إن الحديث عن واقع الطبقة العاملة ومهام الحركة النقابية في المغرب، يستوجب منذ البداية الإدلاء بملاحظتين أساسيتين وهما أن جائحة كوفيد 19 تحيل على أزمة صحية ذات تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية وقيمية ملحوظة سواء على المستوى الوطني أو الدولي أي أنهت تشمل الصحة العمومية والاقتصاد وسوق الشغل وتحولات القيم، ومن جانب آخر ففهمنا لزمن الكورونا لا ينحصر فقط في مرحلة الطوارئ الصحية والحجر الصحي بقدر ما أن هذا الزمن مفتوح وممتد في حياة الدولة والمجتمع ولن تكون له نهاية معينة إلا في ارتباط وثيق باستعادة العافية الصحية والاقتصادية من خلال مؤشرات علمية دقيقة تهم الصحة العمومية ومدى ضمان العيش بكرامة في ظل نظام من العدالة الاجتماعية والديمقراطية في أبعادها الشاملة. وبالتالي سيظل زمن الكورونا زمنا مفتوحا من حيث التداعيات المستقبلية غير المطمئنة. ونعتقد أن مدخل معالجة هذا الموضوع المركب لا بد أن ينطلق من طرح ثلاث أسئلة ضرورية: * ذا كنت أوضاع الطبقة العاملة في المغرب مأزومة قبل وخلال زمن الكورونا فكيف ستكون بعدها؟. * الى أي حد يمكن استثمار هذه اللحظة من طرف الدولة للقطع مع سياسات ضرب الحقوق والحريات وضمنها حقوق الطبقة العاملة وبالتالي القطع مع المنطق اليبرالي المتوحش وإعادة الاعتبار للدولة الاجتماعية الحامية؟ * أية مهم للحركة النقابية ما بعد كورونا ؟ وفي سياق التفاعل مه هذه الأسئلة سنعمل على استحضار ثلاث مستويات مترابطة في المقاربة : المستوى الدولي، التشخيص الوطني، ثم مهام الحركة النقابية. المستوى الدولي، سقوط شعار » الأرواح قبل الأرباح « كل الدراسات والتقارير الصادرة عن هيئات دولية تِكد أن أزمة كورونا هي أسوأ أزمة يعيشها العالم بعد أزمة الخميس الأسود سنة 1929 وبعد الحرب العالمية الثانية سنة 1948 حيث تتسارع عملية فقدان مناصب الشغل. وفي هذا الإطار تشير نشرات المرصد التابع لمنظمة العمل الدولية أن الإجراءات الجزئية أو الكلية للحجر الصحي مست حاليا ما يقرب من 2.7 مليار عامل بنسبة تقدر ب 81% من اليد العملة العالمية (1)، كما أن مقاولات وقطاعات اقتصادية تتعرض لخسارات فادحة خاصة المقاولات الصغرى ( التوقف، التسريح، تقليص ساعات العمل الناتج عن الفيروس والمسافة الاجتماعية والتدابير الوقائية…) مما سيجعل من مسألة الولوج الى سوق الشغل معضلة حقيقية وكذلك الحفاظ على مناصب الشغل. إن الفيروس الليبرالي المعولم للرأسمالية العالمية والناتج عن سياسات اقتصادية متوحشة دمرت الإنسان والبيئة، جعل هذه الأخيرة تعيش صدمات متتالية كان آخرها قبل أزمة كوفيد 19، أزمة 2008 والتي تتمكن في كل مرة وحين من تجاوزها على حساب مصالح الطبقة العاملة في المراكز والأطراف.. المفارقة أنه في ظل أزمة كوفيد 19 وبدعوى الحفاظ على التوازنات المالية، ظل المستفيد الأكبر من دعم الدولة هو مؤسسات الاستثمار، الأبناك والشركات الكبرى بما فيها التي لا تحترم الحقوق البيئية، وكما يقول » مارتن لوثر كينغ » » الاشتراكية للأغنياء والشركة الحرة للفقراء » (2) le socialisme pour les riches et la libre entreprise pour les pauvres. في مقابل إجراءات تقشفية خطيرة تستهدف العمال والعاملات على مستوى التسريحات الفردية والجماعية وتقليص ساعات العمل و ضعف ضمانات الحماية الاجتماعية وتشديد المراقبة الواقعية والافتراضية بدعوى تتبع الحالة الوبائية. إن الحصيلة الكارثية لعدد ضحايا جائحة كوفيد 19 في المتروبولات الرأسمالية وانهيار المنظومة الصحية وهيمنة المصلحة الذاتية على حساب قيم التضامن والتعاون الدوليين وسن تدابير استثنائية لصالح الباطرونا، كشف عن الوجه الكارثي والمستبد للرأسمالية العالمية وسقوط بعض شعارات الاستهلاك الإعلامي والسياسي كشعار » الأرواح قبل الأرباح ». وظلت بعض الدول المحسوبة على المعسكر الاشتراكي كالصين وكوبا هي التي بادرت الى تقديم الدعم على مستوى الأطقم الصحية والمستلزمات الطبية لصالح المراكز الرأسمالية كالولايات المتحدةالأمريكية وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا…. في التشخيص الوطني : تاريخية الفشل في إرساء أسس العدالة الاجتماعية والمجالية كيف كانت حالة المغرب قبل الكورونا ؟ كل المؤشرات تدل على أن الجائحة كشفت عن اختلالات بنيوية عميقة في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية نتيجة سنوات من الاختيارات السياسية غير الديمقراطية والتي كانت تستجيب لإملاءات مراكز التمويل الرأسمالي العالمية على حساب القطاعات الاجتماعية الحيوية للطبقات المسحوقة، وهذا ما يفسر تحول المغرب الى خريطة ممتدة من الاحتجاجات الاجتماعية والمجالية المحلية والوطنية. بمعنى أن الحراك الاجتماعي في شتى أبعاده ومطالبه دق ناقوس الخطر مبكرا أي قبل جائحة الكورونا، لكن الإجابة الرسمية هيمن عليها المنطق الأمني في كبح الاحتجاجات المشروعة ضد تجليات التفقير والتهميش في مجالات الشغل، التعليم، الصحة، البيئة وكرامة العيش والحق في حرية الرأي والتعبير والتظاهر السلمي. كما تصاعدت النضالات النقابية الوطنية والفئوية في ظل حكومة معادية من الناحية السياسية والأيديولوجية لمصالح الطبقة العاملة حيث استطاعت هذه الحكومة في نسختيها الأولى والثانية والتي جاءت بها رياح حراك 20 فبراير، أن تسن العديد من مشاريع الإصلاح اللاشعبية على حساب الأجراء والطبقات الكادحة كنظام التقاعد، صندوق المقاصة، ضرب مبدأ استقرار الشغل من خلال تكريس نظام التعاقد، استهداف مجانية التعليم من خلال قانون الإطار الوارد في الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم 2015-2030، بالإضافة الى مراوحة الحوار الاجتماعي لمكانه حيث تم تجميده لسنوات عدة ولم يرقى الى مستوى المفاوضات الحقيقية حيث تمخض الجبل فولد فأرا من حيث هزالة المكتسبات التي تضمنها اتفاق أبريل 2020. كل هذا جرى بالموازاة مع السعي الى تجريد الطبقة العاملة التي ظلت نضالاتها مشتتة في ظل بلقنة المشهد النقابي، من الحق في الإضراب كسلاح استراتيجي وذلك من خلال المحاولات » السيزيفية » المستمرة » منذ 2001 لتمرير مشروع القانون التكبيلي للإضراب وذلك لإضعاف قدرة الطبقة العاملة على المقاومة أمام الشركات المتعددة الجنسيات التي تتلقى مختلف التسهيلات الضريبية والتشريعية للاستثمار في شروط مريحة تتيح لها مراكمة الأرباح على حساب الحقوق الاجتماعية والديمقراطية للعمال والعاملات. وأمام استنفاذ كل الخيارات المطروحة لامتصاص المنسوب الاحتجاجي المتزايد ضد غياب العدالة الاجتماعية والمجالية، لجأت الدولة الى تشكيل لجنة النموذج التنموي لصياغة نموذج تنموي جديد يتجاوز اختلالات النموذج القائم على مستوى الخصاص الاجتماعي المهول والفوارق الاجتماعية الصارخة. لكن حلت الكورونا وأوقفت ساعة اشتغال اللجنة في التشخيص واستجماع المقترحات من الطيف السياسي والنقابي والمدني في المغرب وتم التمديد في عمرها من أجل تقديم تقريرها بإضافة ستة أشهر الى حدود بداية شهر يناير 2021. إذا كانت باختصار شديد هذه هي حالة المغرب قبل جائحة كوفيد 19، فأية آثار للجائحة في ظل الزمن الوبائي المفتوح خاصة على أوضاع الطبقة العاملة؟ في ذات الوقت الذي تتحدث فيه كل التقارير الرسمية الصادرة سواء عن الحكومة أو المندوبية السامية للتخطيط أو مؤسسات وطنية أخرى، عن المقاربة الاستباقية و التدبير الجيد للدولة المغربية للجائحة والتحكم لحدود الآن في الخريطة الوبائية، فهي ترسم لوحة قاتمة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والتي لن يكون أفق تجاوزها ممكنا على المدى القريب أو المتوسط وبتكلفة اقتصادية واجتماعية باهضة. هكذا فرغم الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية الاستباقية كتشكيل صندوق تدبير ومواجهة جائحة كورونا، ودعم الفئات الاجتماعية التي توقفت عن العمل أو المنتمية للقطاع غير المهيكل، فإن المغرب يخسر يوميا ما يناهز مليار درهم نتيجة تضرر القطاعات التنموية الاستراتيجية وخاصة قطاع الصادرات، النسيج، النقل الجوي، صناعة السيارات، عائدات المقيمين المغاربة بالخارج، السياحة…فمثلا قطاع السياحة رغم أنه تسوده فوضى على مستوى احترام تشريعات الشغل، فهو يشغل حوالي مليون فرد بشكل مباشر وحوالي مليونين بشكل غير مباشر، كما أن الأزمة ستتعمق باستحضار المعطى البنيوي المتمثل في الجائحة الطبيعة الجفاف وبأزمة البلدان التي يجمعها بالمغرب شراكات استراتيجية كفرنسا واسبانيا وايطاليا، والتي تأثرت بشكل كبير من حيث جسامة الفاتورة الصحية والاقتصادية للجائحة، وستنعكس هذه المعضلة بشكل خاص في مجالات التصدير والسياحة والاستثمار المباشر وتحويلات المهاجرين. وقد تحدث تقرير العثماني في لقاء تشاوري مع المركزيات النقابية يوم السبت 30 ماي 2020 حول خطة إنعاش الاقتصاد الوطني بعد الجائحة، عن ما يقارب مليون أجير توقفوا عن العمل بسبب الجائحة التي أوقفت 160 ألف مقاولة في عدد من القطاعات منها الصناعة والتجارة والخدمات والبناء. وتجدر الإشارة الى أن الأغلبية الساحقة من المقاولات المتوقفة هي الصغيرة والمتوسطة التي تشكل 90 % من النسيج الاقتصادي الوطني ، وفقط 2 % من المقاولات الكبرى هي التي توقفت مع العلم أن وجودها ضعيف في النسيج الاقتصادي، وبالتالي فالمقاولات التي توقفت سيجد عمالها أنفسهم خارج سوق الشغل خاصة وأنها تعتمد في نظام التشغيل عقود الوكالة الوطنية لإنعاش الشغل والكفاءات ( ANAPEC )، أو عبر عقود شغل محددة المدة أو عن طريق شركات التشغيل المؤقت INTERIM. فأية خلاصة يمكن استشرافها على ضوء هذه المعطيات؟ الخلاصة الأساسية والتي لا تقبل الإنكار هي أن الطبقة العاملة ستجد نفسها في واقع يحتد فيه الصراع الاجتماعي وخاصة على مستوى تصاعد نزاعات الشغل مما سيطرح مهام جسيمة ومضاعفة على الحركة النقابية خاصة في ظل تشريعات شغل هشة وتتعرض للتفكيك بشكل مستمر بشكل تتعزز معه حماية مصالح الباطرونا بمحاولة تمرير مشاريع قوانين معادية لمصالح الطبقة العاملة ومكتسباتها أمام ضعف المقاومة النقابية المشتتة أصلا في مواجهة باطرونا موحدة نقابيا ومرتبطة سياسيا بجهاز الدولة وشرسة في الدفاع عن مصالحها. كما تضيف المعطيات الإحصائية أن أزيد من مليون عامل مصرح بهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يعيشون وضعية بطالة دون الحديث عن عمال القطاع غير المهيكل الذي يشغل عدد كبير، وأكثر من 6 ملايين أسرة مغربية تعيش وضعية فقر وهشاشة في ظل مساعدات غير كافية ..فمن مجموع الأسر المسجلة في الدعم حوالي 60% لم تتوصل بالدعم (فمن أصل 20000 توصل 8000 بالدعم وتم رفض 4000 طلب فيما 8000 طلب قيد الدرس؟؟ )، كما أن أزيد من مليونين مسجلين في نظام المساعدة الطبية Ramed طالبوا بالدعم وحوالي مليونين غير مسجلين طالبوا أيضا بالدعم…من هنا، فهذه الأرقام الناطقة توضح هول الخصاص الاجتماعي وتغييب المسألة الاجتماعية في السياسات التنموية للدولة منذ الاستقلال، أي أزيد من 6 عقود من تعطيل الحماية الاجتماعية لضحايا الفوارق الطبقية المهولة والتي عجزت الحكومة قبيل الجائحة عن ضبطها من الناحية الإحصائية والسوسيولوجية في إطار تماطلها في إنجاز السجل الاجتماعي الموحد المرتبط بالحماية الاجتماعية ودعم الأسر خاصة وأن مختلف برامج وصناديق الدعم الاجتماعي السائدة يتخللها سوء التدبير وهدر المال العام. إن السياسات الطبقية اللاشعبية للحكومات المتعاقبة على التدبير خاصة منذ مرحلة الانقلاب على حكومة عبد الله إبراهيم سنة 1961، كانت سمتها الرئيسية هي الدوس على القانون كقاعدة واحترامه كاستثناء، وتأكدت هذه الحقيقة مع الحكومة الحالية في العلاقة بالحقوق الشغلية في ظل الحجر الصحي والحقوقي، حيث أن التدابير الاجتماعية والاقتصادية الخاصة بمواجهة جائحة كوفيد 19 صبت معظمها في خدمة الباطرونا، ولعل النموذج الصارخ هو تفشي الجائحة في الوحدات الصناعية والمهنية وتحول العديد من المقاولات الى بؤر وبائية حقيقية يمتد خطرها على الصحة العمومية للمجتمع، وتمثل الإصابات المهنية حوالي 20 % من مجموع الخريطة الوبائية مع العلم أن أغلب هذه الوحدات الإنتاجية إما تشهد ضعف الممارسة النقابية أو تتعرض فيها هذه الأخيرة الى حرب يومية من طرف أربابها وإداراتها كالمناطق الحرة مثلا في ظل عدم احترام مدونة الشغل على مستوى قواعد الصحة والسلامة المهنية كتفعيل لجنة الصحة والسلامة المنصوص عليها في المدونة والتقيد بالإجراءات الوقائية الضرورية على صعيد التعقيم والألبسة الواقية والكمامات…الخ. وقد أصبحت البؤر المهنية مصدرا حقيقيا لانتشار العدوى ومثالا صارخا لويلات الرأسمالية الطفيلية ومآسيها التي تؤدي ثمنها غاليا الطبقة العاملة في ظل هيمنة « باطرونا » شجعة و بعيدة كل البعد عن المفهوم الليبرالي للمقاولة المواطنة، وبالتالي فلجوء الحكومة الى إغلاق « المقاولات » كما بالعديد من المدن المغربية بطنجة والدار البيضاء…الخ، كان جوابا متأخرا على معضلة تغييب صحة العمال والعاملات من المخطط الوطني لمواجهة الجائحة ومحاباة لباطرونا لا يهمها غير الربح وتكثيف شروط الاستغلال الطبقي، وبالتالي لامبالاة إزاء ما يمكن أن تشكله هذه المؤسسات من خطر على حياة العمال والعاملات والمجتمع ككل(3)، هذا دون الحديث عن ظروف العمل في المعامل والضيعات الزراعية من حيث شروط العمل والتنقل الجماعي في « شاحنات الموت » وكذلك تضرر قطاعات التجار الصغار والحرفيين ومهني النقل، والاقتطاعات الإجبارية التي طالت أجور الموظفين في مقابل تجميد جميع الترقيات ومباريات التوظيف بدعوى تخفيف العبئ عن ميزانية الدولة وتمكينها من توجيه الموارد المالية المتاحة نحو مواجهة التحديات المطروحة في مواجهة الجائحة. ( منشور رقم 03/2020 صادر عن رئاسة الحكومة ). إن تجليات التدبير السياسي غير المسؤول للجائحة من طرف الحكومة وانزياحها المفضوح لصف الباطرونا تجلى بشكل واضح في إقصاء التمثيلية النقابية داخل لجنة اليقظة الاقتصادية التي ضمت تمثيليات عديدة بما فيها نقابة الباطرونا مع العلم أن الطبقة العاملة هي الضحية الكبرى قبل وخلال وبعد زمن الكورونا، واستغلت الباطرونا هذا الانزياح للحكومة ووضعية الحجر الصحي لتسريح العمال بدعوى القوة القاهرة أو فرضت عليهم العمل في ظروف غير صحية ولا تحترم كرامتهم، ثم إن جميع إجراءات الدولة تتم على حساب الطبقة العاملة وتركت المعمل والشركات الى أن تفجرت البؤر الوبائية في ظل تجاهل مطلب الحركة النقابية الى تشكيل لجنة اليقظة الاجتماعية لمواجهة هذا الظرف. وتعززت هذه الممارسة السياسية غير الديمقراطية باستغلال حالة الطوارئ الصحية لتكريس التدبير الأمني والتراجع عن العديد من المكتسبات الحقوقية من خلال مشروع قانون » الكمامة الحقوقية » رقم 20/22 في إطار استراتيجية استباقية لإحاطة الزمن الاحتجاجي الكامن والمعلن حاضرا ومستقبلا بمختلف إجراءات التسييج والتضييق والتحكم… مهام الحركة النقابية أو الحاجة الى النضال من أجل نموذج سياسي واقتصادي واجتماعي وبيئي ديمقراطي لا بد من التأكيد أن هذه الجائحة أعادت النقاش حول مجموعة من الاختيارات التي سادت ووجهت السياسات العمومية لعقود بخلفية نيوليبرالية متوحشة وفضحت نتائجها المدمرة على الإنسان والطبيعة. لقد كشفت هذه الأزمة واقع التفاوتات الاجتماعية، وأبرزت كذلك قيمة قطاعات اجتماعية وخدمات عمومية عانت التهميش والتفكيك لعقود. وإذا لم تستوعب الدولة دروس الكورونا من خلال إعادة النظر في اختياراتها والقطع مع النهج اليبرالي المتوحش القائم على خيار التخلي عن الخدمات الاجتماعية الأساسية وخوصصتها وتركها لمنطق الربح والتسليع والجشع وبالتالي اللجوء الى تدابير استثنائية على حساب العمال والعاملات لتجاوز تداعيات الكورونا في سياق ميزان قوى اجتماعي مختل، فإن عالم ما بعد كورونا سيفرض على الحركة الاجتماعية المناضلة وخاصة النقابية منها، مهام جسيمة وقيادة معارك طاحنة في ظل اشتداد الصراع الاجتماعي بين رأسمالية ليبرالية متوحشة ستسعى الى تصريف أزماتها على حساب العمال والعاملات وطبقة عاملة مفروض عليها تنظيم نفسها وتوحيد معاركها… إن تحولات عالم العمل الشغل ستفرض لا شك ترتيبا جديدا في أولويات الحركة النقابية ومطالبها المستجدة وعلى رأسها الحضور القوي في دفاترها المطلبية ومعاركها النقابية للنضال من أجل ظروف الصحة والسلامة المهنية كجزء لا يتجزأ من حقوق العمال والعاملات المادية والديمقراطية وكذلك التصريح لدى صناديق الحماية الاجتماعية وتنامي الوعي الديمقراطي في صفوف العمال أمام حدة النزاعات الاجتماعية وسياسات التقشف التي ستتعمق على حساب الطبقة العاملة…كما أن تحولات الوضع العام تطرح على الحركة النقابية توسيع أفق تضال الطبقة العاملة في اتجاه النضال من أجل نموذج سياسي واقتصادي واجتماعي وبيئي آخر يقطع مع رأسمالية الكوارث. وبداهة نقول أن النضال والترافع النقابيين من أجل هذا النموذج يتوقف على تغيير ميزان القوى لصالح الحركة النقابية ومجموع قوى الصف الوطني الديمقراطي، وهذا يستوجب : على المستوى السياسي والسوسيواقتصادي : –إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني من خلال استرجاع الدور الاستراتيجي للدولة كدولة اجتماعية راعية تقطع مع منطق اقتصاد السوق المتوحش و »المقدس » ومع منظومة الفساد والريع وتفكيك قوانين الشغل وتداخل مصالح الدولة ومصالح الباطرونا بشكل تتحول معه هاته الأخيرة الى سلطة مضادة أخرى مدعومة بالسلطة المهيمنة في مواجهة تطلعات ومصالح الطبقة العاملة في العيش الكريم.. -تقوية القطاعات الاجتماعية المرتبطة بالحياة ( الصحة – التعليم- السكن، البيئة..) باعتبارها قطاعات عمومية حيوية وفي نفس الوقت قطاعات مشغلة. -تعميم الحماية الاجتماعية على الجميع ( مهيكل، غير مهيكل…) كالتصريح بالعمال لدى الصندوق الوطني للضمات الاجتماعي شرط ضروري لقانونية أية مقاولة وبالتالي أي إخلال بهذا الالتزام يؤدي مباشرة الى تغريم الجهة المنتهكة ، وهذا بتطلب تأهيل جهاز مفتشي الشغل بالموارد البشرية واللوجستيكية الضرورية. – تحويل صندوق تدبير ومواجهة جائحة الكورونا الى صندوق دائم للتضامن الاجتماعي في اتجاه التأسيس لديمقراطية اقتصادية واجتماعية تتوخى تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية وتجاوز المنطق الإحساني والانتخابي الظرفي على مستوى الخدمات العمومية للدولة. – التأطير النقابي للسواعد النسائية والاهتمام أكثر بحقوق النساء العاملات ضد مختلف أشكال التمييز والاضطهاد داخل مجالات الشغل وعلى مستوى القوانين الشغلية والحقوق الاجتماعية في القطاعات الصناعية والزراعية والخدماتية والحرفية. على المستوى التنظيمي -ضرورة إعادة الاعتبار للعمل النقابي الديمقراطي والموحد ومراكمة الشروط الضرورية لتنمية الوعي الديمقراطي في صفوف الطبقة العاملة و تنظيمها وربط معاركها بأفق النضال الديمقراطي العام وطنيا وأمميا. -تجاوز مشهد نقابي مائع وتعددية نقابية لا تعكس بشكل موضوعي التناقضات الطبقية المعتملة داخل المجتمع أمام باطرونا موحدة وتحظى بدعم السلطة. -تطوير آليات النضال النقابي على المستوى النضالي والتكويني واستراتيجية الترافع والدفاع عن مصالح الطبقة العاملة وفرض الحق في حرية العمل والتنظيم النقابيين والحق في التفاوض الجماعي بشكل يعيد الاعتبار لإبرام اتفاقيات جماعية تحمي حقوق ومكتسبات العمال ومصالح المقاولة وتعزز سلما اجتماعيا حقيقيا. على المستوى التشريعي: – مراجعة مدونة الشغل من خلال النضال من أجل مصادقة الدولة المغربية على اتفاقيات منظمة العمل الدولية المرتبطة بشكل خاص بالحرية النقابية والحق في التفاوض الجماعي وحماية الصحة والسلامة المهنية. – الترافع لدى المنظمات الدولية ذات الصلة بالشغل وحقوق الإنسان والحقوق الشغلية من أجل معاودة تحيين سجل الأمراض المهنية وحوادث الشغل المرتبطة بزمن الأوبئة والفيروسات واستهتار أرباب الشغل بصحة وسلامة العمال والعاملات. – النضال من أجل فرض إجراءات تأديبية في حق كل وحدات النسيج الاقتصادي التي لا تعمل عل تفعيل لجان المقاولة ولجان الصحة والسلامة المهنية،، وقد طرحت المركزية النقابية الاتحاد المغربي للشغل خلال لقاء 30 ماي مع رئيس الحكومة ضرورة تجاوز الفراغ القانوني الخاص بغياب هذه اللجان في القطاع العمومي، كما استعرضت مقترحات مهمة واستراتيجية (4) تتعلق ب : – إحداث المجلس الأعلى للصحة والسلامة المهنية يتكون من الفرقاء الاجتماعيين والاقتصاديين والسلطات الحكومية والخبراء لمواكبة الأوضاع الصحية في عالم الشغل. – إحداث لجنة اليقظة الاجتماعية مع انطلاق الرفع التدريجي للحجر الصحي واستئناف المؤسسات والوحدات الإنتاجية لنشاطها، وما سيتطلبه ذلك من مواكبة اجتماعية للمأجورين. – سن عقد اجتماعي لتنظيم العمل عن بعد Télétravail وتجاوز الفراغ التشريعي الذي يطاله. الخلاصة : النقابة كشريك استراتيجي إن أهم دروس الكورونا بالنسبة للدولة المغربية هو استعادة دورها الاستراتيجي وإشرافها المباشر على القطاعات الحيوية أو ما يصطلح عليه باقتصاد الحياة أي الصحة والتعليم والشغل والبيئة، وكذلك إعادة الاعتبار للعمل النقابي من الاعتراف بالنقابة كشريك استراتيجي لا محيد عنه، واحترام الحريات النقابية واعتماد المفوضات الجماعية والاتفاقيات الجماعية كخيار أساسي والقطع مع سياسات تمييع الحقل السياسي والنقابي، وبالنسبة للحركة النقابية، فمن بين المهام الأساسية المطروحة هي تقوية التأطير النقابي للطبقة العاملة لتجاوز نسبة التنقيب الهزيلة في المغرب (%6 في المغرب، 18% تونس، 68% السويد) وتعزيز وحدتها النضالية والتنظيمية في وجه وحدة الاستغلال الطبقي و تحيين التصورات والدفاتر المطلبية وآليات النضال على ضوء مستجدات الزمن الوبائي خاصة على مستوى الصحة والسلامة المهنية والحقوق البيئية، ولن يتأتى هذا الأمر إلا برسم استراتيجيات تنظيمية وترافعية وفكرية تتصدى لكل محاولات ضرب مصداقية الحركة النقابية و إفراغ النضال النقابي العمالي من مضمونه وتسخير كل الأدوات السياسية و القانونية و الدعائية لتقويض دور الطبقة العاملة وتهميشها وإبعادها عن المجال العام وبالتالي تحييدها عن مجريات الصراع الاجتماعي والسياسي من اجل الديمقراطية وبناء دولة الحق و القانون والانخراط في النضال الأممي من خلال تعزيز التحالفات والشبكات والحركات الاجتماعية على المستوى الدولي ضد ويلات الرأسمالية الليبرالية المعولمة والمتوحشة ومن أجل الاشتراكية كأفق استراتيجي. (*) نص المداخلة التي شاركت بها في الندوة الرقمية المنظمة من طرف مرصد محمد حرفي للتكوين النقابي والثقافة العمالية والاتحاد الجهوي للاتحاد المغربي بوجدة. الخميس 4 يونيو 2020 الهوامش : (1) le COVID‑19 et le monde du travail. Quatrième édition Estimations actualisées et analyses. Organisation internationale de travail. 27 mai 2020 (2) L'heure de la planification écologique. – LE MONDE diplomatique. Mai 2020 (3) المقاولة كبؤرة وبائية. محمد امباركي. جريدة الطريق الالكترونية. عدد 329. الثلاثاء 12 ماي 2020. (4) بيان الأمانة الوطنية للاتحاد المغربي للشغل الصادر بتاريخ 31 ماي 2020