في هذه المقدمة، نود أن نعكس تساؤلات عديدة عما يحدث اليوم في الساحة السياسية المغربية انطلاقا من ملاحظات بعض الظواهر الاجتماعية، و التي سنسعى إلى وصفها و تفسيرها، لكي نتمكن من فهمها و البحث عن سبل التأثير عليها.
و رغم الصعوبة التي قد نصادفها في تتبع تفاصيل هذه الظواهر الاجتماعية، و رغم الحس العام الذي يغلب علينا أحيانا، فإننا نعتقد أننا على وعي تام بعدم حيادنا، لكننا لا ننتمي لفصيلة المداحين.
إننا نهدف بكل تواضع إلى التفكير بصوت عالي في موضوع تحول حزب العدالة و التنمية من الصحوة الإسلامية، التي تعتبر العمل السياسي عبادة تأمر بالمعروف و جهادا ينهي عن المنكر، إلى حزب يعتبر كل منحصر في العبادات متخلف فكريا و ينتمي لعصور الانحطاط و التبعية.
كانت هذه فتوة القرضاوي التي انطلقت منها جماعة العدالة و التنمية ، من أجل خدمة مشروع الشرق الإسلاموي، حين لجأت جماعة بنكيران إلى المشاركة السياسية من أجل "المساهمة في تحقيق الواجبات" في حضن المخزن و سلطته الحامية.
هكذا شق طريقه حزب العدالة و التنمية، رسميا سنة 1997، ليتم تكليفه سياسيا بالجانب الديني و الأخلاقي بسبب التحولات السياسية و الاجتماعية التي كان يجتازها المغرب في علاقة و طيدة مع ما كان يحدث في العالم آنذاك، حيث حصل على الإذن بممارسة التدبير المفوض في حقل الشباب و الطلبة " حفاظا على القيم الدينية و الأخلاقية"، خوفا من زحف اليسار ليلة بزوغ حكومة التناوب التوافقي/السياسي، برئاسة الاتحادي ذ.عبد الرحمان اليوسفي، و بعدما اتضح آنذاك لوزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، أن جزءا مهما من الاتحاديين و اليساريين في الداخل و الخارج قد حققوا انتصارهم الأول على المخزن، و أن اليمين التقليدي قد أستنفذ مهام حضوره و لم يعد بمقدوره الدفاع حتى على نفسه أمام انتشار الوعي الحقوقي و حرية الرأي و التعبير و ميلاد الصحافة المستقلة.
إنها مرحلة استقطاب الحلقات الضعيفة من التنظيمات الإسلامية إلى دائرة المخزن، و بداية الشروع في تهيئ شروط خلق "معارضة جديدة تساهم في استقرار البلاد" و إدخال لأول مرة حزب إسلامي في المعادلة السياسة. و في وقتها، تنبأ العديد من المتتبعين بقدوم "اليمين الجديد" للدفاع عن "المقدسات الخالدة" و الانحياز المطلق لوزارة الداخلية و آلياتها. و كان أول ما عبرت عنه جماعة العدالة و التنمية هو الموقف الرجعي و الظلامي من مشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، ثم الموقف المتطرف من السلفات الصغرى، ضدا على الفقراء و الطبقات الضعيفة.
بنكيران كان يحلم بإحياء النهج السياسي للخائن الكلاوي
خوفا من الخطر الإسلامي الداهم و الارتماء في أحضان التيارات الإسلاموية الفاشية، فضلت الدولة التعامل بانتهازية مفرطة مع جماعة العدالة و التنمية في انتظار مرور العاصفة. و وعيا منها بهذه الهدية و شروطها، بدأت الجماعة تتطلع لبناء أسس حزب يميني متطرف تحت شعار "تفضيل الأمة الإسلامية". و بعد ذلك مباشرة، مضت الجماعة في البحث عن " قاعدة مالية تعطي للحزب فعالية اجتماعية و سياسية و اقتصادية (...) مع تهيئ إستراتيجية إعلامية تواجه التحديات الكبرى".
و إذا كان شعار "تفضيل الأمة الإسلامية" و شعارات أخرى مماثلة من الشعارات التي تصنف حزب العدالة و التنمية بالحزب اليميني المتطرف، فإن الإعلان عن "مقاومة قوى العلمنة بفعالية كبيرة" شكل رهانا أساسيا على مستوى تنزيل "الهوية الإسلامية و الدفاع عن قيم الإسلام". و هو ما يثير اليوم جدلا قانونيا حول شرعية حزب سياسي، بمرجعية دينية، و هذا ما يتعارض مع ما جاء به الدستور!
و بإيعاز من المحافظين و الظلاميين و أنصارهم في الداخل و الخارج، و استغلالا للظروف الاستثنائية العامة ( التي لا زالت في حاجة إلى فهمها و أخذ العبر منها)، وصلت جماعة العدالة و التنمية لرئاسة الحكومة و هي ماضية في بناء مشروعها الإسلامي السياسي اليميني المتطرف،الذي أصبحت اليوم معالمه ظاهرة. و الغرض من ذلك طبعا هو جر البلد إلى الحرب الأهلية و النزاعات اّلإثنية و المزيد من التحكم في رقاب الأغلبية الساحقة من المغاربة، و الإجهاز على المكتسبات الديمقراطية التي ضحى من أجلها المغاربة يوم كان السيد بنكيران و شبيبته يحلم بإحياء النهج السياسي للخائن الكلاوي، من خلال تسخير الدين في محاربة الفكر التقدمي اليساري و إضفاء المشروعية على نظام لا ديمقراطي، محافظ و ظلامي.
العدالة و التنمية هربت من النقاش العمومي و تسترت على الفساد
في لحظة من لحظات المغرب الجريح، سجل التاريخ الهروب الجماعي للجماعة و أنصارها من دائرة النقاش العمومي حول الانتقال الديمقراطي و مدى تطبيقه على الحالة المغربية، كما سجل الابتعاد عن الخوض في النقاش السياسي حول الإصلاحات السياسية التي قام بها المغرب خلال العقود الأخيرة، و حول الرهانات الأساسية التي ينبغي كسبها لإنجاح مسيرة الانتقال الديمقراطي ببلادنا و إرساء دعائم دولة القانون.
و مع تنامي الحكرة و العطالة و الفقر و التهميش، و أمام استمرار نهب الخيرات و التستر على الفساد و المفسدين، و تعثر مسلسل الإصلاحات، و تعطيل توصيات الإنصاف و المصالحة؛ شعر المغاربة حقيقة ببؤس السياسة و بفقدان الثقة في العمل السياسي، و هو ما أدى إلى نشر الفراغ في الساحة السياسية. و لو لا الدينامية الاجتماعية الناتجة عن نهوض قوي الحركات الاحتجاجية عبر ربوع الوطن، و استمرار المد النضالي الجماهيري، لرمت العدالة و التنمية بلادنا في أحضان استعمار جديد.
و من أجل الانتقال من الجماعة إلى الحزب، و من أجل تفريغ كل المكبوتات التي ظلت تسكن جسمه و عقله، كان لزاما علي بنكيران السقوط مع أفراد عشيرته في المراهقة السياسية. و هو ما وضح بالملموس أن بنكيران لا يهمه أي شئ سوى بناء حزب شعبوي، يميني متطرف، يريد العودة بالمغرب إلى القانون السماوي، و إلى الوحي كمصدر و حيد للقانون، و إلى حالة الاستثناء القانونية و الفعلية و قمع المتظاهرين و الزيادة في الأسعار و توقيف عجلة التنمية و إغراق البلاد في المديونية، و التنصل من المسؤولية و تعليق الفشل على "الآخرين"، و إهانة الدستور و الأحزاب السياسية و جمعيات المجتمع المدني و القضاة و المحامون و النساء و الشباب.
و بقدر ما يهمنا الحديث عن هذه اللحظة المظلمة من تاريخ المغاربة، بقدر ما نستحضر إرادة المراهقة الإسلاموية البنكيرانية لمحو التراث الفكري العظيم للشعب المغربي، و الطمع في التخلص منه، و افتعال صراعات و همية و درامية طمعا في غسل دماغ المغاربة من التراكمات التي حققوها في صيرورة النضال من أجل بناء الدولة المدنية البديلة.
خاتمة
و حتى يكون المغرب على موعد مع التاريخ، و حتى لا نضيع وقتنا من جديد؛ لننظر جميعا للزلزال السياسي الذي وقع في فرنسا و في العديد من دول العالم، حيث الصعود الباهر لليمين المتطرف في كل الاستحقاقات. و آخرها ما حصل من "تراجيديا ديمقراطية" على ضوء نتائج الانتخابات الأوروبية. إن زحف اليمين المتطرف على الساحة السياسية الفرنسية و غيرها يسائلنا جميعا، و يزيد من مخاوفنا، و يقلقنا كثيرا.
إن الفاشية الجديدة التي يعتبر حزب ماري لوبن وجها بارزا لها، باتت تتربص بفرنسا و بالعديد من الدول الديمقراطية. أما على الصعيد الوطني، فيعتبر الصف الحداثي الديمقراطي مستهدفا من طرف قوى إسلاموية يمينية متطرفة تلتقي في العديد من النقاط مع حزب "الجبهة الوطنية" بفرنسا و تختبئ وراء الدين، تحت لواء شعارات متطرفة، و تعبر عن إيديولوجيا و نظام من القيم ، و ثقافة تشمل جوانب الحياة الإنسانية مثل: "الدين هو الأمل الأخير للإنسانية في ظل العولمة و الليبيرالية"، " مناهضة الحريات الفردية و الجماعية"، " عبادة المقدسات الدينية و الأخلاقية"، " تمجيد الماضي و عبادة السلف"، "إذلال المرأة و المس بحرياتها و كرامتها"، " كراهية الأجانب"، "مناهضة الحركة الأمازيغية"، " مناهضة حركة المهاجرين و المعطلين و الطلبة"، " عدم الاعتراف بالحق في الانتماء السياسي و الديني و العقائدي و الثقافي للمغاربة".
و أخيرا، و أمام زحف اليمين المتطرف، ما أحوجنا للنقاش السياسي و الاقتصادي و الثقافي الذي كان ينعش الساحة المغربية أواخر السبعينات و طوال سنوات الثمانينات! فمن منا لا يحن إلى عمالقة الفكر الحداثي الديمقراطي المغربي: عبد الله العروي و عبد الكبير الخطيبي و محمد عابد الجابري و بول باسكون و جرمان عياش و فاطمة المرنيسي و عبد الحق المريني و عزيز بلال و إبراهام السرفاتي و الطاهر بنجلون و محمد سبيلا و أحمد الحليمي و محمد صلاح الدين و رقية مصدق و عبد السلام بنعبد العالي و مكي بنطاهر و محمد كسوس و عبد الصمد الديالمي و رحمة بورقية و عبد الجليل حالم و عبد السلام الحيمر و محمد البردوزي و إدريس خروز و العياشي المسعودي و اللائحة طويلة، و طويلة جدا (سنستحضرها في مناسبة قادمة بالتأكيد )، تشمل العشرات من الوجوه البارزة في جميع التخصصات، يجمعهم قاسم مشترك هو الدفاع عن مغرب جديد، مغرب ديمقراطي، مغرب المواطنة، مغرب حقوق الإنسان، مغرب حقوق النساء، و مغرب الحق في الكرامة و العيش الكريم...