إضافة للمنتج الثقافي داخل هذا الوطن «المهجري» الجديد.
أما الإحساس بهذه الهوية- يُلخّص طه- التي يصعب نعتها بالمزدوجة لأنها متعدّدة بشكل لا نهائي، «فهو شأن شخصي. أنا مثلاً أعتبر نفسي مغربياً عربياً أمازيغياً أفريقياً وأندلسياً متوسطياً بلجيكياً أوروبياً... أنا ببساطة مواطن كوني أنتمي إلى قبيلة كبيرة تدعى الإنسانية».
الكاتب المغربي المقيم أيضاً في بلجيكا عبد المنعم الشنتوف يقول إنه لا يستطيع ادعاء القدرة على فصل تجربته في الكتابة عن واقع إقامته في هذا البلد: «ثمة بكل تأكيد وعي راسخ بوجود فاصل موضوعي بين مرحلتين؛ ما قبل وما بعد الانتقال من المغرب إلى بلجيكا». ويعتقد أن تجربة اللقاء بالآخر بما هو حضور ثقافي وتاريخي واختلاف وتعدد قد مارست تأثيراً قوياً في رؤيته إلى الأشياء والظواهر وحمَلَتْه على أن ينجز قطيعة مع النظر إلى الآخر عبر استيهام أو تصورات مسبقة متعالية عن التاريخ. وفي هذا السياق، إذن، يقول عبد المنعم، «تغيرت رؤيتي إلى الهوية. لم تعد مُتسمة بثباتها وأُحاديتها وانغلاقها؛ بحكم أنها انفتحت بالضرورة على آفاق التعدد والاختلاف وغدتْ خصبة بتأثير الحوار والاطلاع على الخبرات المعرفية والجمالية المغايرة من حيث لغة الكتابة والمتخيل. تراودني قناعة عميقة باعتباري مغربياً يحمل الجنسية البلجيكية، وبالنظر إلى السمات الخاصة ببلجيكا بما هي بلد يشتمل على تركيبة لغوية وثقافية مفرطة في التعقيد بأنني لست مزدوج الهوية وإنما ذات مرهونة بفعل الاستضافة المطّردة للروافد الحياتية والمعرفية للآخر المغاير سواء أكان منتمياً إلى المجموعات اللغوية والثقافية المشكلة لبلجيكا أو مندرجاً في هذا التنويع الثقافي الهائل الوافد إليها من أركان العالم الأربعة. يمكنني في هذا المعرض، أن أرى إلى انشغالي بترجمة نصوص هذا الآخر إلى اللغة العربية باعتبارها تجسيداً لهذا الولع بالاستضافة ومن ثم تخصيب الهوية.
ويمكنني أن أفترض من جهة أخرى أن الاختلاف الكائن بين كتاب المهجر الأوائل من قبيل الطاهر بن جلون وإدريس الشرايبي والكتاب الجدد، لا تكمن في المستوى الموضوعاتي وإنما تتأسس على استلزامات وأسئلة وانتظارات السياق الثقافي والتاريخي والاجتماعي الراهن». ينتهي الشنتوف إلى القول إن ما يميّز الآخر اليوم هو شراسة العولمة والانتشار الكارثي لقيمها ومفاهيمها علاوة على ثورة الشبكة العنكبوتية وما رافقها من خلخلة جذرية لمفاهيم الاتصال بين البشر. ويعتقد أن ثمة استمرارية تتخللها قطائع تهم بالدرجة الأولى الرؤى إلى العالم وأساليب ولغات الكتابة».
قبل سنوات كان الكاتب المسرحي والقاص الشاب عبد الجبار خمران قد هاجر إلى فرنسا واستقرّ فيها، لكنه بدل اللجوء إلى لغة أخرى، اختار الاستمرار في الكتابة باللغة العربية، وهو يرى أن إشكالية الهوية وما جاورها وأزمة الاندماج وما يحيط بها، موضوعات مغرية للكتابة لدى الكتاب الجدد، ناهيك عن الهموم الذاتية الخاصة والحميمة التي تولّدها التجربة الشخصية في بلاد المهجر. ويرى صاحب المجموعة القصصية «قوارب بيضاء» أن الكتّاب الجدد يختلفون عن السابقين في الأسلوب والرؤيا. وقد استبدل بعضهم مفهوم «أدب المهجر» ب «أدب الإقامة» ، وما صار يعبّر عنه ب «المهجرية الجديدة» لم يعد يستكين الى ذلك الحنين الكلاسيكي الذي كانت ترسم ملامحه الغربة وانقطاع الأخبار وندرتها وقلة الجرائد العربية أو انعدامها. الثورة الإعلامية جعلت العالم أصغر من قرية، يقول الكاتب، إضافة إلى أن هناك كتّاباً من الجيل الثاني والثالث مولودون في بلد الاستقبال ومجنّسون بجنسيته. ومع ذلك يعتبرهم أهل البلد المستقبل، دوماً، من «هناك». وعندما يعودون إلى الوطن، يعتبرون أهل البلد من «هنا». إنهم أبناء الضفتين معاً، أما ما يشكل ملامح هويتهم فيرى عبد الجبار أننا لا نستطيع أن نكون مواطنين في زمن عولمة ينمّط ويستهلك ويمحو ويكتب على جدار الهوية ما يريد. ويتساءل: «كيف ندافع عن قيم التعايش الحقيقي وقبول الآخر بحق، بعيداً من كليشهات حوار الثقافات وتجسير الهوة الحضارية وغيرها مما ملأوا به آذاننا وعقولنا من كلمات رنانة لم تعد تُقنع عاقلاً؟ من هنا تُستمَد أساليب الكتابة وموضوعاتها لدى الكتاب الجدد، وربما السخرية أسلوب قد يحوي ما يتعرض له المهاجرون في واقع حافل بالمفارقات والمتناقضات، وخير دليل على ذلك هو أن أبرز الكوميديين في فرنسا في مجال الفرجة مثلاً من أصول مغاربية. والكتابة بدورها تحمل من تشريح للمتناقضات وتأمّل في المفارقات ما يمكن اعتباره سمة شاملة وطافحة. أما التميز عن أبناء الجيل والتفرد في الأسلوب فينسجه إصغاؤك العميق إلى صوتك الداخلي والانطلاق من تجربتك الذاتية وامتلاك رؤية تجعل من الكتابة في بلد غريب عنك عُدة لقراءة المجتمع والإصغاء إلى نبضه، وحياكة حساسية قريبة من واقع المهاجرين متمثلة لمختلف مشاكلهم وكذا التفاعل مع مختلف تجلياتها بخاصة أن المشاكل والأسئلة متغيرة وغير ثابتة وتسير بوتيرة سريعة. في النهاية يرى عبد الجبار أن «هناك جيلاً جديداً من الأسئلة والهواجس يتطلب جيلاً جديداً من الكتاب والأساليب».
منذ البداية، يتذكّر القاص المترجم المقيم في فرنسا محمد المزديوي أن «الأسلوب هو الرجل»، ولهذا، ومن أجل كتابة نص الهجرة المتعدد، يمكن التعبير بألف طريقة. ويرى الكاتب أن ثمة أساليب متعددة بسبب تغيّر أنماط ولغات التعبير. «ثم لا تنس أن المَهَاجِرَ متعددة –يقول المزديوي- والأساليب مختلفة، فقد أصبحنا أمام كتاب وكاتبات يكتبون بلغات متعددة وبحساسيات متعددة».
وبالنسبة له، إشكالية الهوية أمر محسوم من البداية: «أنا مغربي. ليس لديّ أي هاجس تماه مع اللغة الفرنسية. إني أعتبرها عامل إثراء لا مثيل له وليس أكثر! أحب اللغات الأخرى. ثم كم هو جميل ما يقوله الباحث اللساني الفرنسي جورج هجاج من أن أول مهنة في التاريخ ليست هي الدعارة أو البغاء، كما شاع، بل هي الترجمة من لغة إلى أخرى... الطاهر بن جلون في لندن.jpg أي هي اللغة». اللغة أساسية إذن عند الكاتب محمد المزديوي، لكن لا بأس من استخدام اللغة الفرنسية في ميادين الترجمة، وهو ما يقوم به أثناء ترجماته العديدة للقناة الفرنسية الأولى والخامسة!
أكتب عن تجربتي الذاتية –يقول الكاتب- بانفرادية، ولعله، ربما، التميز الأساس... «ولأني من الذين يؤمنون بأن التخييل الذاتي هو المعين الذي لا ينضب في الكتابة فأنا أتصوّره الفيصل بيننا معشر الكتاب والكاتبات...». وعن حساسيته لقضايا المجتمع والمهاجرين يقول المزديوي إن درجة الحساسية تختلف بين هذا الكاتب وذاك. «وثمة من الكتاب السابقين المعروفين من يكره من العمال المهاجرين ويسخر منهم. أما في ما يخصني، شخصياً، فأنا أنتمي إلى هؤلاء وأعيش معهم وأحبهم ولا يمكنني إلا أن أكون بين ظهرانيهم. ولا يمكن إلا أن أكتب عنهم بحب...».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.