لو قدِّر لشاعر إسبانيا العظيم، غارسيا لوركا، أن يعيش في زمن المكارثية، لما دخل الولاياتالمتحدة الأميركية، حتى قبل أن يكتب كتابه الشعري الشهير (شاعر في نيويورك)، والذي أصبح منصَّةً لازمةً لكل الشعراء الذين جاءوا بعده، كي يسددوا منها "قصائدهم المدببَّة" في اتجاه "التفاحة الكبيرة". لم يكن ممكناً للشاعر "الجمهوري" صديق الشيوعيين، رفيق الغجر، المعادي لكتائب فرانكو، أن يدخل "جنَّة" العم سام، المسيَّجة بالتوجس من كل ما هو تقدمي، فقد بلغ الهوس اليميني الأميركي، المعادي لليسار، حينها، حدود الفاشية. فمثل الفاشية كان "المكارثيون" يفتشون الصدور والأدمغة بحثاً عن فكرةٍ لا تتسق مع تصورهم اليميني المتشدد للعالم، تصورهم الذي قد يكون البذرة الأولى لما سيسمى لاحقاً "المحافظين الجدد"، الذين تحدَّر معظم كوادرهم، للعجب، من اليسار الأميركي أو العالمي. عند الحكومة الأميركية قائمة سوداء تشمل، تقريباً، كل الأنشطة البشرية. وعليها أسماء من أكبر ما يكون في الأدب والفن والسياسة والفكر. وقد زيد على قائمة المكارثية التي كانت "تحتفي" باليسار اليمين الديني المحافظ، المتطرف، الإسلامي خصوصاً. لكن إضافة أسماء المتشددين الإسلاميين لم تلغ أسماء اليساريين من القائمة. فمن يدخل القائمة لا يخرج منها.. إلا إذا انضم إلى "الركب". مثلا، الشاعر الفلسطيني الراحل، محمود درويش، كان على القائمة "السوداء"، ولم يحذف اسمه من هذه القائمة، على الرغم من أن كل نشاطه في عقديه الأخيرين تمحور حول الشعر والأدب، ولم يعد له موقع "سياسي" في منظمة التحرير الفلسطينية، وحتى عندما ذهب في رحلته المميتة إلى هيوستن، بحثاً عن الحياة، كان ذلك ب "تدخّل" (واسطة يعني) مباشر من وزيرة الخارجية السابقة، كوندليزا رايس. وكلما سمعت أجهزة الأمن الأميركية ب"تهديد" لمصالحها في الخارج، أو في الداخل، ازداد الهوس الأمني أكثر، وطال عديدين. وقد ترافقت آخر "فورة" أمنية أميركية مع خطاب رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، الذي قال فيه إن أميركا قد تتعرض لهجوم إرهابي يطال مترو نيويورك. طبعاً، نفى المسؤولون الأميركيون ذلك. وقد يكون هذا النفي العلني من أجل طمأنة جمهورهم، فهم يعرفون أن ذهابهم إلى العراق، مرة أخرى، لن يمر مرور الكرام، حتى وإن اختلفت ظروفه عن غزوهم هذا البلد العربي الكبير واحتلاله عام 2003. ويبدو أن أجهزة الأمن الأميركية تتوفر على قائمتين "سوداوين" للأشخاص، أو الهيئات، الذين يعتبرونهم يشكلون "خطراً" على الولاياتالمتحدة، واحدة لدى جهاز المباحث الفيدرالي (إف بي آي)، والأخرى عند جهاز الأمن الوطني الذي تشكَّل بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001. وتختص الأخيرة، تحديداً، بمنع المسجلين على قائمتها، أو من يشكّون فيه في لحظتها، من استقلال طائرته المغادرة إلى أي مطار من مطارات الولاياتالمتحدة، أو منعه من الدخول عند وصوله إلى الأراضي الأميركية. وبعد بحث سريع، وجدت أن القائمة الأميركية "السوداء" كانت تضم، ولا تزال، عدداً كبيراً من السياسيين والكتاب والنشطاء في الحقول السياسية والاجتماعية تقارب المليون شخص، منهم مثلاً، كورت فالدهايم، أحد رؤساء النمسا السابقين، مانديلا، عرفات، مودي رئيس الوزراء الهندي الحالي، جيري آدم، السياسي الجمهوري الإيرلندي، يوسف إسلام، المغني البريطاني الذي كان يعرف باسم كات ستيفنز، كارلوس فوينتيس، الكاتب المكسيكي الشهير، غراهام غرين، الكاتب البريطاني الشيهر، غابرييل غارسيا ماركيز (ما غيره)، أرملة الرئيس التشيلي سلفادور الليندي الذي أطاحته السي آي إيه، نيرودا شاعر تشيلي الكبير، الأكاديمي السويسري (مصري الأصول) طارق رمضان إلخ.. كَتَبْتُ، بعد واقعة البرجين، قصيدة بعنوان "قصيدة مؤجلة إلى نيويورك"، مقتفياً فيها "تقليد" لوركا في هجاء المدينة العمودية، غير أن القصيدة التي كُتِبَتْ، ونشرتْ فعلاً، ستظل مؤجلة، رمزياً، إلى إشعار آخر.