خاطبتني صديقتي قائلة: »غريب، عندما تعرفت إليك على الفايسبوك ومن خلال ستاتوهاتك عن الحرية والتحرر وتكسير الطابوهات والتنديد بالتحرش والتمييز، بدوت لي تلك المرأة المتمردة التي لا تخضع لأي من معايير المجتمع. لكني حينما التقيتك وتعرفت إليك عن قرب لم أجد في سلوكك أو مظهرك أيا من تلك المتمردة ». ثم استرسلت صديقتي تتحدث عن نموذج لنساء يسمين أنفسهن « متحررات »، نساء ترى صديقتي أنهن غير محترمات. وأنا أستمع إليها فهمت قصدها، وتخيلت النموذج الذي ترسمه، وبعد أن سألتني بعفوية الأطفال: »لماذا أصبحت النساء سطحيات؟ » أجبتها: ما هناك هو إننا في أحيان كثيرة نخلط ما بين الحرية وقلة الأدب، مثلما نخلط بين الجرأة والفضائحية، وبين الوضوح والوقاحة. هي مفاهيم تفصل بينها شعرة دقيقة اسمها « التربية ». ففي الغرب مثلا، المرأة المتحررة ليست هي تلك التي تفتح فخديها للريح والنزوات، ليست هي التي تستعمل ألفاظا vulgaires في معرض حديثها دون أن تجعل لكل مقام مقال، ولا هي المرأة التي تتعرى لتجعل من جسدها دمية للاستمناء. المرأة المتحررة عند الغرب هي تلك التي تفرض وجودها، وتحث الآخر (رجلا أم أنثى) على احترامها، لمعرفتها وعملها وإنسانيتها ومواقفها ومبادئها. لكنك الآن مثلما تجد أناسا مبدئيين ذوي قناعات حقيقية، قد تختلف أو تتفق معها، ومواقف واختيارات يدافعون عنها ويتحملون مسؤوليتهم فيها، تجد كذلك أشخاصا « مستهلكي قيم »، يتعاملون معها بمنطق الموضة، موضة التحرر، موضة الإلحاد، موضة التمرد، موضة التصوف، موضة الإسلام العصري… سؤال صديقتي ذكرني بحديث مماثل مع صديقتي المناضلة النسائية لطيفة البوحسيني وصديقة أخرى، حيث تناقشنا عن نموذج المرأة التي تعي قيمتها كجوهر إنساني أولا، ثم كامرأة ثانيا، امرأة تفرض احترامها من خلال الأفكار والسلوك الإنساني والحضاري، تؤثر في محيطها إيجابيا، تؤمن بحريتها واستقلاليتها، وتحرص على بناء علاقاتها الاجتماعية على أساس الحوار بعيدا عن الصدامية، لأنها تعي أن الصدامية تولد العنف، لكنها لا تسمح بأن تُستَعمَل أو تُشيّء أو تُرَخّص.. هنا يجب أن نسطر على كلمة الوعي، فإذا كان سارتر قد تساءل « ما الأسبق الوعي أم الوجود؟ »، ففي حديث كهذا سأسمح لنفسي وأجزم بأن الوعي يسبق المواقف والمبادئ، وفي غياب لهذا المعطى قد نجد شابة تلبس الشورت والديكولتي حينما تبتعد عن منزل أبويها، فقط لأنهما كانا يجبرانها على ارتداء الحجاب، كنوع من رد الفعل، الانتقام وليس اختيارا جماليا، أو نجد امرأة تحرر جسدها في سوق النزوات، لأنها تعتبر تلك طريقة لتتبث تفوقها على الرجل، لتحصر الأسطورة المؤسسة للتمييز في الجنس، تماما كما يفعل الذكوريون، فتجعل من الفعل الجنسي وسيلة للمبارزة وليس لتكليل الرغبة بالمتعة.. أو أخرى تدخن في الشارع، ليس لأنها تؤمن بحقها في ذلك، بل لأنها تريد أن تعطي انطباع بأنها تلك المتأثرة بالغرب والحرية.. بالمقابل، هناك ما أومن به، وتجسده الكثير من نساء وطني الحرات المتحررات والمحترمات، وهو النموذج الذي دافع عنه كمال أتاتورك، ودعى إليه قاسم أمين ونادت به هدى شعراوي ونوال السعداوي وسيمون ديبوفوار وأخريات، نموذج امرأة إنسانة، امرأة واقعية حرة ومعنية بقضايا محيطها، وفاعلة فيه! ليست المرأة فقط، إنها مجتمعاتنا العربية، جلها، أصبحت تستهلك قشور الحداثة والحرية وحقوق الإنسان وتفضل سهولة النماذج الفاشيون على القناعات المؤُسّسة على الوعي.