في إحدى الحملات الانتخابية الكثيرة التي دخل غمارها حميد شباط، الزعيم الجديد للاستقلاليين وعمدة مدينة فاس، كُتبت تحت صورته في أحد الملصقات الانتخابية آية تقول: «ورفعنا لك ذكرك»، فما كان من أحد أطر الحزب إلا أن لفت انتباه شباط إلى أن الآية تخص الرسول (ص) ولا يجوز توظيفها في معركة انتخابية، فرد شباط بسرعة بجواب يتراوح بين الجد والهزل قائلا: «وأنا واحد من خلفاء رسول الله ومن حملة صفاته»، فسأل الشخص والدهشة تعلو وجهه: «كيف؟». فرد شباط: «ألم يكن رسول الله (ص) أميا؟ وأنا كذلك أمي...». ضحك الجميع، لكن هذه القصة، على ما فيها من «طرافة» وسرعة بديهة من قبل شباط، كشفت مبكرا عن تطور النزعة الشعبوية لدى عمدة فاس، والحدود التي يمكن أن يصل إليها توظيف الدين والوطنية والطبقية في رحلة البحث عن أصوات الجماهير. صعود شباط إلى قيادة حزب محافظ مثل حزب الاستقلال، كانت غرفة القيادة فيه تاريخيا مغلقة ومحروسة جدا، هو عنوان بارز لانتعاش «الخط الشعبوي» في الساحة السياسية. فما هي الشعبوية؟ وكيف تولد وتكبر حتى تصير في الحكم والسلطة؟ الشعبوية مصطلح فضفاض، وكمصطلحات كثيرة في السياسة، لم تولد بطابع قدحي، بل اكتسبت السمعة السيئة مع الاستعمال، أو بالأحرى من فرط الابتذال. Populisme مشتقة من الشعب، كانت تطلق في القرن الماضي على نظرية في الأدب ينحو أتباعها إلى الكتابة بواقعية عن حياة الشعب، ثم انتقل المفهوم إلى السياسة، وصار الشعبويون هم الساسة الذين يستخدمون الديماغوجيا ودغدغة عواطف الجماهير من أجل كسب ثقتهم أو أصواتهم دون مراعاة للحقيقة ولا للمصلحة الوطنية العليا. انتشرت الشعبوية في الثلاثينات في أمريكا اللاتينية، وانتقلت إلى البلاد الشيوعية، ثم صارت لها سطوة في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية... حيث عمد «القادة الشعبويون» إلى اللعب بالعواطف الدينية والقومية أو الطبقية في لحظات «الأزمات الكبرى» والإحباطات الجماعية، لتقديم أجوبة خاطئة وواهمة عن مشاكل واقعية وحقيقية. الشعبوي يمسح على رؤوس الفقراء بأجوبة «تبسيطية» عن مشاكل معقدة. مثلا، أمام أزمة البطالة، وهي مشكلة اقتصادية واجتماعية وتعليمية معقدة، يقترح الشعبوي كحل سهل وفوري تخفيض أجور الوزراء والموظفين الكبار وطرد العمال الأجانب... هذا في حين أن خلق الوظائف يتطلب زيادة كبيرة في نسبة النمو، وانتعاش الاستثمار، واستقطاب رؤوس الأموال، وتحسين بيئة الأعمال، والبحث عن أسواق جديدة، وتطوير الصناعة، وتحسين مستوى التكوين، وربط الجامعات بسوق الشغل... ثم انتظار شهور، وربما سنوات، لتعطي هذه الإجراءات أكلها حتى يستطيع أي بلد أن يوفر مناصب شغل جديدة، وأن يخفض من نسبة البطالة، أما القضاء عليها كليا فهذا وهم... أرأيتم.. الجواب الشعبوي سهل وبسيط وفوري، ويحقق نوعا من الأثر الفعال والمباشر في نفسية الجماهير، أما الجواب العقلاني فهو معقد ويحتاج إلى وقت وجهد فكري وعملي، ولهذا فإن الجماهير المتعطشة للشغل لا يستهويها هذا الخطاب رغم أنه هو «الخطاب العقلاني والواقعي» الذي يحمل جواب حقيقيا عن مشاكل البطالة... الشعبوية لا تقتصر على السياسة، بل تطال كل مناحي النشاط في المجتمع. هناك فنانون شعبويون وصحافيون شعبويون وفقهاء شعبويون وأدباء شعبويون وتجار شعبويون، وكلهم يحملون شعار: «هذا ما يريده الشعب. هذا ما يطلبه المشاهدون، هذا ما يرغب فيه القراء. هذا ما يرضي المستهلك»... هناك أسباب عدة لانتعاش الشعبوية في المغرب، كما في دول أخرى. هناك، أولا، فساد الحكومات وضعفها مما يدفع الناس إلى البحث عن بديل سريع ومباشر لأمراض هذه الحكومات، فيسقطون في شرك الشعبوية. ثانيا، هناك الفشل المتكرر لمسارات الانتقال الديمقراطي مما يدفع السياسيين إلى اللجوء إلى مخزون الشعبوية لإنعاش اهتمام الجماهير المحبطة بالسياسة. ثالثا، هناك عدم القدرة على استقبال وإدماج القادمين من البوادي وأحزمة الفقر حول المدن إلى المركز، وإلى جوهر السياسة. ثم، رابعا، هناك فشل برامج التعليم وتخلف الإعلام، وانسداد قنوات التأطير الاجتماعي والسياسي في المجتمع، مما يجعل الجماهير العريضة غير «ملقحة» ضد فيروس الشعبوية.