ما حدث مع حكومات الاسلاميين في دول الربيع العربي وما حدث في المغرب مع رجل الدولة البارز في العالم الاسلامي طيب رجب أردوغان مسألة في غاية الخطورة تتعدى ما قيل عن عودة قضايا الدفاع عن الديموقراطية وحقوق الانسان وحق الأقلية العلمانية في السيطرة على زمام الأمور، لأنها تطرح عدة قضايا كبرى تتعلق بأسلوب الفاشية العلمانية في مطاردة حق الاسلاميين في السلطة وحق الشعب في أن يحكم نفسه بنفسه من خلال اختياره الديموقراطي لهم في الحكم وتطبيق برنامجهم الانتخابي الذي منحهم السلطة. أولى هذه القضايا تتمثل في الفاشية السياسية التي تلازم الأحزاب العلمانية المتطرفة. إن فاشيتهم السياسية لا تتم حتما عبر الآليات الديموقراطية التي تقتضي الاعتراف بحق الاسلاميين في التداول على السلطة وفسح المجال لهم لتطبيق برامجهم الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وبموجب التنافس الانتخابي الشريف، ولكن عبر ممارسات إرهابية لا أخلاقية كتجميد الأرصدة وعرقلة الانتاج، وإفشال الحوارات وعرقلة إجراءات مواجهة الفساد. من أهم خصوصيات الفاشىيين العلمانيين أنهم ألفوا الصيد في الماء العاكر ولا يملكون مقومات العمل في الأجواء الصافية ولا يؤمنون بديموقراطية المجتمع المفتوح على كل الخيارات. إن الخيار الوحيد الذي يومنون به هو أن يظلوا وحدهم في السلطة ويهيمنوا وحدهم على مقدرات البلد باسم ديموقراطيتهم المزيفة والمزورة لإرادة الشعب بكل وسائل الإفساد الانتخابي. ذريعة "المجتمع المتنوع والمفتوح" أنظر إلى المنطق الفاشي للعلمانيين المتطرفين في كل الدول الربيع العربي في المغرب ومصر وتونس وحتى في تركيا، لقد أسقطت رياح الربيع العربي أقنعتهم، فلم يتحملوا الانتظار والاحتكام إلى ديموقراطية صناديق الاقتراع كما تحمله الاسلاميون لعقود من الزمن. لقد حكموا وحدهم لعقود من الزمن باسم "ديموقراطيتهم" المستندة إلى الانتخابات المزورة، واليوم بعد أن أسقِطوا بالإرادة الشعبية وبشفافية صناديق الاقتراع التي تعبر عن الديموقراطية الحقيقية، انتقلوا إلى تبني مصادرة حق الشعوب المسلمة في الاحتكام إلي القوانين التي ترتضي لنفسها، وتغنوا ببدعتهم المقولة "المجتمع المتنوع والمفتوح" لغاية العودة إلى التحكم والاحتكام إلى قوانينهم ومفاهيمهم، رغم أنف إرادة الشعب وضدا على أن يحكم نفسه بنفسه، كأن مجتمعاتنا الاسلامية لم تكن يوما متنوعة ولا مفتوحة إلا بعد أن جاء دور الاسلامين في الحكم، والفاشيون العلمانيون في الواقع إنما هم صم عمي عن هذه الحقيقة التي اقرها الله سبحانه منذ الأزل في قوله تعالى" إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (آية). أنظر مثلا قبل فترة الاستعمار كل أفراد المجتمع إسلاميون، ولا يومنون بشيء آخر، عند التنازع في شيء، غير شرع الله ورسوله، حتى شاعت بين الناس مقولة " أنا بباب الله والشرع"، وفي ظل الشرع كانت حقوق الأقلية المسيحية واليهودية مصونة كاملة لأن صيانتها من صميم الدين الحنيف؛ وحتى في عهد الاستعمار من الصعب ان تجد شخصا يجرؤ على القول بفصل الدين عن حياة الناس، لكن بعد "الاستقلال" وبعد تمكين الاستعمار لعملائه وبفعل الغزو الفكري أصبحت الهيمنة كلها الفاشية العلمانية على السلطة السياسية والثقافية والاعلامية، وكان دأبها هو ممارسة الإرهاب السلطوي والاعلامي والفكري وأحيانا القانوني بالمحاكمات الصورية وأحيانا الجسدى بالتعذيب في السجون ضد الاسلاميين ونعتهم بالكثير من الصفات السلبية وتعطيل فرصهم في المشاركة السياسية. حدث هذا التطور السريع في المظاهر العلمانية وشعاراتها "الديموقراطية" مع تراجع أيضا كبير وسريع في الأخلاق والفضائل العامة ومع انتشار الفساد في كل المستويات. لكن الضمير الاسلامي بقي رغم ذلك وقّادا متألقا حتى استنفر قواه وبدأ المد الاسلامي يزحف على مراكز الفساد العلماني. لقد جربت الشعوب، اليوم كالأمس، ورأت الاسلاميين أكثر انفتاحا مع القيم الديمقراطية وأقدر على تحقيق الطفرة الاقتصادية وكرامة اجتماعية غير مسبوقة. لقد سئل أردوغان مرة: كيف حققت هذه النقلة الاقتصادية لتركيا من دولة مَدينة إلى دولة مانحة ودائنة لصندوق النقد الدولي (حسب تصريح أردوغان في التجمع الخطابي الأخير نقل احتياطي المصرف المركزي من 27 مليار دولار عند تولى حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم، إلى 135 مليار دولار اليوم)، أجاب لأنني لا أمد يدي إلى المال العام. وجربت الشعوب خيانة معظم العلمانيين وسعيهم إلى التضحية بالمصلحة العامة من أجل مصالهم الشخصية. والأمثلة أوضح في علمانيي فلسطين المتحالفين مع إسرائيل لإسقاط حكومة حماس، وفي علمانيي مصر المستنجدين علانية بالتدخل الأمريكي والذين يسعون إلى عودة الديكتاتورية العسكرية وتعطيل الانتاج، وعلمانيي تركيا عباد الهوي الذين يحتجون على مشروع ميدان "التقسيم" التنموي برفع زجاجات الخمر باسم الدفاع عن الحرية، والاعتداء على المحجبات، وعلى المساجد وشرب الخمر فيها (حسب تصريح أردوغان)، وأوضح عند علمانيي المغرب في التحالف الهجين بين فلول الفساد اليمينيين واليساريين لمقاومة الاصلاح في أفق إسقاط الحكومة وعودة هيمنة الحزب الديكتاتوري المعلوم والسيء الذكر. كلهم أعماهم العداء لتوجه الشعب وثقته الكبيرة في الاسلاميين ونظامهم في الحكم، ولكي يوقفوا انتشاره يلجأون إلى الوسائل المعروفة في الفاشية، منها التنصل عن ديموقراطية الصناديق والتهديد باستعمال القوة لإسقاط الأنظمة الاسلامية المنتخبة وإقصائها عن حقها في الحكم، مثلا تحالفت الأحزاب القومية واليسارية مع فلول مبارك لإسقاط الدولة الجديدة، وفي المغرب تحالفت قيادات الأحزاب العريقة مع حزب الدولة العميقة لمناهضة التغييرات الديموقراطية ولحماية رموز الفساد. فسميت هذه القوى العلمانية بالفاشية لأنها لا تومن بالديموقراطية ولا تحترم إرادة الشعب. ولقد خسرت كلها، مشرقا ومغربا، في امتحان ادعاء "الديموقراطية". أما القضية الثانية فتتعلق بالقيم وبحدود حرية الفكر والنقد، ففي حين إن نقد التراث الاسلامي بل والهجوم عليه والتطاول عليه دون فحص ولا تمييز ووصفه بالفكر التقليدي أو الرجعي أو الظلامي إلى غير ذلك من الأوصاف القبيحة شيء مألوف في الأصول الثقافية العلمانية، تمارس الفاشية العلمانية في حريتها النقدية توسعا لا مبرر له إلا استفزاز مشاعر المسلمين حتى بات يشمل رفض الشريعة والقطعي من الأحكام بل والطعن في شخص رسول الله ونعته بما لا يليق من الأوصاف، مصطفين في ذلك وراء ما يسمونه "القيم الكونية"، وهو أيضا جزء من مصطلحات الفاشية العلمانية لتعميم الفاشية القيمية بدعم من الدول الاستعمارية ومنظماتها الدولية، بجانب مصطلح آخر غامض الدلالة وهو كلمة "الحداثة" وهو مصطلح تترجمه الفاشية العلمانية إلى الدفاع عن سلوكات لا اخلاقية وغريبة عن حياة الانسان السوي كالإباحية والشدود الجنسي وما شابه ذلك، وهي مظاهر تسعى من خلالها الأقلية الفاشية إلى السيطرة على الأغلبية الساحقة وجعلها تتطبع مع الحياة الساقطة والمريضة. وأما القضية الثالثة والخطيرة فتتعلق بمستقبل البلاد الاسلامية التي تحاصرها الفاشية العلمانية مدعومة بقوى الاستعمار الغاشم، لأن كل بلد محكوم بالدولة التي استعمرته سابقا يأتمر بأمرها وينتهي بنهيها. فلا يمكن لهذا البلد المحكوم بلوبي فاشي أن يملك قرار نفسه لا في الفكر ولا في السياسية، ولا يمكن أن يعرف نهضة منفتحة على التنوع الدولي. فالمغرب مثلا سيبقى متخلفا ما دام ولاؤه اللغوي ثم ولاؤه الاقتصادي والفكري مرتبطا بفاشية فرنسية منغلقة على نفسها بسبب علمانيتها المتطرفة. إن مثل هذا الارتباط الأحادي هو الذي يفصل عقول الناشئة عن التنوع الفكري واللغوي وعن المناهج العلمية المتطورة، وأساليب البحث العلمي الحديث، مما سيؤثر، ولاشك، على مناخ الاستثمار الجذاب على جميع المستويات. لذلك ليس لبلداننا المغلوبة على أمرها إلا الثقة الكاملة في الطبقة السياسية الصاعدة بعد عقود من هيمنة الفاشية العلمانية، وهم الاسلاميون المعتدلون الذين تشبعوا بهوية شعوبهم ويملكون القدرة على الانفتاح على كافة القوى المجتمعية المتشبعة بالوطنية، ويملكون المقومات الفكرية والقيمية بمرجعيتهم الاسلامية لمقاومة الفساد وإعادة توجيه الاقتصاد، والذين هم أقدر على تحقيق الطموحات و الاهداف الرئيسية التي كانت وراء تفجير الأوضاع الاجتماعية إبان الحراك السياسي، والذين هم برصيدهم الأخلاقي والقيمي أقدر على قيام صرح ديموقراطي عميق ليس كآليّة فقط ، بل كثقافة و كنظام سياسي يؤسس للتداول السلمي على السلطة، في ظل دستور مدني ينص على الهوية الاسلامية لغالبية الشعب وعلى الحقوق والحريات العامة لكافة المواطنين بدون تمييز على أساسي لغوي أو ديني أو عرقي... هذه التجربة الوليدة في هذا العصر تستحق الدعم الشعبي الكامل. وأمنيتنا أن يترك الأوروبيون الشعوب الاسلامية وشأنها، بل وأن يراجعوا، بعد تجربة الربيع العربي، حسابهم الخاطئ في دعمهم للأنظمة المستبدة وأحزابها المنخورة بالفساد وظنهم أنها قادرة على حمايتها لمصالحهم. * عضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية