إلى عبد الله عدالي الزياني ظلت مدينة الفقه بن صالح – على مدى خمسة عقود تقريبا – محافظة على خصوصيتها على مستوى المعمار والعلاقات الاجتماعية والإنسانية وبساطة العيش وهدوء المكان وواقعية الأحلام والتطلعات، إلا أنها ستشهد تحولا غريبا وصادما بعد هجرة أعداد هائلة من أبنائها وأبناء القرى المجاورة لها إلى أوربا وتحديدا إلى ايطاليا واسبانيا في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي. ويتجلى هذا التحول في زحف الاسمنت بشكل رهيب وتشييد بنايات عالية فاخرة، وفتح مقاه كثيرة تحمل أسماء أجنينية، واتساع الفوارق الاجتماعية، وتنامي الفوضى أثناء عودة المهاجرين إلى المدينة صيفا، وحلول منظومة قيم جديدة تتمثل في الأنانية وحب الظهور والجشع والرهان على المال في قضاء المآرب والوصول إلى المبتغى عبر طرق شتى من منطلق أن المال ينشيء لصاحبه طريقا في البحر. لقد تحولت الفقه بن صالح إلى قرية إسمنتية كبيرة مفتوحة على السماء لا يحكمها نسق أو ضابط معين. ويمكن أن نسجل عنها انطلاقا من مؤسس علم الاجتماع القروي "بول باسكون " بأنها تجمع سكاني مركب حيث الفكر الخرافي ما زال ضاربا أوتاده، وحيث النزعة القبلية ما تزال تستيقظ خلال الخصومات الكبرى والانتخابات الجماعية والتشريعية، أما الفكر الحداثي والعقلاني، فتجسده فئة من المثقفين لكنها تظل تصارع طواحين الهواء وتؤدي ضريبة نفسية قاسية وممضة على أكثر من مستوى. لكن المثير في مدينة الفقه بن صالح، هو كونها حبلى بالمفارقات المدهشة، نمثل لها بما يلي: هناك حافلات للنقل الدولي تربط بين الفقه بن صالح وبين مدن اسبانية وايطالية وفرنسية، في حين لا توجد حافلة تربط يوميا بين المدينة ومدينة تادلة التي تبعد بحوالي 40 كلم . مدينة الفقه بن صالح لا تطل لا على بحر ولا محيط ولا جبل، بل تطل على الشمس فقط، ورغم ذلك فان أثمنة العقار جد خيالية، فإذا كان حارس هتلر يتحسس مسدسه عندما يسمع كلمة ثقافة، فان الإنسان بالفقه بن صالح يتحسس قلبه عندما يسمع ثمن بقعة أو دار للبيع. كانت المدينة في السابق متواضعة من حيث الإمكانات، وعلى الرغم من ذلك فقد استطاع فريقها لكرة القدم أن يلعب في القسم الوطني الأول أربعة مواسم (1980-1984) ، انتصر فيها على فرق كبيرة كالرجاء والوداد وشباب المحمدية والمغرب الفاسي، أما اليوم فالمدينة أصبحت إقليما بإمكانات مادية هائلة، لكن فريقها الحالي لكرة القدم سيلعب الموسم الكروي المقبل في القسم الوطني الثاني هواة ( هدي خابية حتى فتعاويدة ) يستثمر المال في العقار وفي المقاهي لكنه لا يستثمر في بناء مركب سياحي يحتوي على جميع المرافق الضرورية ( مسبح، مقهى، مطعم، ملاعب، دوشات) ولا يستثمر في بناء مكتبة عصرية ضخمة مجهزة بالوسائط الحديثة . في العديد من التجزئات السكنية بالمدينة منازل فخمة من ثلاثة طوابق أو أكثر، لكن بعض سكانها يسكنون في المرائب صيفا، ويتبول أبناؤهم الصغار أمام هذه المنازل ومنازل الآخرين. في المدينة تتعايش الهامر والكوشات وإلاكس 5 والاكس 6 مع "الكارو" و"الكرويلة" و"الحردافة" والجرار وآلة الحصاد و... في تجزئة الياسمين بنايات ممتازة لكن تحاديها قناة مكشوفة للنفايات التي يفرزها معمل الحليب ، والتي تنبعث منها روائح كريهة وحشرات مضرة . في آخر هذه الورقة نقول بأن المدينة ليست هي البنايات الفخمة والشوارع والأزقة والحدائق وركوب السيارات الفارهة، بل هي نمط تفكير خاص وسلوك حضاري وتمدن. ذ.