د.نورالدين عادل* الجمعة 13 يوليوز 2012 - 12:01 التقيت بأحد تلامذتي بعد الإعلان عن نتائج امتحانات الباكلوريا في دورتها العادية بأيام، باركت له النجاح والميزة(نجح بمعدل 15.80 ) لم أجد في رده الحماس والفرح الذي كنت أنتظر، سألته: ماذا بعد الباكلوريا؟ ازداد صوته ذبولا وهو يجيبني:"اتْصَيَّتْ أَأُستاذ، لم أُقبل في الأقسام التحضيرية ولا في الفرز الأولي لاجتياز مباراة الولوج للمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية (ENA) ولم أقبل في" MILITAIRE"، ثم أنهى جوابه بقرار تأجيل استكمال تكوينه بهذه المؤسسات العليا إلى السنة المقبلة ليعاود الترشح، عسى وعسى. حاولت أن أبدد جزءا من خيبة أمله، فسألته: هل ترشحت لمسالك دراسية أخرى؟ رد علي: لم يبق لي إلا FST (كلية العلوم والتقنيات). حاول المسكين أن يقنع نفسه بأن سبب هذه الخيبة خارج عن إرادته حين واصل كلامه قائلا: هل تعلم يا أستاذ أني حصلت في الامتحان الوطني على 20 في الرياضيات و18 في الفيزياء، ورغم ذلك لم أقبل في الأقسام التحضيرية ولا في ENA. أجبته: ستقبل في FST إن شاء الله خاصة وأنك اخترت مسلك MI( الرياضيات والإعلاميات) وهم يختارون التلاميذ المتفوقين في الرياضيات والفيزياء والفرنسية، ثم إنه يمكنك الولوج بعدها إلى المدارس العليا من خلال اجتياز المبارة الوطنية التي تنظم في وجه طلبة FST الذين قضوا السنتين الأوليتين دون تفويت أي وحدة دراسية. ابتسم صاحبي حين سمع هذا الخبر، ثم أخبرته أيضا أن هذا الامتحان الوطني مفتوح أيضا أمام الحاصلين على دبلوم التقني العالي BTS ازدادت ابتسامة المسكين، وقال: إذن هناك طرق متعدد للالتحاق بالمدارس العليا. شكرني على الاهتمام، وانصرف بعد أن تواصينا على مواصلة الاجتهاد رغم الاكراهات الحقيقية، واستحضرنا مثال النهر الجاري الذي يواصل سيره نحو مصبه رغم كل الحواجز. الحاصلون على الباكلوريا في مفترق الطرق. فارقني شبح التلميذ المسكين، ولم يفارقني القلق عن مصير تلامذتنا الحاصلين على الباكلوريا، إذا كان كل هذا القلق ينتاب من حصل على ميزة مشرفة فكيف يكون حال من نجح ب"مقبول"، هل فعلا سيقبل لمواصلة تكوينه العلمي حتى يصل إلى تحقيق استقراره النفسي والمادي من خلال الاندماج الموفق في ميدان العمل. هل كل الحاصلين على الباكلوريا يتمتعون بالمؤهلات المطلوبة لمواصلة مسار التحصيل الدراسي، أم إنه من الأفضل لكثير منهم اختيار مسلك مهني يسمح لهم بإتقان مهنة معينة تمكنهم من الولوج لميدان الشغل الذي يشكوا من نقص ذوي الكفاءات المهنية المتخصصة، خاصة أن فرصة التكوين المستمر تبقى مفتوحة لمن لمس من نفسه الرغبة والاستعداد؟ أليس نظامنا التعليمي في حاجة إلى بناء وعي لذى التلاميذ بالآفاق المهنية والعلمية المتاحة حتى يسهل على كل تلميذ وتلميذة اختيار المسلك المناسب لطاقته وقدراته؟ ألم يوكل ميثاق التربية والتكوين في مواده 99 و100 و101 هذه المهمة لهيئة الاستشارة والتوجيه؟ هل فعلا توفرت شروط عمل جهاز الاستشارة والتوجيه ليقوم بمهامه؟ وكيف لأطر الاستشارة والتوجيه أن تقوم بمهمتها وكل واحد منهم مكلف ب 2400 تلميذ خلال الموسم الدراسي الواحد، ومطلوب إليه معرفة قدرات كل تلميذ على حدة، وإطلاعه على المسارات الدراسية والتكوينية الممكنة، ومساعدته على اختيار المسلك المناسب لتحقيق الاندماج الناجح في عالم الشغل؟ ألا يُعد التوجيه مسؤولية مجتمعية، للأسرة والإعلام ومؤسسات التشغيل ومؤسسات المجتمع المدني اليد الطولى لإنجاحه؟ إن أغلب أبنائنا وبناتنا في حالة قلق واضطراب حتى بعد الحصول على الباكلوريا، كان كل جهدهم منصب على نيل شهادة الباكلوريا، وبعد الحصول عليها وجدوا أنفسهم أمام سؤال:ماذا بعد الباكلوريا؟ التوجيه مسؤولية مجتمعية: إن تبديد القلق الذي يساور تلامذتنا في مرحلة مابعد الباكلوريا متوقف على تظافر جهود الفاعلين في الشأن التربوي بدءا بالأسرة ومرورا بالمؤسسات الإعلامية والمقاولاتية وانتهاءا بعمل الوزارة الوصية ونشاط مؤسسات المجتمع المدني. إن الأسرة مدعوة لتقديم الدعم النفسي لأبنائها وبناتها حتى يشعروا بثقتهم في ذواتهم كما أن عليها توفير أسباب الاستقرار الذي يمكنهم من حسن الاختيار. وعلى الإعلام المدرسي والصحفي أن يوفر المعلومة المرتبطة بالاختيارات المتاحة، والمسارات العلمية والمهنية الممكنة، وكيفية الولوج إليها. والإعلام المرئي مطالب أكثر من غيره بتخصيص برامج تعنى بالحرف والمهن والوظائف المتوفرة في القطاعين الخاص والعام لأن ذلك سيساعد تلامذتنا على بناء رؤية لمستقبلهم المهني والعملي. ولابأس من التذكير أنه يشترط في هذه البرامج التمتع بكل مواصفات المنتوج الإعلامي الذي ينقل المعلومة من مصادرها الموثوقة ويبثها في جمهور المشاهدين بعد أن يجملها بالصوت الحسن، والإخراج المتقن على أن يختار لها الأوقات المناسبة ولايسأم من الإعادة. ولعل تجربة قنواتنا مع الإشهار تفيدهم في هذا الباب إذ صارت لذيهم القدرة على إقناع بل إرغام المشاهد والمستمع على حفظ المادة الإشهارية من أولها إلى آخرها، حتى أضحى مضمون الإشهار جزء من الذاكرة الجماعية لعموم النظارة الكرام. ولمؤسسات المجتمع المدني المجال الواسع لتطوير مهارات تلامذتنا التواصلية، وتنمية قدراتهم في التسيير والتدبير من خلال الانخراط الواعي والمسؤول في أنشطة الجمعيات والمنظمات وباقي فضاءات المجتمع المدني. وعلى الوزارة الوصية أن تعيد النظر في مساطر الانتقال من مرحلة دراسية إلى أخرى؛ فليس كل التلامذة الحاصلين على شهادة التعليم الثانوي الإعدادي في حاجة لمواصلة التكوين النظري بالتعليم الثانوي التأهيلي بل إن رغبة كثير منهم ستقوى على التكوين إذا تم احتضانهم مبكرا (منذ السنة الأولى ثانوي إعدادي) وتوجيههم بعناية إلى التكوين المهني المتخصص. ولعل من أسباب الفشل الدراسي عند بعض تلامذتنا هو هذا المرور بدون تأشيرة لكل من هبّ ودبّ من مرحلة التعليم الثانوي الإعدادي إلى مرحلة الثانوي التأهيلي بحجة الخريطة المدرسية التي تستدعي أن يفرغ التلميذ القديم مقعده للتلميذ الجديد، ولاسبيل لذلك إلا الانتقال ولو بمعدل أقل من المعدل. كما أن الوزارة مطالبة بمراعاة مقتضيات تكافؤ الفرص أمام المترشحين لولوج المدارس والمعاهد العليا من خلال الإعلان عن مسطرة الانتقاء الأولي، فليس من المعقول مثلا أن يتم قبول طلبات ترشيح تلامذة البعثة الفرنسية لاجتياز مباراة الولوج للمدرسة الوطنية للهندسة بمعدل قد يصل ل 14 على 20 في حين يحرم الحاصلون على 16 على 20 من تلامذة المدرسة المغربية من القطاعين الخاص والعام لاجتياز نفس المباراة(جرى العمل بهذا القرار إلى حدود الموسم الدراسي 2011/2012 كما أشار إلى ذلك سؤال أحد النواب في قبة البرلمان، ولاأدري هل تراجعت الوزارة على هذا الحيف في حق أبناء المدرسة المغربية بالنسبة للمباراة المهيئة للموسم الدراسي 2012/2013 أم لا؟) ثم إنه صار من اللازم تخصيص حصة أسبوعية لتلامذة الثانوي الإعدادي والتأهيلي للإعلام والتوجيه تمكنهم من الإعداد الواعي والمسؤول لمابعد الباكلوريا. وفي انتظار أن تعدّ الوزارة المعنية لهذا الأمر عدّته يمكن الانطلاق من الآن في إنتاج برامج في الإعلام والتوجيه تبث عبر قناة الرابعة وباقي القنوات الإعلامية على أن تستثمر هذه البرامج وكل ماسبق انجازه من طرف أطر الاستشارة والتوجيه من خلال تجميعه في قرص مدمج تتكلف جمعية آباء وأمهات وأولياء التلاميذ توفير نسخة منه لكل تلاميذ خلال "أيام التوجيه" التي أقترح أن تدرج ضمن محطات الموسم الدراسي تحييه كل مؤسسة من مؤسسات التعليم الثانوي بشقيه الإعدادي والتأهيلي وسط السنة، خاصة في الأسبوع الذي يسبق عطلة نهاية الدورة الأولى من خلال أنشطة في الإعلام المدرسي يشارك في إعدادها وتقديمها تلامذة المؤسسة تحت إشراف الأطر التربوية والإدارية وبحضور وازن لأطر الاستشارة والتوجيه. ويمكن أن تشارك المقاولة في إنجاح هذه المحطة الهامة في مسار تلامذتنا من خلال فتح أبوابها لاستقبال زيارات ميدانية لأفواج من التلاميذ تمكنهم من الاقتراب من ميدان الشغل والتعرف على الكفاءات المطلوبة للنجاح فيه. وسيكون لهذه الزيارات أثر كبير في بعث رغبة التلاميذ على التحصيل الجيد ووضوح الأفق المهني، وبناء مشروع شخصي حقيقي. وإلى ذلك الحين، لابأس من النظر في تجارب من حولنا عسى أن يكون لنا فيها اعتبار، وسأعرض في هذا المقام التجربة السويسرية في مجال التوجيه الدراسي. التجربة السويسرية للعبقرية، في هذه التجربة، مجالها المفتوح للنجاح بلا حدود، نجاح في العلم والابتكار ونجاح في الكسب والجاه. أول مايميز النظام التعليمي السويسري كونه نظام تعليمي تدريبي؛ يقوم على تحصيل المبادئ النظرية للعلوم واكتساب المهارات اليدوية في التطبيق. فكانت الحصيلة تقدير للجودة الحرفية ودعم للعبقريات المبتكرة. يخصص النظام التعليمي التدريبي سنواته التسع الأولى للتعليم الأساسي، حيث تلقن المبادئ العامة للعلوم مع التربية على الجدية. ثم يقوم نظام التوجيه المتخصص(الذي واكب المتعلم منذ سنواته الأولى بمشاركة الأسرة) على توجيه: % 90 من خريجي التعليم الأساسي إلى المدارس المهنية وفق نتائج الاختبارات الفرزية. يوجه المتعلم وهو ابن 15 سنة إلى حرفة يتخصص فيها وهو غض، هيئ لها قبل ذلك تهيئا نفسيا، وحصرت فيها الأسرة طموحها، وقدّرها المجتمع تقديرا، وكافأها المركب الصناعي مكافأة. % 7 يسلكون إلى التعليم الثانوي لتحصيل تعليم نظري متوسط زيادة على التدريب العملي الذي هو الهدف. % 3 يسلكون إلى التعليم العالي ليتلقوا دائما مع التعليم تدريبا. وهكذا يتسلسل النظام التعليمي، على النحو الآتي: - عبقريات للبحث العلمي/التطبيقي - كفاءات وسطى/عملية تطبيقية - جمهور ماهر منفذ وللحفاظ على توازن هذا النظام واستقراره، وتحصيل أكبر قد من الجودة والكفاءة، اتُّخذ قرار سياسي مفاده أن أجر الموظف الأرقى لايتجاوز أربع مرات أجر العامل الماهر. وإذا حدث أن اختل هذا الميزان قامت قيامة الاحتجاج. تجربة تستحقق كل الاعتبار لمن يحدث نفسه بمدرسة النجاح، وهي رسالة لمن يهمه مستقبل المدرسة المغربية. *إطار تربوي وخبير في تواصل الأديان والثقافات [email protected]