هل قدر شعوبنا أن تعيش رهينة حسابات التموقع سياسيا بين الإخوة الأعداء العلمانيين من جهة والإسلاميين من جهة أخرى؟ هل بعد كل التضحيات التي قدمتها الشعوب أساسا في سياق ما سمي بالربيع العربي، سيجد المستضعفين أنفسهم مجددا عند نقطة الانطلاق؟ هل ستجد هذه الشعوب، التي وعدتها النخب لعقود بحياة أفضل، نفسها مدفوعة إلى الندم على فترة الاستبداد التي كانت يضمن لها على الأقل "نعمة الأمن والاطمئنان"؟ هذه أسئلة من بين أخرى يحق لكل متتبع لما يحدث في بلدان ما بعد "ثورات" الربيع العربي أن يطرحها منتظرا الإجابة عنها من تيارين أساسين: العلمانيين من جهة والإسلاميين من جهة أخرى. توجيه السؤال لهذين التيارين على وجه الخصوص يجدد مبرره في واقع كونهما هيمنا على الساحة السياسية العربية منذ عقود، وأثرا بشكل كبير على سير الأمور في بلداننا من خلال الصراع متعدد الواجهات الذي انخرط فيه الطرفان، والذي لا يبدو في الأفق القريب توجه ما نحو إنهائه بشكل من الأشكال تقديرا لمصلحة الأوطان والشعوب المقهورة. لم يعد الحوار بين الطرفين سوى مضيعة للوقت أو لنقل فرصة لاستعراض العضلات "الفكرية" للتيارين فيما يشبه صراعا للديكة، تخرج المصلحة الوطنية الخاسر الأكبر فيه والاستبداد المنتصر الأكبر. كما لم تعد الديمقراطية آلية يمكن الاحتكام إليها لحسم هذا الخلاف، إذ سرعان ما يتم التّنكر لها وإفراغها من مضامينها إذا هي أدارت ظهرها لهذا التيار أو ذاك. لقد داق التياران كلاهما محنة الاستبداد على يد أنظمة شمولية لم تغيّر في شيء صفاتهما (علماني/ إسلامي) من حقيقتهما، وتجاورا في أقبية السجون لسنوات، وتحالف كلاهما مع الاستبداد بمختلف أشكاله من جنيرالات و "قادة ثائرون" وأمراء يعتقدون أنفسهم مقدسين ويمارسون الحكم باسم الله. في كل مرة، كان الفريقان يجدان ما يكفي من المبرّرات والفتاوى الشرعية وغير الشرعية لتبرير ما لم يكن بالإمكان تبريره: تارة بحجة حماية الديمقراطية من أعدائها وتارة أخرى بحجة حماية الإسلام من أعدائه. عند ما حل الربيع العربي، لم يُضف جديدا في طبيعة هذا الصراع، سوى أنه أخرجه من ساحاته المعتادة (الجامعات على وجه الخصوص) إلى الساحات العمومية والإعلام العمومي، لتُخْتَزل هذه الجَلَبة التي جاءت بها رياح التغيير في صراعات مفتوحة، استعملت فيها كل الأسلحة من تخوين وتخوين مضاد، من عنف وعنف مضاد وهي كلّها أساليب تدل على أزمة فكرية مزمنة لم تستطع النخب الخروج منه منذ عقود، وبقيت في ظلّها أوطاننا تنتظر من يعيد حسابات زمن التغيير من خلال طرح الأسئلة الحقيقية التي تنتظر الشعوب إجابات عنها والتي يبدو أنها ستبقى عالقة حتى حين. طبعا، ورغم أن التوجه العام لدى نخبنا كلما تعلق الأمر بالوقوف عند الصراع العلماني/الإسلامي هو التعميم المخل، إذ تكاد لا تسمع لدى الطرفين على حد سواء أحكاما منصفة، تفيد أن داخل التيارين توجد مدارس شتى واختلافات كبيرة رغم كل محاولات التنميط التي تُسّهل على المتطرفين من هذا الطرف أو ذاك جعل الجميع في سلة واحدة، إما لكسل فكري يُعْجز العقل والفكر عن التدقيق في حقائق الأمور، أو لموقف مسبق قائم على قناعة "ليس في القنافد أملس، يجعل أي تقارب بين التيارين هو مجرد أمر مستحيل، فإنه يتعين الإقرار باستحالة مقاربة هذه العلاقة خارج السياق الجغرافي والثقافي الذي انتجته والتي أعطتنا تجارب مختلفة تتراوح بين الوصال والانفصال، حسب ما أعتقد أنه حالة نضج جماعي،تصل من خلاله النخب العلمانية والإسلامية إلى قناعة مفادها أن الطريق الوحيد للتغيير الحقيقي هو الحوار، وأن الحوار لا يستقيم إلا ضمن شروطه، وأهما هو القبول المتبادل والاحترام المتبادل والاعتراف من الجانبين بقصور الوصفات الإيديولوجية السحرية التي ذأب التياران على إشهارها في وجه كلاهما الآخر مختزلة في شعاري: الإسلام هو الحل مقابل العلمانية هي الحل. وللتوضيح هنا، فلا يكمن الإشكال، بالنسبة لي، في الإسلام كدين بعث أمة كاملة من سباتها وكان سببا في ريادتها للعالم في وقت من الأوقات ولا حتى في العلمانية كاجتهاد بشري عقلاني قد اتبت نجاعته في حل مشاكل الناس في العديد من الأقطار، ولكن يكمن في التصور الذي يحملها الفريقان للدولة انطلاقا من قناعة كل منهما القائمة على الدين أو العلمانية، وإلى أي حد تحقق هذه الدولة (الإسلامية أو العلمانية) مبادئ العدل والعدالة وسيادة القانون والانعتاق من براثن الاستغلال. بالطبع، لن يسعف الفريقين معا في هذا المقام، وضع الاغتراب التاريخي والجغرافي الذي يُلْجأ إليه كلما تعلق الأمر بالتدليل على صحة هذا الطرح أو ذاك، متجسدا في تقديم نماذج من التاريخ القديم أو الحديث لدول يتم تصنيفها حسب الحاجة علمانية أو إسلامية، الحال أن تدقيق المصطلحات أمر بالغ الأهمية وأنه على المستوى النظري لن ينتهي هذا الجدل بين مثقفينا كما لم ينته إلى غاية اليوم بين مثقفي الغرب، إذ لا يزال الموضوع حاضرا في جل الدول التي يُعْتقد أنها حسمت في خياراتها. المطلوب اليوم ليس حسم الخلاف النظري بين الفريقين، ولكن وقف الصراع المُعَطّل الذي ينخرط فيه الطرفان كلما دقت ساعة مرحلة انتقالية يرى فيها هذا التيار أو ذاك رياح التغيير تجري في غير مصالحه وحساباته السياسية من خلال الاحتكام إلى ثوابت تضمن التغيير في بلداننا نحو مزيد من العدل والعدالة، نحو الحرية وتضمنالانتقال في جو من الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية على قاعدة انتماء الجميع أولا وأخير لوطن واحد. هذه الثوابت هي نفسها التي دأب العلمانيون والإسلاميون على ادعاء الدفاع عنها وقبول الاحتكام إليها لعقود ويوجد على رأسها: الاحتكام إلى الديمقراطية باعتبارها سيادة الشعب، وهنا ينبغي الإشارة إلى أن الديمقراطية كمفهوم لم تكن في وقت من الأوقات إلا عددية، أي أنها تحتكم إلى الأرقام أساسا وتحسم في كل استشارة شعبية بتعداد المصوتين، كل المصوتين وبغض النظر عن قناعاتهم الإيديولوجية أو مستواهم المعرفي. الحال أننا أصبحنا نسمع من بين من كان يفترض أن يكونوا أكثر انحيازا للديمقراطية "هرطقات" لا تنبئ بخير ولا تفضي على الأرجح إلا إلى مصادرة حق الشعب في ممارسة حقه، بدعوى أنه لم يبلغ (أي الشعب) بعد سن الرشد لممارسة حق اختيار من يحكمه ووفق أي منهاج، مستحلّين بذلك لأنفسنا (كنخب) حق ممارسة الحجر على الشعوب ولو أدى ذلك إلى إطالة عمر الاستبداد الذي ندّعي أننا نحاربه. الحقيقة أن النخب تتعامل بانتهازية كبيرة مع الديمقراطية، فهي مقبولة طالما أنها توصل للكراسي محسوبون على التيار وتصبح "كفرا بواحا" أو مجرد "ديمقراطية عددية"، إذا ما مالت نتائجها لصالح الخصوم.ولعل المتتبع لما يحدث في بلدانا يجد في تصريحات بعض النخب ما يكفيه ليخرج بخلاصة واحدة وهي أن هناك إشكال حقيقي على هذا المستوى يعيد بالنقاش حول الديمقراطية إلى نقطة الانطلاق. منذ عقود دأب عدد غير يسير من الاسلاميين على القول أن الديمقراطية "بدعة" وأن الشعب لا يملك حق تقرير مصيره من خلال اختيار المنهج الذي يحكم به وأن أي منحى في هذا الاتجاه إنما هو تطاول على مبدا "الحاكمية لله"، في المقابل كان كثير من العلمانيين يدافعون باستماته على العودة إلى الشعب كمصدر وحيد للسلطة. الغريب في الأمر أنه بينما تقدم الإسلاميون كثيرا نحو الديمقراطية، إذ أصبحت حتى بعض التيارات السلفية اليوم تقبل من حيث المبدأ الاحتكام للديمقراطية، فإننا أصبحنا نرى باستغراب كبير نكوصا كبيرا لدى بعض العلمانيين الذين لم تعد الديمقراطية بالنسبة لهم آلية يمكن الاحتكام لها، لأنها أصبحت قاصرة وغير ذات جدوى حسب زعمهم. قد يقول قائل إن التيارات الإسلامية عموما تقبل اليوم بالديمقراطية لأن رياح التغيير تجري وفق مصلحتها مند عقود، وأنها إنما تتعامل بانتهازية مع الديمقراطية، فهي تستعملها للوصول إلى السلطة لتنقلب عليها بعد أن تحكم قبضتها على البلدان. هذا الرأي مردود عليه بأمور ثلاثة: أولا: كونه نوع من محاكمة النوايا الذي لايملك أحد الحسم فيه، وحتى النماذج التي يتم تقديمها هنا وهناك للتدليل على هذا الرأي لا يمكن اعتمادها إلا في إطار السياق الثقافي والتاريخي والجغرافي الذي أنتجها، والتي يستحيل بحال من الأحوال تعميمها، إلا إذا استسلمنا للرغبة الجامحة في تعطيل ملكة التفكير الموضوعي خدمة لأهداف إيديولوجية واضحة ولحسابات الرغبة في التموقع سياسيا. ثانيا: أنه إذا سمحنا لأنفسنا بمحاكمة الإسلاميين، كل الإسلاميين بأن تعاملهم مع الديمقراطية تعامل تكتيكي بناء على قرائن يتم تجميعها هنا وهناك، فيحق لنا أن نحاكم العلمانيين بنفس المنطق، ولعلنا نجد اليوم في حالة النكوص التي تعيشها بعض النخب العلمانية في بلداننا وتحالفاتها السريالية مع الاستبداد ما يكفي من الادلة لإدانتها هي الأخرى بنفس المنطق الذي يحاكم به اليوم خصومهم الايديولوجيين. ثالثا: أن هذا الرأي يحتوي ضمنيا على نظرة ازدراء و تحقير للشعوب من حيث قدرتها على مقاومة الاستبداد سواء كان مصدره تصور علماني أو إسلامي. ولئن قيل أن الشعوب كانت لعقود مستسلمة غير قادرة على تغيير مجرى الأمور لصالحها، فإني أقول أن المسؤولية الأولى في هذه الحقيقة، إنما تعود للنخب نفسها. ذلك أنها أنهكت الشعوب لعقود من الزمن في معارك هامشية، فقدت معها هذه الأخيرة الثقة في النخب السياسية عموما وفي الفعل السياسي من أساسه. إن تصويت الشعوب اليوم على الإسلاميين بعد تصويتهم بالأمس على العلمانيين، إنما يجسد بالنسبة لي نضج الشعوب وقناعتها بفضيلة الاختيار، اختيار من تعتقد كشعوب أنه أفضل من يحقق لها مصالحها وأن الحسابات الإيديولوجية لديها ليست طاغية كما هي لدى النخب. تصويت الشعوب للإسلاميين اليوم في جزء منه تعبير عن رغبة في التغيير ومنح فرصة لتيار يزعم أن مجرد اعتماد شعارات دينية كفيل بصنع هذا التغيير، ولا أشك لحظة أنه بعد سنوات إذا لم تترجم هذه الشعارات إلى سياسات تقدم إجابات عن الأسئلة الحقيقية للشعوب والتي من ضمنها: كيف السبيل إلى تحقيق عدالة اجتماعية؟ كيف السبيل إلى فرض إعادة النظر في توزيع ثروات البلدان؟ كيف السبيل إلى تحرير البلدان من براثن عولمةنيوليبرالية متوحشة لا تعير اهتمام لا لدين ولا لثقافة ولا لمصلحة شعوب وإنما تخدم حفنة من المضاربين والاحتكاريين الذين لا يتجاوز عددهم بضع مئات؟ كيف السبيل إلى أنظمة تربوية ذات جودة عالية تستجيب لمتطلبات العصر وتقطع مع واقع حالها اليوم من كونها مجرد مستنبتات للعاطلين؟ ...إلى آخره من الأسئلة الكثيرة التي تُعْجز العقل وتحيّر الفكر. ختاما، أعتقد أنه من المفيد الوقوف بتأن على بعض الدروس التي يمكن استخلاصها مما يقع في بلداننا كلما سمحت الظروف بذلك: الدرس الأول من مصر، حيث تابعنا الصراع المفتوح الذي عاشه التياران الإسلامي والعلماني على خلفية ما يسمى ب"معركة الدستور"، وبغض النظر على مواقف الطرفين، أقف على نتيجة التصويت على الدستور التي أعطت أن ثلث الناخبين فقط توجهوا لصناديق الاقتراع ليعبروا عن موافقتهم أو رفضهم لدستور مصر الجديد. أي أن التيارين مجتمعين، إضافة إلى ما استطاعا معا تعبئتهما من المتعاطفين لا يشكلون نصف عدد الناخبين وأعتقد أن هذه الحقيقة التي قد يتكأ عليها البعض ويوظفها لصالح مواقفه الايديولوجية لا تسعف المتأمل الموضوعي بقدر ما تساءله: من يتحمل مسؤولية هجر الأغلبية لصناديق الاقتراع؟ الدرس الثاني من تونس، حيث اختار التياران العلماني والإسلامي التحالف من أجل تغيير الأوضاع في البلاد، وهو أمر محمود ومطلوب ولعله يشكل، بالنسبة لي، أملا ما لإيجاد الطريق الصحيح للخروج من الأزمة. بعد سنة من الثورة، لا تزال الأوضاع في مهد الربيع العربي على حالها، لدرجة أن الشعوب التي تنتظر الشيء الكثير والتي ملّت الانتظار أقدمت من فرط استيائها على رشق رئيس البلاد بالحجارة بمناسبة الاحتفالات بالسنة الأولى لثورة الياسمين، الحال أن مشاكل دولنا المتراكمة لعقود، لا يمكن لتيارين وحدهما حلّها وبالأحرى أن يستطيع تيار لوحده ذلك أو حزب لوحده. إن مشاكلنا المتراكمة منذ عقود من الزمن لن تجد طريقها إلى الحل إلا بتعبئة جماعية كتلك التي تعرفها الدول والمجموعات البشرية عند حلول زلزال أو كارثة من الكوارث. إن عمل التيار العلماني والإسلامي سويا لا يشكل ضمانة كافية لتغيير الأمور في بلداننا، غير أنه شرط موضوعي لا يمكن تصور بداية حل دونه وأعتقد أنه آن الأوان للأصوات المعتدلة داخل التيارين أن تعلو وأن توقف هذا العبث الذي يهدد الأمن والاستقرار دون أن يقدم إجابات لأي من الأسئلة الحقيقية التي تنتظر الشعوب المقهورة إجابات عنها.