منذ نصف قرن على الأقل، ومنذ أن صارت الديمقراطية عملة قادمة قابلة للصرف في كل دول المعمور.. منذ 50 سنة والأنظمة العربية تقدم مبررا واحدا لتأجيل الحكم الديمقراطي في بلدانها: «أيتها الشعوب العربية والأمازيغية والكردية... إن الفقر والجهل والأمية والفرقة ونوازع القبيلة المنتشرة في صفوفكم أيها الدهماء تمنع شجرة الديمقراطية من أن تزرع في بلادكم... ولهذا، فما عليكم إلا أن تحاربوا أمراضكم أولا قبل أن تطالبوا بالديمقراطية التي استغرق ميلادها في الغرب قرونا أربعة وحروبا كثيرة ودماء أكثر، إن الحكم الديمقراطي موقوف التنفيذ إلى أن تصيروا مثل الأمم المتحضرة...». كانت هذه هي الحجة الرئيسية لقتل المطالب الديمقراطية، ورغم أن الكثير من الباحثين والمثقفين والديمقراطيين كانوا يقولون للسلطة إن الديمقراطية مثل السباحة لا يمكن أن تتعلمها الشعوب إذا لم تنزل إلى الماء، فإن أحدا من رجال ونساء الأنظمة الاستبدادية لم يقتنع بفكرة «التعلم الديمقراطي»، وبأطروحة أن الفقر والأمية ليسا عائقين أمام الممارسة الديمقراطية، والهند أكبر دليل على ذلك. ثم، كيف سنصبح مجتمعات متطورة ومواطنين أحرارا ومتعلمين دون ركوب دراجة الممارسة الديمقراطية؟ طبعا الاستبداد العربي لا يقاوم الديمقراطية خوفا على صحتنا، بل هو يقاوم عوامل تعرية سلطويته، التي تشكلت مثل قارة بلا شاطئ يحدها الأسبوع الماضي قدم المصريون درسا في الممارسة الديمقراطية، حيث انتخبوا، في أول فرصة أتيحت لهم، مدنيا على رأس الدولة لم تعرفه مصر منذ قرون، في مواجهة عسكري ابن النظام القديم... في كل مرة كانت الشعوب العربية تتاح لها الفرصة، دون ضغط أو ترهيب أو تزوير، كانت تنتخب الأقرب إلى عقلها وقلبها ومصالحها، ولهذا فإن «الحس السياسي» لدى البسطاء كان ومازال وسيبقى سليما، وأقرب إلى روح العملية الديمقراطية... في الستينات والسبعينات كانت نسبة الأمية تتجاوز 80% في المغرب، وكان الناخبون يختارون مرشح العائلة الوطنية (حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية)، وفي الثمانينات كانت أصوات الأغلبية تذهب إلى «اليسار»، وفي التسعينات، ورغم موجات التزوير التي كان تقابلها موجات المقاطعة من الناس، كانت الكفة تميل إلى أحزاب الكتلة، وفي العقد الأول من القرن ال21، اتجهت غالبية الأصوات إما إلى خيار المقاطعة باعتبار أن الانتخابات لا تنتج شيئا، أو إلى التصويت للعدالة والتنمية باعتباره يمثل، من جهة، تصويتا عقابيا لأحزاب الحكومة، ومن جهة أخرى أملا في التغيير... الناخب المصري أعطى، في دورتين، صوته لمن يمثل التغيير، وعاقب ممثل العسكر وإن بفارق ليس كبيرا، وهذا يدل على أن «العملية الديمقراطية» اشتغلت رغم وجود عوائق اقتصادية واجتماعية كثيرة، ورغم أن الانتخابات جرت في مناخ قاحل وتربة تعفنت من شدة التزوير والتلاعب بنتائج الانتخابات مرة بعد أخرى... السلطوية العربية وغير العربية تلعب في الوقت الميت، فلا المناخ الدولي ولا اقتصاد السوق ولا تطور تكنولوجيا الإعلام والمعلومات تلعب لصالح الأنظمة المغلقة القادمة من القرون الوسطى، وهذا هو درس الربيع العربي كما بدا في تونس ومصر، وإلى حد ما في ليبيا واليمن وسوريا. أما باقي الأنظمة فليس أمامها سوى ركوب الموجة والتحول نحو الديمقراطية تدريجيا، أو مواجهة الغرق في الطوفان القادم من مجتمعات ما عادت تقبل أن تبقى خارج منطق العصر، حتى وإن بدت مستكينة ومنشغلة بكسرة الخبز وسرير المستشفى ومقعد الدراسة. من كان يتصور أن التونسيين الذين كانوا يوصفون في الأدبيات الإعلامية بأنهم «مستكينون يخافون من السلطة أكثر من خوفهم من الله».. من كان يتصور أنهم في ظرف 23 يوما سيطيحون بدكتاتور قرطاج الذي حكم 23 سنة؟ من كان يراهن على هذا السيناريو...