في ظرف سنة فقط انتقل رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، من الهجوم إلى الدفاع. أول أمس ظهر في مجلس النواب وهو يخاطب بسطاء المغاربة باللغة التي يفهمونها، وقال لهم: «ردو البال أخوتي المغاربة، ولا تعطوا عقولكم لغيركم. هذه حكومة تتكلم بصراحة معكم، ولا تبيع ولا تشتري في مآسيكم». بدأ رئيس الحكومة الملتحية يشعر بحرارة «العصيدة» التي وضع يده فيها، وبدأ يشعر بالخوف من رد فعل الشارع الذي لم يتقبل إطلاقا فكرة رفع الدعم عن المواد الأساسية، وخاصة «البوطاغاز» والسكر والخبز... الحكومة في ورطة، فهي، من جهة، تقول للناس «إن دعم قنينات الغاز يكلف الميزانية 12 مليار درهم، في حين أن الحكومة لو وزعت على كل المغاربة قنينات غاز مجانا ما كلف ذلك سوى 6 ملايير درهم»، ومن جهة أخرى، تقول إنها لن تقترب من أسعار هذه القنينات الآن حتى لا تنفجر في وجهها، ماذا يعني هذا؟. هذا معناه أن بنكيران تراجع عن عزمه خوض معركة شرسة مع أصحاب المصالح الكبرى، وأنه يسعى الآن للبحث عن حلول وسطى تجنبه المواجهة. الواقع أن الذي يستفيد من 6 مليارات درهم، التي تذهب إلى دعم الغاز غير المخصص للطهي في المنازل، هو الشركات الصناعية الكبرى والفنادق والمقاهي، وكل من يستعمل الغاز للتجارة أو الصناعة، وفي هذا الإطار يجب أن نقرأ جيدا التصريحات الثورية لبعض البورجوازيين الذين يتهمون الحكومة بالسعي إلى رشوة الناخبين من خلال إصلاح صندوق المقاصة، وفي مقدمة هؤلاء عادل الدويري، الذي لا يدافع في الحقيقة عن القدرة الشرائية للفقراء، بل يدافع عن هامش الربح الكبير لأصحاب المصانع والشركات والفنادق الكبرى والمطاعم الراقية، والمقاهي التي أصبحت تجني أرباحا كبيرة من وراء تحرير أسعار أكواب القهوة والشاي والحليب، ففي البيضاء وحدها يوجد 20 ألف مقهى، ويقدر الخبراء وجود أكثر من 150 ألف مقهى على طول خريطة البلاد، وكلها تستعمل الغاز والسكر المدعمين مع أنها تتمتع، في مجملها، بهامش ربح كبير. إذا كنت مقتنعا، سيد بنكيران، بأن ميزانية البلاد لا تتحمل المليارات التي تذهب إلى الأغنياء وإلى الشركات الكبرى المغربية والأجنبية، فعليك أن تتحلى بالجرأة لمواجهة هذه العفاريت والتماسيح الحقيقية، وألا تكتفي بالإشارة إليها من بعيد، كما يقول المغاربة «الصبع من تحت الجلابة».. بلا شك أن إصلاح نظام دعم المواد الأساسية قرار استراتيجي وخطير وحساس، لكن إذا كانت صحة الاقتصاد وعافيته تتطلبان عملية جراحية معقدة من أجل إنقاذ حياته، هل نقدم عليها أم نبقى جالسين قرب المريض نمسح رأسه وندعو له إلى أن يأخذ صاحب الأمانة أمانته. إصلاح صندوق المقاصة معركة سياسية قبل أن تكون اقتصادية، وإذا لم تتحل الحكومة بالشجاعة والحزم والذكاء في التواصل مع المواطنين، فإنها ستخسرها أمام لوبيات المصالح التي لها أذرع في كل مكان، والمشكلة أن هذه اللوبيات التي لا تدافع سوى عن مصالحها الريعية، لن تواجه بنكيران وجها لوجه، بل ستدفع المحرومين والفقراء والمهمشين إلى خوض المعركة بالوكالة عنها، من خلال اللعب على مشاعر الفقراء، وعلى سوء الفهم الحاصل الآن بين الحكومة والرأي العام الذي لا يعرف الوصفة التي تنقذ البلاد من الإفلاس ولا تزيد من أعباء القفة على الفقراء والطبقة الوسطى. هل يعتقد بنكيران أن حكومات اليوسفي وجطو والفاسي لم تكن تعرف إلى أين تذهب أموال الدعم، أو أنها لم تكن لديها حلول لوقف هدر المال العام وذهاب «الشحمة» لظهر المعلوف؟ بالعكس، كلها كانت تعرف الكتف ومن أين تؤكل، لكنها جميعها لم تكن تتوفر على الشجاعة والقوة لمواجهة لوبيات المصالح التي لها سفراء وقناصلة في كل مكان يمثلونها، كما لها انكشارية شرسة تدافع عنها في مواجهة الإصلاح، ولهذا فإننا لا نسمع واحدا من أصحاب الشركات الكبرى والمخابز العصرية وشركات المنتوجات الغازية والفنادق الفخمة والمركبات الصناعية يصرخ دفاعا عن مصالحه في مواجهة رفع الدعم عن المواد الأساسية التي يستعملونها أكثر من كل سكان هذه الجغرافيا المسماة المغرب. إنهم لا يريدون الظهور بوجوههم العارية، إنهم يتركون الآخرين يدافعون عن مصالحهم. هذا ما تقتضيه المعركة، وهذا هو الذكاء، لهذا، نداء «ردوا بالكم» يجب أن يوجه إلى الحكومة قبل غيرها.