سكوت أرجوكم: إنهم يتبادلون العلاوات في إطار القانون.. من قال إن القانون أعمى؟ القانون يبصر جيدا، هو فقط أصم، ويطلب منا أن نخرس. في وطني من الأفضل أن يخلقك الله شيطانا أخرس، على أن تكون مواطنا نزقا لا ينضبط بالسكوت في حضرة الفساد المحترم.
ومن الأجدى لك أن تحترف الزغردة في أعراس السلطة ونثر الورد في مواسم جني الغنيمة، على أن تكون ساعي بريد تعيس يوزع رسائل الإنذار، أو تصير بطلا "دونكيشوطيا" يطارد المستحيل.
ومن الأسلم لك أن تتزين بقلادة من ذهب الصمت الخالص وتبتسم للصور، على أن ترفع صوتك ضد الفساد أو تنطق بكلام الحق.. فقد تجد نفسك دون أن تعلم مذنبا بإفشاء السر المهني، أو متورطا في ملف إرهاب، أو متلبسا بقطعة حشيش.
في وطني، المبلغ عن الفساد شخص خطير يهدد الاستقرار الهش، والمطلع عليه – ولو صدفة أو في إطار وظيفته الإدارية- قنبلة موقوت من الأفضل إبطال مفعولها بتهمة جاهزة؛ أما المتورط فيه الذي يجر خلفه ملفات استغلال النفوذ والاغتناء غير المشروع، فهو مواطن صالح بدرجة شخصية كبيرة.
إذا كان لديكم شك في ذلك، أو مازلتم تحت تأثير مفعول سحر الدجل السياسي وتمائم دستور 2011، ومازلتم تصدقون الشعارات اللامعة كربط المسؤولية بالمحاسبة، و"صوتكم فرصتكم لمحاربة الفساد والاستبداد"؛فأفيقوا من الوهم، وخذوا العبرة من مسار قضية البريمات المتبادلة بين وزير المالية السابق في حكومة عباس الفاسي، صلاح الدين مزوار، والخازن العام للمملكة "نور الدين بنسودة"، وانظروا كيف تحول المبلغون عما اعتبروه فسادا إلى متهمين بإفشاء السر المهني...
تأملوا فقط كيف حركت الحكومة الدعوى ضد المبلغين، وصمتت عن المسؤولين المتلبسين بتبادل الغنائم، كيف فضل القضاء حفظ شكايات المنظمات الحقوقية وتبرئة ذمة المتورطين في هدر المال العام، وكيف اكتفى بإدانة موظف اتهم بدون دليل بتسريب وثيقة إدارية لجريدة "أخبار اليوم" تثبت عملية تبادل الكرم العمومي بين الوزير والخازن.
بعد عام ونصف من التشويق القضائي، تنتهي الحكاية العبثية لبريمات مزوار ومن معه بترقية "مزوار" إلى وزير خارجية في حكومة محاربة الفساد، وببقاء الخازن العام للمملكة في منصبه السامي، وبإدانة المبلغ المحتمل عن الفضيحة المالية والسياسة بشهرين حبسا موقوف التنفيذ.. والعبرة من الحكاية كلها هي: من رأى منكم منكرا، فليصمت.
لو كنا في بلد ديمقراطي، لا أحد كان سيلتفت إلى من سرب المعلومة، وكيف سربت، ومن نشر الوثيقة، كنا سنغرق في تفاضيل الفضيحة، وننشغل بأبعادها الأخلاقية والسياسية، ومدى مشروعية تبادل علاوات سخية في زمن الأزمة الاقتصادية، لأن الوصول إلى المعلومة والاطلاع على الوثائق الإدارية ومراقبة العمل الحكومي هو حق مقدس يكفله القانون للمواطن وللإعلام وللمجتمع المدني.
لو كنا في بلد آخر يحتكم إلى مبادئ العدالة والشفافية والمحاسبة، كانت قضية تبادل البريمات السخية ستحدث زلزالا مدويا في المشهد السياسي، كانت ستجر رؤوسا كبيرة إلى القضاء، كانت ستتبعها استقالات واعتذارات إلى الشعب، وكانت ستخلف خدشا أخلاقيا عميقا في مصداقية المتورطين، وستنهي مسارهم السياسي إلى الأبد.
في بلادي، لا شيء من هذا يحدث، نتعايش مع الفساد وكأننا لم نره، ويطل علينا المتورطون في الفضائح السياسية والمالية وانتهاكات حقوق الإنسان من شاشات الوطن أنيقين ومبتسمين وكأن شيئا لم يكن.