مرت يومين على العيد ولم أنتهي بعد من معايدة كادحات التصبير وعمال النسيج والمأجورين من جيراننا لأكتشف أن لليوم ذكرى خاصة هو الآخر، فهو اليوم العالمي لحرية الصحافة، عيد أممي جديد ليس كباقي الأعياد، عيد بطعم الخبر والرأي، عيد بطعم التقرير والتصوير والتحرير، فأي إحتفالات ستنظمها نساء ورجال هذه المهنة في ظل إنتهاكات حق الحرية في التعبير والغياب التام لتأمين سلامة الصحفيين والإعلاميين وقَهْقَةِ الجلاد المفلتِ من العقاب على جُثتِ من لَقَوا مصرعهم جراء تمرُد أقلامهم بتواطئ مع زملائهم الإنبطاحيين، فهل ستنزل نقاباتهم المشرذمة للشارع عبر مسيرات لرفع مطالبهم! أم ستكتفي أجهزتها كما فعلت ديناصورات النقابات الأخرى قبل ليلتين.
أصارع الزمن وأسارع في تفقد بطاقات بعض المراسلين والبحث عن أرقام بعض من يمارسون المهنة بأخلاقياتها قصد تهنئتهم بهذا العيد الموقوف التنفيذ لأجد بين صفحاتِ مذكرتي بالصدفة عنواناً لصديق متخرج قبل سنوات، فأُعايدُ سابقيه وأتوجه نحو مقر عمله.في الخارج لا يافِطة ولا مُلصق يدل على وجود جريدة هنا ولا من تسأل، ورقم الشقة فقط من أوصَلي للباب المهترئ لأَنفدَ عبره ماشياً فوق أكوام من الجرائد والصحف وعاقبات السجائر، ممرٌ ضيق قاعة إنتظار فارغة ومقابلتها أيضا، أنادي وما من يجيب غير دخان السجائر الذي يملأُ الفضاء ويحجب الرؤية، ووَحدهُ فضولي المعتاد من يقودني نحو الغرفة المُتبقية "غرفة الأرشيف" كما كُتب عليها. تقدمتُ فوجدتها بلا قُفل ولا باب، على جُدرانها صورٌ لرموز الصحافة الوطنية والعربية، بورطري "أندرواس وروزي"، أقلام وقارورات حبر مبعثرة على الأرض، تلفاز يَصدَحُ بخُطبِ الديمقراطية وحرية الصحافة وطاولةٌ تحملُ مئات الأعداد والملفات الورقية، نسخ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وجثة ضائعة بين عشرات الكتب الصادرة عن الأممالمتحدة ولجنة حماية الصُحفيين والإتحاد الدولي للصحفيين، ومنشورات الهيئات الإقليمية المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان، والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات الإعلامية، دواوين نزار السياسية، وشفتين تُردِّدُ بعض أبياته الممنوعة وعينان شارذِتَين واهِنتَين. سألتهما عن حال صاحبهما في صمت فقال نيابةً عنهما: كتبتُ فحرَّضُوا الناس ضدي ثم كتبتُ فصادرُوا مقالاتي وكتبتُ فضايفُوني أسبوعاً، ثم عُدت فكتبتُ فجلدتُ وحَشَوا فمي بقطع الصابون وكتبتُ وخِفتُ فمَزّقتُ، صَمَتُ لثوانيٍ ثم إبتسمتُ مُستحضِراً الخرسَى المُكرَهِين والخَرسَى المُطاوِعين المُتاجِرين ، مُستحضِراً ًرشيد ومن سُجنُوا وعُمر ومن قُتلووا، مُستحضِراًً الفاطِمتين أيضا ودار البريهي ومن طُردوا وصاحبة المقال الأخير وحديقتها والأزهار التي إقتلعُوا وقُلت: لا تبتأس فمثلك الآلاف هنا والملايين هناك من يعيشون في بلدان تنعدم فيها حرية الصحافة وحق التعبير عن أنفسهم بالكتابة أو أي شكل آخر من أشكال التعبيرِ عن الرأي الشخصي أو الإبداع والتي لن تسمع عنها شيئا ولن تجدها سِوى في البرامج الإنتخابية أوأثناء زيارات البَعثات الحقوقية وتوقيع بروطوكولات الشراكة مع الدول الأجنبية، وقد تجدها مدسوسة بين فقرات القوانين والدساتيرِ الموقوفةِ التنفيذ، لا تبتَأس فأنت صحفي يا صاح وهي مِهنتُك جربت عبرها المبدئية فيها وفشلت فلِمَ لا تَرتَزِق بها كما الأغلبية، فبوسعك جمع ونشر المعلومات عن كل الأحداث الراهنة، والإتجاهات وقضايا الناس وأن تعمل على إعداد روبورطاجات وتقارير إذاعية ونشرها في وسائل الإعلام المختلفة مثل الصحف والتلفزيون والإذاعة والمجلات، فقط يكفيك التنازل ونسيان بعد الأفكار فالوطن للكُل ولستَ المسؤول الوحيد عن إستئصال أورام الفساد التي تنخره، ولك سُلطةٌ قيل أنها الرابعة إن وضفتها في محَلِّها ستنجح وستجدُ العديد من فُرص العمل المريحة ذات الدخل الوافر.
قد تشتغل بسهولة بقسم المبيعات فآلاف الشركات تلهتُ لتعيين صحفيين بها ليقوموا بإعلام الجمهور والتواصل معه لشرح مزايا أو مشكلات إنتاجية وقد تشكلُ دعماً قويا لأقسامِ المبيعات والتسويق، قد تبيع صوتك لقنوات الإعلانات وقد تترقى لتقوم بأعمال شبيهة في المصالح الحكومية أو المؤسسات الكبيرة العامة مثل السكك الحديدية وشركات الطيرانال والهولدينغات التجارية، ولك أن تستمر في الكتابة أيضاً عبر الصحف المحلية وأن تُركز إهتمامك على شؤون المدينة وقُراها فتكتب مثلاً عن المتاجر والمباني الجديدة وعروضها ومشروعات البنية التحتية والأنشطة الإجتماعية والرياضية والثقافية، والتظاهرات الجماهيرية والورشات والتدشينات والندوات ومواعيد الإمتحانات المهنية ومباريات كرة القدم ومهراجانات الموسيقى، وبسالة رجال الوقاية المدنية وضُباط الأمن، ويمكن أيضا أن تشتغل بالنقد الثقافي في مجالات السينما والمسرح والأدب وما يكفيك سوى حفظ بعض النصوص الأدبية وأسماء بعض رواد الفن العالميين، فتفيد وتستقيد أو أن تقوم بعمل باحثٍ في الشؤون الإجتماعية مثل رياضة الصغار ومَشاكل المكفوفين وأمراض اليتامى والتخمة...