العلمانيون في مصر احتفوا بأردوغان، وصفقوا للنموذج التركي، معتبرين أن بروز الرجل وإنجازاته وما بلغته بلاده من علو ونهضة كل ذلك من ثمرات العلمانية المطبقة هناك. وكانت الإيحاءات واضحة في تلك الحفاوة، حيث لم يكن هدف المديح مجرد التعبير عن الإعجاب بالرجل أو بمجمل التجربة التركية، وإنما أريد به إقناع «الجارة» المقصود أهل مصر بأن العلمانية التي رفعوا شعارها هناك هي الحل. وأن بلدنا الذي يسعى الآن لتأسيس نظام جديد بعد الثورة، إذا أريد له حقا أن ينتقل من ظلمات التخلف والاستبداد إلى نور التقدم والحرية، فعليه أن يتنكب ذات الطريق، وأن يلتزم بالعلمانية، التي هي المفتاح السحري للمستقبل المشرق. هذه «الوصفة» ناقشتها من قبل، لكن أصحابها جددوا عرضها علينا أخيرا بمناسبة زيارة أردوغان لمصر، التي اصطحب فيها زوجته وابنتيه المحجبتين. وقد «ابتلع» العلمانيون حجابهن واحتملوه مؤقتا على الأقل، رغم أن العلمانيين الأتراك يعتبرونه انتكاسة وردَّة، وخطرا يهدد العلمانية والجمهورية.. ولأن أصحابنا عادوا إلى ترديد ذات الفكرة، فقد سمحت لنفسي أن أعود إلى تفنيدها وتبيان فسادها. فالزعم بالربط التلقائي والحتمي بين العلمانية وبين الحرية والتقدم يشكل مغالطة لا أصل لها في علم السياسة أو تاريخ النظم السياسية. ذلك أن العلمانية التي هي بالأساس فكرة غربية برزت لكي تتحدى سلطان الكنيسة. ولأجل ذلك تبنت رؤية مادية للعالم المحسوس (في اللغة الأردية يترجمون العلمانية بمصطلح الدنيوية)، بعضها ينكر الغيب ويخاصم الدين، وبعضها يضعف الغيب ويتصالح مع الدين لكنه يعزله عن المجال العام. وفي الحالتين ليست هناك علاقة حتمية أو ضرورية بينها وبين الديمقراطية. ولئن تعايشت مع الديمقراطية في المجتمعات الغربية، إلا أنها تحولت إلى سوط للقمع والاستبداد في بعض الأقطار العربية. والنتائج البائسة التي حققتها في تونس وسوريا والعراق ليست بعيدة عنا. وهو ما يسوغ لنا أن نقول بأنه إذا كانت كل دولة ديمقراطية في الغرب علمانية، إلا أنه ليس كل دولة علمانية ديمقراطية بالضرورة. من الأمور الجديرة بالنظر في هذا السياق أن العلمانية في تركيا، منذ تطبيقها في عشرينيات القرن الماضي على يد كمال أتاتورك وجماعته كانت لها مشكلة دائمة مع الديمقراطية. وإن الانقلابات العسكرية الثلاثة والرابع السلمي تمت كلها باسم الدفاع عن العلمانية ضد إرهاصات التحول الديمقراطي. إلى جانب ذلك فإن محور المعركة التي يخوضها أردوغان الآن في سعيه لإعداد دستور جديد هو كيفية تحويل تركيا إلى دولة ديمقراطية، يكون الشعب فيها هو صاحب القرار ومصدر السلطات، وليس المؤسسة العسكرية التي نصبت نفسها حارسة للعلمانية وصانعة للسياسة. إن أي باحث نزيه لا يستطيع أن ينسب إلى العلمانية ما حققته تركيا من نهضة وعلو في زماننا لأن إنجازاتها تنسب إلى الديمقراطية بالدرجة الأولى. وللعلم فإن العلمانية قادت أردوغان إلى السجن الذي قضى فيه أربعة أشهر بزعم المساس بها، لكن الديمقراطية هي التي أوصلته إلى رئاسة الحكومة التي في ظلها حدثت النقلة الكبيرة لتركيا، وتحولت إلى قوة اقتصادية صاعدة وقوة سياسية لها حضورها المؤثر والفاعل في أهم ملفات المنطقة. لقد كنت ومازلت ضد العراك العبثي حول عنوان الدولة علمانية كانت أم إسلامية. واعتبره عبثيا لأنه يدور بين نخبة من المثقفين نصبوا أنفسهم متحدثين باسم المجتمع ويريدون أن يفرضوا عليه رؤيتهم للمستقبل. كأنما أريد لنا أن نخرج من وصاية أبوية حسني مبارك وجماعته إلى وصاية النخبة ذات الصوت العالي. ولا أفهم لماذا لا نترك الناس لكي يختاروا بأنفسهم ما يريدون. أعني لماذا لا نتوافق على ضرورة التركيز على البدء بالديمقراطية، من خلال إطلاق حرية التعبير وحرية تستكمل الأحزاب والنقابات المهنية والعمالية، وفتح الأبواب أمام المجتمع للمشاركة والمساءلة. وتداول السلطة. واهمون أولئك الذين يعتبرون العلمانية ضامنة بحد ذاتها للحرية والديمقراطية في المجتمع. وأزعم أن هذا الوهم ينسحب أيضا على الذين يهتفون طول الوقت مرددين شعار «إسلامية إسلامية». ذلك أن الطرفين ينشغلان بهوية الدولة وعنوانها، ولا يلقيان بالا لقوة المجتمع أو ضعفه. ذلك أن ضعفه يمهد الطريق لتغول السلطة واستبدادها، علمانية كانت أو دينية. ولا حل لوقف ذلك التغول إلا بتعزيز حصانة المجتمع من خلال تقوية مؤسساته والتمكين لها. وأردوغان ليس ابن العلمانية، ولكنه ابن شرعي لمجتمع نضجت فيه التجربة الديمقراطية حتى أوصلته إلى ما وصل إليه.